رواية ” البحث عن الزمن المفقود” لبروست /غيّرتْ تأريخ الأدب العالمي- عبدالجبارنوري

رواية ” البحث عن الزمن الضائع ” In Search Of Lost Time ” للرئي والأديب الفرنسي” مارسيل بروست ” 1871-1922Marcel Proust  الأحتفال بمئوية كتاب ” البحث عن الزمن المفقود ” لكونه حدث أستثنائي ، ولأنهُ أحدث ثورة في عالم الكتابة ، ولم تنساهُ وزارة الثقافة الفرنسية ، حين أجرت للكاتب وروايته أحتفالاً مهيبا في نهاية ديسمبر 2017 ، وهو ديدن الفرنسيين في تقديس الأديب ، ويتذكر العالم عندما سُجن الأديب الفرنسي (البير كامو ) في عهد ديغول حيث وبخ الشرطة الفرنسية ، قائلاً : ماذا فعلتم ؟ لقد وضعتم فرنسا في السجن !؟ تصوّر عزيزي القاريء أي مكانة للأديب في العالم ! ، والأبعد من هذا أن جميع رؤساء العالم عند أجتماعاتهم يحضرون معهم وزراء الدفاع أو الداخلية  ، ما عدا الرؤساء الفرنسيين في أجتماعاتهم ومؤتمراتهم يحضرون معهم وزير الثقافة ، ويعتبر مارسيل بروست الأب الروحي للمؤسيين للرواية الحديثة في القرن العشرين .

ونشر الأديب الفرنسي ” مارسيل بروست ” روايتهُ ( البحث عن الزمن الضائع ) في 1913 -1927 في سبع مجلدات وبمجموع أربعة آلاف صفحة وضمت مليون ونصف مليون كلمة ، وهي الرواية التي دخلت موسوعة غيتس للأرقام القياسية ، وملخص فكرة الرواية تبدأ من منزل ( سوان ) وسوان هو شخص يهودي عاش في المجتمع الفرنسي يذكره مارسيل في هذا الجزء من الرواية  وكانت البداية سنة 1913 ، والجزأ الثاني يحمل عنوان ( ربيع الفتيات ) 1914، والثالث يحمل عنوان ( جانب من منزل غرامنت ) 1921 ، ولقد جازف مارسيل بروست بمستقبله وكل ثروته في سبيل نشرها لما فيها من الخروج عن المألوف الروائي السائد وبتشجيع من الفيلسوف الفرنسي ( أندري جيد ) ، فواصل بدأب وشغف وتواصل ومتابعة ومثابرة عنيدة حتى الوصول ألى خط النهاية عبر تلك الأرهاصات المشتعلة أوارها بين الكاتب ودنياه ، ويبدو أن الحدس الذي حرك هاجسهُ بأن الرواية ستكون فناً عالميا  يهدف ألى أن يسيطر على الفنون الأدبية ويفوز بأحتكار ميزاتها الأساسية وأدواتها التعبيرية ، وما نراهُ اليوم من القفزات الهائلة التي تطالعنا في الرواية بشكلٍ مستمر على خارطة الأدب العالمي وبلغاته الحيّة المنتشرة ( كتاب رواية البحث عن الزمن الضائع – ترجمة ألياس بدوي – دمشق 1986 )

أسلوب بروست الروائي /

-أعتمد أسلوباً مغايراً تماماً في عالم الكتابة الروائية ، أستطاع أن يدحض مقولة البساطة تصنع الجمال ، أثبت أن التعقيد في الكتابة أيضا يصنع الجمال ، بأبتعاده عن الزخرفة في الكتابة بل أتجه نحو أستحضار العالم من منظور خاص في جعل الذكريات عندهُ تغدو هي الحياة  ، وربما أن بروست عاصر زمنين ، نهاية القرن 19 وبداية القرن 20 أي عاش العصرين ( الكلاسيكي والحديث ) ففي روايته الضخمة الملحمية زاوج بين زمنين بلغة شعرية مفعمة بالتفاصيل الدقيقة من صميم الواقع ، فعبّر عن المشاعر والخلجات الأنسانية الحادة القوية ، وتمكن من ترويض الزمن المنفلت بتجميد حركة المستقبل باثاً الروح في الذكريات التي جعلها من ضمن أحداث الحاضر ، فالرواية تدور حول أصرار الكاتب على عامل الزمن المكروه عند الأنسان ، لكنهُ يصرْ في جميع أجزاء الرواية على أستحضار ( الزمن المستعاد ) ، ربما شعور بروست بالعزلة والعتمة والصمت التي عايشها في صباه تتصور لهُ ماردا مستلباً يحصي عليه ساعات عمره وأيامه ، فأصبح هذا الحدس فألاً نحساً في مصادفة محزنة أن يغيّبْ الموت مبكراً هذه الأيقونة الأدبية الأسطورة بعمر الخمسين .

