قصيدة الشاعر زاحم جهاد ( ترنيمة من الشتات ) وقصيدة السياب ( انشودة المطر ) في محنة العراق  – جمعة عبدالله 

هناك تجاذب وجداني يخفق في همومه وهواجسه , بين القصيدتين , رغم ان لكل منهما اسلوبية شعرية خاصة ومختلفة  , ورغم لكل منهما لهما  شحنات من الاداء الفني والتعبيري مختلف , ولكل منهما ادواته وتقنياته الفنية المختلفة , ولكل منهما رؤية وتناول مختلف في ابداعه , لكنهما يلتقيان في الهم العراقي ومحنته البارزة , ولكل منهما براعم في التألق الابداعي والفني , ويلتقيان في تناول المحن والمعاناة التي انهالت على العراق كالمطر الغزير , في تجرع هواجس المؤلمة , في الشتات والغربة ,  والفقر والحنين الى الوطن , في المعاناة الاليمة , التي ادت الى التأزم الوجداني , التي اثرت بشكل كبير على مطارح الروح , في ثيماتها الثقيلة والمرهقة والقاهرة . لذا فأن اللغة الانزياحية في قصيدة الشاعر زاحم جهاد مطر ( ترنيمات من الشتات ) تأثرت في اسلوبية قصيدة الراحل الكبير السياب . في ( انشودة المطر ) . التي تعتبر ترجمة حقيقية لواقع العراق آنذاك . وهو يطرق ابواب محنة الغربة والمرض والفقر , والحنين الى الوطن ومحنته المتصابية , وقصيدة ( انشودة المطر ) غنية عن التعريف لشهرتها الواسعة , المشبعة بالهواجس الانسانية والذاتية , وكان السياب يمر بأصعب ظرف حياتي قاهر , يدمي  القلب في شجونه , في معاناته الذاتية القاسية . والتي تقمصت في  معاناة ومحنة العراق في شحناتها الايحائية والرمزية , والوطن يئن تحت عبء الظروف القاهرة والمرهقة والثقيلة  , وجسدها السياب في اسلوبيته الشعرية الفذة ومتميزة في خصوصياتها , في الرؤية والدلالات الرمزية والايحائية . بحيث تقف وراء كل جملة شعرية , صور تعبيرية ورمزية , واسعة الافق والمدى , في مدولاتها التي تناولت الجرح العراقي النازف آنذاك . وجرح النازف الحالي ,  في قصيدة الشاعر زاحم ( ترنيمات من الشتات )  في نزيفه المستمر دون توقف , لذا فأن هذه القصيدة تقمصت اسلوبية قصيدة السياب ( انشودة المطر ) ولكن في اسلوب فني مختلف , وفي رؤية ابداعية في مخيلتها الشعرية , تتناول في الايجاء والمغزى لعراق اليوم , بينما قصيدة السياب تتناول عراق الامس . والقاسم المشترك بينهما , هي محنة العراق ورمزية الوطن في القصيدتين , في زخم شحناتهما الملتهبة والمتشظية والمنشطرة  . في  الغربة والشتات , سواء داخل الوطن او في خارجه , في ركائز الواقع المرير . لنتلمس شحنات الملتهبة في كلا القصيدتين :
× مدخل قصيدة السياب ( انشودة المطر )  , بدأت بتناول  بالجانب الرومانسي الجميل , وهي ترمز الى العراق قبل الحبيبة ( عيناك عابتا نخيل ساعة السحر ) هذا الافق في تذكر العراق في مخيلته الشعرية المبدعة , بهذا الوصف والتصوير المدهش . وهو يتذكر عيون الحبيبة او ( العراق ) بين غابتا النخيل , وساعة السحر , بهذه الدهشة التصويرية .. قابله بشكل مختلف مدخل قصيدة زاحم جهاد ( ترنيمات من الشتات ) . في ( الشمس تميل منهكة الى المغيب ) ورمزية الشمس تشير الى ( العراق ) المرهق بالتعب والوهن والضعف , الذي يدفع به الى المغيب , لتكتمل ضباب الرؤية وفقدان البصر . وكما حملت القصيدتان , من براعة في الوصف والتصوير , في مجسداتها الرمزية .
× قصيدة السياب :

كأنما تنبض في غوريهما ، النّجومْ …

وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ

كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء ،

× قصيدة زاحم :

الضِّياءُ والظِّلالُ تُغادِرُ الدُّروبَ

واللّيْلُ يَفْتَحُ أبْوابَ الظَّلامِ

هذه حالة الاختلال في التوازن الحياتي , لسفينة العراق , تبحر في الضباب وضياع الرؤية , مما تجعل القلب وهواجسه في حالة مؤلمة من الاسى , بأن الوطن يدنو الى رحيل الشمس ويطرق ابواب الظلام , لتبدأ رحلة المعاناة الى المجهول

 × قصيدة السياب 

كأنما تنبض في غوريهما ، النّجومْ …

وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ

× قصيدة زاحم :

