ديوان ” غضب ” للشاعر اليركاوي مفيد قويقس – نفحات من أنفاس الشعر المخملي الراقي – بقلم : شاكر فريد حسن 

من دواعي الغبطة والفرح أن أتلقى من الصديق الشاعر اليركاوي الجليلي مفيد قويقس مشكوراً ديوانه الذي يحمل عنوان ” الغضب ” الصادر العام الماضي ، وتنتمي قصائده للشعر الموزون المقفى ، الشعر العمودي الكلاسيكي .

ومفيد قويقس من الأصوات الشعرية الوطنية الملتزمة الصادقة الجميلة ، وهو شاعر قومي وأممي بامتياز ، يتدفق حباً ويقطر عشقاً وانتماءً لوطنه وشعبه وللانسانية جمعاء ، وكنا عرفناه منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي من خلال قصائده التي نشرها في أدبيات الحزب الشيوعي ، وفي ديوانه الشعري الأول ” على ضفاف جرحي نما الزيتون والغار ” الصادر في أيلول العام ١٩٨٠، وانقطع عن الكتابة والنشر لأسباب خاصة وظروف قاهرة ، وعاد للمشهد الشعري والساحة الأدبية بكل قوة ودافعية .

ويحتوي ديوان ” غضب ” على قصائد كتبت على فترات زمنية ، وصدرت على ضوء أحداث ومناسبات معينة ، وقدم للديوان الشاعر سامي مهنا مشيراً الى أن مفيد قويقس ( أبو عائد) :  ” كان ولا يزال من الأشخاص الذين ضحوا وناضلوا بايمان واصرار عنيدين يتجليان بقصائده وبصوته المدوي فوق المنابر منذ عقود طويلة ، ولا يترك الشك بعد أي قصيدة أو حتى بيت شعر يكتبه انه أحد الشعراء المبدعين المتمكنين العارفين بالاصول والجذور العميقة للشعر العربي الأصيل ، وهو أحد فرسانه أصالة وتجديداً ، ورغم تمسكه المقصود بالشعر العربي الكلاسيكي الذي يجيده كأحد جهابذته القدامى ، الا أنه أثبت تمكنه العالي بقصيدة التفعيلة بصيغتها الحداثية ، بل استطاع أن يكون حداثياً بامتياز .

ديوان ” الغضب ” لمفيد قويقس هو نفحات معطرة من أنفاس الشعر الوجداني العاطفي التأملي الرومانسي الوطني والسياسي والرثائي والمناسباتي العذب الرقراق الصافي الراقي الجميل والرائع المدهش ، شكلاً ومضموناً ، والمتسم برهافة الاحساس والشعور القومي الصادق ، والأناقة اللغوية الجمالية .

وهي نصوص شعرية تصور الواقع وتتناول الأوضاع السياسية والاجتماعية في العالم العربي ، من عنف وقتل وحروب وصراعات طائفية ونزاعات داخلية وأهلية ، وتتعرض للجوانب الاجتماعية ، وتغير المفاهيم والقيم والمقاييس الاجتماعية ، وتركز على الاخلاقيات الانسانية والقيم الوطنية ، فضلاً عن قصائد الحب والوله والعشق والغرام ، وقصائد الرثاء لعدد من من الشخصيات والسياسية والتاريخية ، التي ودعت الحياة وغابت عن الدنيا .

وهو يقسم قصائد ديوانه لأبواب سته ، وهي : وطنيات ، غزليات ، الغضب ، متفرقات ، مراثي ، الخماسية .

ويتجلى في قصائد الديوان التزام شاعرنا مفيد قويقس بقضايا وهموم شعبه ووطنه وأمته ، باحساس صادق وأمانة ، دون تصنع أو تكلف .