– ويتفق أغلب النقاد أن الوصف والدقة والتفاصيل تمثل الخطوط العريضة في أسلوب بروست في روايته ، حيث برع في رسم الشخصيات بآلة كامرة المتلقي في تصوير أعماق الذات البشرية الخاصة بالوعي ، فأخرجها شخصيات واقعية من خلال شخوصٍ يعرفهم ومتعايش معهم ، وهنا عند القراءة الدقيقة والمتأملة الصبورة للقاريء يتلمس عندها ( الأنا الضائعة ) التي هي من أهم مميزات كل عمل أدبي ، في ترديد الضمير المتكلم في جميع فصول الرواية بأسم الراوي الذي هو بروست نفسهُ ، فهو يقدس الماضي ويدافع عنهُ بضراوة —- في أستعادة الزمن الذي يمضي ويحرص بالتمسك بالماضي لأنهُ كل شيءٍ نملكهُ ، ولن يتم هذا التمسك ألا عبر طريقين هما : الذاكرة اللآارادية والأعمال الفنية الأرادية ، هنا نجح بروست وببراعة في أثبات نظريته في البحث عن الزمن الضائع في كتابة هذه الرواية الفنية الأدبية الرائعة التي تحمل الذاكرة اللآأرادية في المعطيات الفلسفية لما بين سطور الرواية .

– وعندالتدقيق في قراءة مفردات الرواية في سفرها الكبير ، يتوغّلْ مارسيل بروست في مركز الحدث الذي يتماثل مع قلب الأعصار حينما يصغي القاريء ويتتبع البطل وهو يمرُ أثناء العمل بالكثير من العناصر الخارجية التي كانت سرعان ما أن تتلاحق وتتآلف مع ذاتهِ وتصبح جزءاً متمماً من شخصيتهِ الأدبية ، وربما تشمل سايكولوجية العلاقات العائلية والعلاقات الجنسية وروابطهِ مع الفن لاسيما الموسيقى والرسم والكتابة القصصية مع نظرة سخرية بتهكم للمجتمع الفرنسي المتحذلق في ذلك الزمن الأنعطافي من تأريخ فرنسا ، ويمكن أعتبار الرواية : رواية دائرية ( بيكارية )* من ناحية بنيتها ، وعلى كل حال تعتبر الرواية عملاً فلسفياً في المقام الأول ، لآن الجانب الفكري الفلسفي يطغي على جانبها الفني .

– وكان آراء النقاد بعد زمنه بقليل : أن الأهتمام الظواهري في عمل بروست أنما يكمن في وصولهِ ألى تحليل معمّق لوعي أستفزازي مرهف ألى الحدود القصوى ، لاسيما أن ثمة هاجس داخل هذا التحليل هو أمكانية لبروز نوع من البعد المثالي لمجالات الوعي والمشاعر المخملية والحادة الداخلية لهذا الكائن البشري والتي تجسمها أشخاص الرواية المتمثلة بألفي ممثل وهو رقمٌ غير مسبوق في عالم الروايات ألا القليل جداً ، فالأرث الأدبي الذي خلفهُ بروست في روايته ” البحث عن الزمن الضائع ” هو مشاركة المتلقي الوجدانية في أمتحان موضوع الوعي والزمن ، حتى لا يقع القاريء في دوامة الصح والخطأ ، يقدم بروست نموذج للأجابة الصحيحة { الوعي والزمن في الرواية شريكين لا أنفصال بينهما ، فالزمن هو أساس الوعي والوعي أساس الزمن .

*البيكاريا : وهو الأسلوب الذي تجلى به الأدب الأسباني في رواية ” البيكارو ” فيه السرد يعتمد على التشرد والضياع والبؤس والمعاناة لبطل الرواية الذي يفشل لمعاكسة تيار الزمن لهُ فيضطر ألى التكييف مع دنياه ويتعايش مع الظروف ، وهذا النمط أنتشر في أسبانيا في القرن 19 وبتعبيرٍ أدق { هو جنس أدبي يتغيّر فيه الحدث بتغير الزمان والمكان } ….

كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد

كُتب البحث الأدبي في 4- 1- 2018