يَهْدأُ ضَّجيجُ الأمْواجِ المُتْعَبَةِ

ويَسودُ الصَّمْت والسُّكونُ

وتَتَهامَسُ الأشْياءُ بِلُغَةِ الهَوامِ

هذه رحلة المهاجر وهو يبتعد عن الوطن الام  , ليشعر بحالة الاختناق , بأنه يبحر في الامواج البحر المتلاطمة الى المجهول , في صمت وسكون , سوى توهم الاشياء التي تتنازع روحه ووجدانه , في ضباب الاسى

× قصيدة السياب : 

كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء ،

دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف ،

× قصيدة زاحم :

القَمَرُ يَطُّل على أِسْتِحْياءٍ

ثُمَّ سُرْعانَ ما يَخْتَفي خَلْفَ الضَّبابِ

آهٍ مِنْ هذا اللَّيْلُ البَهيمُ كأنّهُ الخُسوفُ

انها رحلة المعاناة في ليل بهيم مظلم لا افق له , سوى القمر يختفي وراء الغيوم , لتدخل الوحشة والكسوف , ترتعش في البرد والصقيع , لتنهش روحة , وتصلبه على قارعة مظلمة , لكي يستفيق ارتعاشة الوجدان 

× قصيدة السياب : 

ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء

كنشوة الطفل إِذا خاف من القمر !

كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ

وقطرةً فقطرةً تذوب في المطر …

× قصيدة زاحم :

يُرْعُشِني البَرْدُ والصَّقيعُ

فَأتَكَوَّرُ على ذاتي وأنْكَبُّ على ذِكْرَياتي

والذِكْرَياتُ تَنْكأُ قَرْحَ الفُؤادِ بِالوَجيعِ

هذه فواجع الغربة تنكأ الجراح بالقراح , التي تنهش الوجدان , وتجعل الغريب عن الوطن , يتجرع كأس الذكريات والحنين , لتذوب القلب , مثلما يذوب القمر تحت سحاب الغيوم  والليل , ليحترق ويذوب في نارها قطرة قطرة , في وحشة مظلمة 

× قصيدة السياب : 

كأنِّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام :

بأنَّ أمّه – التي أفاق منذ عامْ

فلم يجدها ، ثمَّ حين لجّ في السؤال

قالوا له : “بعد غدٍ تعودْ .. “

لا بدَّ أن تعودْ

وإِنْ تهامس الرفاق أنهَّا هناكْ

في جانب التلّ تنام نومة اللّحودْ

× قصيدة زاحم :

أيْنَ مِنِّي حُضْنُ أُمِّي وصَدْرُ أَبي

أيْنَ مِنِّي يَدُ الحَبِيبِ وكَتْفُ الصَّديقِ

ماذا لَوْ أِنْقَطَعَ بِيَ الأمَلُ وأِنْتَهى بِيَ الأجَلُ

تأزم في المعاناة , كأنه يفقد الامل , بأنه لن يعود الى حضن أمه ( العراق )بأنه فقدها . كالطفل الذي يهذي في البكاء ليساءل عن أمه الغائبة  , ليعود الى حضنها وحضن الاهل , او انه انقطع وصل الامل في الالتقاء في احضان الوطن , وهل يعود يوماً , ولكن تهامس الرفاق , بأنها هناك لاتعود , انها في نومة اللحود

× قصيدة السياب : 

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع ؟

بلا انتهاء – كالدَّم المراق ، كالجياع ،

كالحبّ ، كالأطفال ، كالموتى – هو المطر !

     ××

أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر

وأسمع القرى تئنّ ، والمهاجرين

يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع ،

عواصف الخليج ، والرعود ، منشدين :

” مطر …

مطر …

مطر …

وفي العراق جوعْ

وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ

لتشبع الغربان والجراد

وتطحن الشّوان والحجر

رحىً تدور في الحقول … حولها بشرْ

× قصيدة زاحم :