يفتتح مفيد قويقس ديوانه بقصيدة ” أنا من دمشق ومن حلب ” ، ويعبر فيها عن مشاعر الألم  والحزن والأسى على ما أصاب الشام من كوارث  وويلات ومصائب ، فيقول بصوت أنيني وحنيني : 

يا شام يا خيط جرحي يا مدى وجعي 

                يا بيت أهلي بمن ظلوا ومن ذهبوا 

لم يبق ذاكرة مني ومن زمني 

               الا وفيها الحزن والكرب 

بكل زاوية يا شام لي جهة 

                 نحو الحياة ولي أم بها وأب 

نحو الأحبة يبقى النبض ملتفتاً 

                  ” وكلما ابتعدوا عني قد اقتربوا “ 

هل لي بدفق من العاصي ومن بردى 

                    فمن شفت غلة في محنة قرب 

فمن دمشق أرى وجهي ومن حلب 

                  ما كنت بينهما يا شام أغترب 

ثم ينتقل في قصيدته الثانية الى بلاد الرافدين ، ووطن النخيل ، ودجلة والفرات ، العراق الزاهي بتاريخه وحضارته ، فيعبر عن مدى عشقه لهذا البلد وما حل به من دمار وخراب واحتراب وأوجاع والأم نفسية ، وما خلفته الحروب من شهداء وجرحى وأنهار دماء ، وهو يعيش المأساة العراقية بكل خلجة من خلجات روحه : 

أعيشك يا عراق بكل حزني 

                وينثرني اليك الاشتياق 

كأن الشوق سرج أو ركاب 

                وتحملني للقياك العتاق 

يؤرخني عراقياً زماني 

               وينسبني لكل دم يراق

كدجلة والفرات يسيل جرحي 

              وبين جوانحي لهما رفاق 

وفي قصيدته ” فلسطيني ” نجده يخاطب وطنه ، معتزاً بهويته وانتمائه الفلسطيني ، ويتغنى ببلاده بكل رشاقة وعفوية وشفافية : 

وطني افتقدتك وافتقدت مساعدا 

                 ومضى الزمان ولم أجدني عائدا 

أضحى انتظاري عبرة وهوية 

                بتعاقب الأجيال تبقى الشاهدا 

تتوارث الأجيال شوق رجوعها 

                 كالموج يتلو بعضه متصاعدا 

سبعون عامًا قد حضنتك موطنًا 

                 بالصحو وجهًا بالمنام وسائدا 

أفنيت عمري بين أحياء الأسى 

                  لم أمتلك بين الصفوف مقاعدا

وطني لتعذر قابعًا في سجنه 

                رغم المنية عاش دومًا صامدا 

وهو يبعث بسلامه وتحياته الى اخوته من أبناء العروبة والهمة القوية واباء النفس ، الذين يرى فيهم سلطان ” يشمخ عزة يخطط في ساحة الوغى وينازل ” ، فيناديهم قائلاً : 

ألا يا ثرى الجولان إن جراحنا 

             لواحدة شرقية تتغازل 

كلانا لأنساب العروبة ننتمي 

           تجمعنا يوم النداء القلاقل

الا يا ثرى الجولان يا معقل الوفا

          بلغت سموًا ترتجيه المعاقل 

أما قصيدته ” يا كرملي ” فتتجسد فيها كل معاني الحب والشوق ، وتنبض بالاحساس الصادق لأحرار الكرمل ، وهو يتكحل بسحره ، ويعلن بأنه سيحيا عاشقاً يزف روحه في نسائمه : 

يا كرمل الأحرار يا وطنًا به 

                 تنمو جذور كرامة المتأصل 

لغةً وعادات وعلمًا وافرًا 

                  وتمسكًا بالأرض والحق الجلي 

قد قلت يا عيني لتجتني القذى 

                  فتأملي في كرملي وتكحلي 

سحرًا وعاطفةً ولوحة شاعر 

                  ومنارة للشمس أطيب منزل 

ويضج مفيد قويقس ويتفجر غضباً وثورة في قصيدته ” غضب ” التي تحمل عنوان ديوانه ، ويطلق صرخته المجلجلة لتهز الأرض ، رفضًا لواقع القهر والذل والتمزق الذي يعيش في جنباته شعبنا ، فيقول : 