مَنْ يَبْحَثُ عَنْ أِسْمِيَ الضّائِعُ في الأسْفارِ

مَنْ يَجْمَعُ حُروفيَ المَنْسِيَّة في ذاكِرِةِ الشّتاتِ

وأوْراقي المُتناثِرِةِ في رُفوفِ الضياعِ

كَأيام عُمْري التي تلَاشَتْ على أرْصِفَةِ الأِنْتِظارِ

تراكم المعاناة والمحن على العراق , سواء كانت قديماً او حديثاً , فأنها تحرث بعذاب الغريب وتنهشه لتضعه على قارعة الانتطار , او على قارعة الارصفة , في وطن ينزلق الى المصير المجهول . انها حيرة انسانية ووطنية , بأن تذوب في  قهر الشوق والحنين ( نوستولوجيا ) من المعاناة , من الذين اغتصبوا الوطن وكسروا اضلاعه . كسروا شيمة قامة  الوطن , ليدلف او ينزلق الى قاع  الحضيض . ولكن من ارتكب هذه الجرائم الشنيعة في هدم الوطن ؟ من وضع الوطن على شواية النار ليحترق ويتفحم ؟ . منْ اغتصب الوطن وكمم حياته بالاختناق ؟ انهم الذئاب والغربان والجراد الوحشي , الذين سرقوا حقول يبادر العراق , عراق الخير , عراق الجوع والحرمان والظلم , عراق الفساد الذي نهب وسرق خبز الفقير . عراق السحت الحرام . الجنة للفاسدين , والجحيم للعبيد والمسحوقين والجياع , الذين يطحنون بيادر الحقول , لتتحول ذهباً ودولاراً , وللعبيد الانين والحزن

× قصيدة السياب :

وكلّ دمعة من الجياع والعراة

وكلّ قطرةٍ تراق من دم العبيدْ

فهي ابتسامٌ في انتظار مبسمٍ جديد

أو حُلمةٌ تورَّدت على فم الوليدْ

في عالم الغد الفتيّ ، واهب الحياة . “

ويهطل المطرْ ..

× قصيدة زاحم :

مَنْ يُعِيدُ الصَبا والبَياتَ أِلى عُودي

وشَجَنَ الهُورِ إلى نايي

من يَحْمُلُني إلى فَراشاتي

على ضِفّةِ النَّهْرِ

الى بَيْتِ الطّينِ والنَخْلِ

وصَوْتِ السنونو

ان تراكم المعاناة بالحجم والضخامة الكبيرة , تولد حالة الانفجار  التي تتفجر شظاياها , لتهدم الالهة الاصنام , وان كل دمعة من الجياع , كل شداكثر لحبل الحرمان , سيقرب ساعة الفجر والخلاص اكثر  , كل تشديد في  العذاب والظلم , يقرب أجل الطغاة الى نهايتهم المحتومة اقرب  . في اندلاع ثورة الجياع على آلهة التمر , حتى يعود الحق الى نصابه العادل , حتى يعود وجه العراق المسروق من السراق اللصوص , حتى ينقشع الظلام ويعود الضياء , وحتى يأتي  المطر , لتشرب النخيل , وتعود الى شموخها الباسق , حتى يغرد السنونو لفجر العراق الجديد , بطمر الغربان والجراد الوحشي , في حاويات النفايات , فلابد ان يهطل المطر في العراق , لينمو الخير وثمار بالمطر … مطر .. مطر …. مطر . سيبعث العراق بالمطر

تَرْنِيمَةٌ مِنْ الشَّتاتِ / زاحم جهاد مطر

 

الشَّمْسُ تَمْيلُ مُنْهَكَةً نَحْوَ المَغْيبِ

والأُرْجُوانُ يُلَوِّنُ سَرابيلَ الغُيومِ

الضِّياءُ والظِّلالُ تُغادِرُ الدُّروبَ

واللّيْلُ يَفْتَحُ أبْوابَ الظَّلامِ

يَهْدأُ ضَّجيجُ الأمْواجِ المُتْعَبَةِ

ويَسودُ الصَّمْت والسُّكونُ

وتَتَهامَسُ الأشْياءُ بِلُغَةِ الهَوامِ

القَمَرُ يَطُّل على أِسْتِحْياءٍ

ثُمَّ سُرْعانَ ما يَخْتَفي خَلْفَ الضَّبابِ

آهٍ مِنْ هذا اللَّيْلُ البَهيمُ كأنّهُ الخُسوفُ

يُرْعُشِني البَرْدُ والصَّقيعُ

فَأتَكَوَّرُ على ذاتي وأنْكَبُّ على ذِكْرَياتي

والذِكْرَياتُ تَنْكأُ قَرْحَ الفُؤادِ بِالوَجيعِ

أيْنَ مِنِّي حُضْنُ أُمِّي وصَدْرُ أَبي

أيْنَ مِنِّي يَدُ الحَبِيبِ وكَتْفُ الصَّديقِ

ماذا لَوْ أِنْقَطَعَ بِيَ الأمَلُ وأِنْتَهى بِيَ الأجَلُ

مَنْ يَبْحَثُ عَنْ أِسْمِيَ الضّائِعُ في الأسْفارِ

مَنْ يَجْمَعُ حُروفيَ المَنْسِيَّة في ذاكِرِةِ الشّتاتِ

وأوْراقي المُتناثِرِةِ في رُفوفِ الضياعِ

كَأيام عُمْري التي تلَاشَتْ على أرْصِفَةِ الأِنْتِظارِ

مَنْ يُعِيدُ الصَبا والبَياتَ أِلى عُودي

وشَجَنَ الهُورِ إلى نايي

من يَحْمُلُني إلى فَراشاتي

على ضِفّةِ النَّهْرِ

الى بَيْتِ الطّينِ والنَخْلِ

وصَوْتِ السنونو

جمعة عبدالله