لله درك من شعب أقام على 

                عهد الاباء وجاب الأرض مغتربا

قد سرت بالعزة العصماء مقتحمًا

                هول المسالك والأعتام والشجبا 

جعلت من عيشك من ساح الشهادة ان 

              عز البقاء لتبقى صامدًا نجبا 

تبقى وحقك يبقى قاطعًا ابدًا 

       كالسيف في حومة الميدان ان ضربا

الحق اكبر فاطلقها مجلجلجلة 

      على الجهات تهز الأرض والسحبا  

وتتبدى روحه الوطنية والقومية العميقة ، روح الاعزاز والفخر والمحبة بحياة العزة والكرامة والشهامة العربية الأصيلة في قصيدته ” صرخات ” ، حيث يقول : 

اني عشقتك عزة عربيةً 

               متوغل في عشقها الوجدان 

اني عشقتك آه لو تدرين كم 

                بالعشق قاسى عاشق ولهان 

وطن المآسي والأسى امسيت يا 

               وطني فيا وطني هل اطمئنان 

وطن المآسي والمآسي جمة 

                 سكنتك يا وطني ولا استئذان 

ونزعة مفيد قويقس الانسانية ونظرته الأممية ورؤيته الطبقية واضحة في قصيدته ” أممي ” فنراه يحمل الهم الانساني العام وعذابات المسحوقين والكادحين وفقراء الوطن والارض ، وينحاز لهم ، وينتصر لقضاياهم : 

أنا الفصيل الذي أمسى على مضض 

                 ولست أحمل غير الجرح والألم 

ولست أملك بالدنيا سوى غضبي 

               والحب والجوع والأشعار والقيم 

سجل أحب شعوب الأرض قاطبة 

              لا فرق عندي بين العرب والعجم 

اذا تألم في أفريقيا بلد 

            في آسيا مثله قد صحت واألمي 

يا راية خفقت للحب فانتفضي 

    جان تطلبي الدم ما استكثرت فيك دمي 

وفي غزلياته نجده شاعراً محباً ورقيقاً يغمر قلبه العشق ، وغزله ناعم ودافىء وشفاف خالياً من الابتذال ، فيتدفق عميقاً في النفس ، ويلامس قلوبنا ويدغدغ مشاعرنا وأحاسيسنا ، فلنسمعه يقول في قصيدته المرهفة ” مقام الهوى ” الطافحة بالتعابير الحسية والشعورية : 

لحن الهوى بدمي مقام 

               وهواك من لحني مقام 

نغم يسير معي ويغشى 

              مستطاعي الانسجام 

بك ملتقى عيدي ، بدونك 

              كل أيامي صيام 

موج هواك ببحر عمري 

              نشوتي فيها ارتطام 

ان غاب وجهك عن نهاري 

             سوف يغشاني الظلام 

ومفيد قويقس يرى في الحب أشواكًا ، وكم هو صادق بقوله : ” ان الحب برقته يجثو على اضلاعنا جبلا / والعشق أشواك وما من عاشق لمراده وصلا ” .

وفي مراثيه نرى أنه صادق وجياش العاطفة ، وحزنه شديد ، ويشعر بفجيعة الفقدان ، وقد رثى عدداً من الأحبة ورجالات الأدب والسياسة والوطنية ، منهم سلطان الاطرش قائد الثورة العربية الكبرى ، وشاعر الوطن والرفض والمقاومة سميح القاسم ، والشاعر المناضل فوزي أبو بكر من قرية سالم ، وسلمان ناطور ، الاديب الكبير المعلم والمرجع لتاريخ مأساتنا ، تاركاً وراءه الابجدبة الثائرة تبكي – على حد تعبيره .

من قوله في مرثيته لسلطان باشا الاطرش : 

تبكي العروبة والأوطان قد حملت 

            جرحاً وبعدك جرح العرب أوطان 

ماذا أقول وشعري بح في زمن 

                  قد صار يملكه بوم وغربان 

وقال في رثاء سميح : 

كيف لي بالرثاء يا من تسامى 

              بالقوافي وصار شمس الملاحم 

كيف أرثي خريطة الأهل عيشًا 

                        ومماتًا  وغربة  ومعالم 

وقال في ذكرى فوزي أبو بكر : 

فكم من راحل نبكيه أمست 

               تفاخر في مزاياه المقابر 

فما فوزي أبي بكر توارى 

               وما أشعاره عنا تهاجر 

فكل قصيدة ألقى تغنت 

                بأحرفها المحابر والمنابر 

وأبدع في رثاء المثقف والمفكر والانسان سلمان ناطور .. فقال :

دمع اليراع على أعطافه مطر 

          بجذوة الحرف كان الفكر يسقينا 

يا مرجع الشرق يا ناطور يا وطنًا 

              وما نسينا كتابًا ليس ينسينا 

أبا اياس ونال الموت منك يدًا

                ولم ينل منك تخليدًا وتبيينا 

وفي قصيدة ” زهرة الشعراء ” التي يهديها للشاعرة العروضية جميلة الحروف مقبولة عبد الحليم في يوم تكريمها ، فنتمتع ونترنم بالاسلوب السلس والقوافي المنسابة وعبق الكلام : 

من كفر مندا أشرقت مقبولة 

                 شمس القصيدة في مدى العرباء 

فمن المحيط الى الخليج حروفها 

                    ألقت على الآداب خير بهاء 

مقبولة عربية شرقية 

                  مصقولة من موطن وإباء 

عبق قوافيها فلا عجبًا إذا 

                  ناديتها يا زهرة الشعراء 

مقبولة تكريمها تكريمنا 

                  للضاد من ألف لحرف الياء 

فأمامها يقف القريض وينحني 

                       ليلفها بعباءة الخنساء 

ولا ينسى مفيدنا المرأة المشردة والمضطهدة في يوم النساء العالمي ، ويتساءل : أهديك ماذا ؟! 

فيقول : 

أهديك ماذا بهذا العيد يا وجعي ؟ 

                 والعيد إلا بنار الحزن لم يأت 

أهديك ماذا ؟ وما عندي سوى غضبي 

                  وثورتي وقصيد الرفض من كبت 

تتصف القصيدة القوقسية بالرونق التعبيري والتصويري الخلاب البديع ، وروعة الاداء والصياغات ، وثراء المعاني والدلالات ، ورشاقة الألفاظ ، وجمال الوصف ، وصدق المعاني والمشاعر ، والاشراق الشعري المصحوب بالتخييل ، والعاطفة الشاملة النابعة من موهبة نوعية ملهمة ، ومتانة السبك ، وحلاوة الطعم والمذاق ، وخاصة في وطنياته وغزلياته ، فضلًا عن الانسيابية المتدفقة كالماء في النهر ، والصور الشعرية الجمالية التي تعكس قدراته اللغوية ، وامتلاكه لروح الشعر ، ومن يقرأ نصوص الديوان يندهش ويفتتن ، ويحس بالمتعة الحسية والوجدانية الحقيقية ، ويترنم على ايقاعاتها الموسيقية ، حيث تنساب الالفاظ والمعاني والكلمات انسياباً طلياً ، وتتدفق بسلاسة وتصوير تعبيري دافىء أسر وأخاذ ، وأكاد أجزم ان ديوان ” غضب ” لمفيد قويقس من أجمل ما قرأت في السنوات الأخيرة .

وفي الاجمال ، مفيد قويقس شاعر عذب رشيق ورقيق في عمقه وصدقه ، وهو يكتب قصيدته باحساسه ونبض قلبه ، وصفاء روحه ، وبانفعال عاطفي وجداني كاللهب ، ويتميز بالتدفق والانسياب ، والتعبير بتلقائية وعفوية وشفافية نادرة خاصة ، عما يجيش في صدره ، ونستشف في قصانده أن لغته ثرية بالصور التي تتمازج فيها الألوان والأضواء ، فهو رسام بلغته ، وجياش بعاطفته واحساسه ، وأكثر ما يعجبك في شعره رقة وطلاوة الألفاظ ، وسهولة التعابير وعمقها وأبعادها ، وايقاعاتها التي يعزفها على أوتار القلب والروح .

فألف فألف تحية لشاعرنا المبدع الراقي ، صاحب القلم الذهبي والكلمة المخملية ، والنغم العذب والجرس الموسيقي الهفهاف مفيد قويقس ، وفعلًا أجاد وأبدع في التعبير عن فيض المشاعر ، واحسن البوح والنبض والقول ، وجاءت  قصائد ديوانه كأنها لوحات ربيعية وفنية بريشة فنان ماهر وبارع ، مع تمنياتي له بدوام العطاء والابداع .