تونس/الأزمة والطبقية والتحديات والآفاق- عبدالجبارنوري

بدأ الحراك الجماهيري مع موعد يزفهُ التأريخ في حكاية طارق البو عزيزي1984-2011 ثمة ملف تراجيدي مأساوي من نمط الملهاة ، هو الشاب التونسي الذي قام يوم الجمعة 17 ديسمبر 2010 بأضرام النار في جسده أمام مقر مدينة ( سيدي زيد ) التونسية ، أحتجاجاً على مصادرة السلطات البلدية عربته التي كان يبيع عليها بعض الخضار والفواكه لكسب قوته اليومي ، وللتنديد برفض سلطات المحافظة قبول شكوى قدمها بحق الشرطية ( فاديه حمدي ) التي صفعتهُ أمام الناس وقالت لهُ بالفرنسية ( أرحل ) التي أصبحت شعاراً في طرد الرئيس السابق ( أبن علي ) ، وتوفي بو عزيزي متأثراً بحروقهِ بعد عشرين يوماً ، فهو عود الثقاب الذي أشعل فتيل الشارع التونسي في مدينة سيدي زيد والتي دفعت الرئيس التونسي زين العابدين أبن علي اللجوء إلى السعودية في 4 كانون الثاني 2011 ، والأعلان عن تولي السياسي المعارض ( محمد الغنوشي )رئاسة الجمهورية .

أن ما حدث في تونس ثورة تختلف عن كل ثورات العرب ، فيها السرعة لم تأخذ شهراً واحداً ، ولم تخرج دبابات أو سلاح ثقيل ، وأنما خرجت الجماهير المتلاحقة لا تحمل سوى الشعارات المؤثرة ، والعجيب أنها ليست غاضبة أو عصبية (حسنين هيكل ) .

الحراك الجماهيري اليوم / بدأ حراك الشارع الأخير اليوم في 10 مايس2017 ولأن الأحتقان بلغ أقصاه في معاملة المتظاهرين بضراوة وقساوة في حدوث أعتداءات على الصحفيين وكردة فعل على الأمنيين ، مما أدى ألى أنسحاب الأمن وأبدالها بتعزيزات عسكرية التي جابهتْ المتظاهرين بالرصاص الحي ، وبعد أسبوع تحولت التظاهرات ألى عصيان مدني ، وأمتدت لتلتحم مع أنتفاضة الجنوب والشعارات تؤشر ألى الفقر والتهميش ، فكان للأعلام الوطني دور فعال في عرض مطالب الشعب التونسي على شاشات التلفزيون المسائي وكذلك على صفحات التواصل الأجتماعي ، ومن الشعارات الي رفعها المتظاهرون : شغل – حريه- كرامة وطنية – ثورتنا ليست أشاعة –التشغيل أستحقاق يا عصابة السراق ، ومركز الأنتفاضة مدينة ( فوار ) وهي أحدى ولايات الجنوب ذات الأهمية الأقتصادية ، بتواجد شركات النفط فيها ، ألآ أن سكانها يشكون من البطالة والأهمال فتتركز مطاليبهم في كلمتين : {الشغل والتنمية} ، وأضيف ألى زخم التظاهرة أضرابات عمالية أدت ألى وقف أنتاج الفوسفات الذي يعتبر نفط تونسي ، وهي الدولة الخامسة في أنتاجهِ عالمياً ، وتجددت الأنتفاضة في خميس 11-1- 2018 ولكن هذه المرّة بزخم وأندفاع عاليين وبأعداد غفيرة بسبب الغلاء المستشري في عموم تونس ولفرض الحكومة موضوع التقشف ، وأنطلقت التظاهرة من ولاية ( تطاوين ) النفطية جنوب البلاد ، وأندلاع مواجهات بين المحتجين والأمن ، وسرعان ما أنتشرت وأنضم أليها معظم المدن التونسية وحتى العاصمة في شارع بورقيبه ، وهي أمتداد للأنتفاضات الستة السابقة ، وفي الحقيقة أن تعاقب الحكومات السابقة منذ ثورة 2011 يتبعون ( النموذج الصيني ) الذي يعني أن السياسة خط أحمر في عدم الأقتراب منها أو تحريمها سواء كانت من نشاطات سياسية أو حراكاً مدنياً، وجعل الأقتصاد يسير نحو الأستثمار الأجنبي وخصخصة الباقي بواسطة القطاع الخاص ، وحتى أن أكتنفها الفساد والسرقة ، وكان رأي الشعب التونسي هو ( مبادلة الخبز لقاء الحرية أو لقمة العيش لقاء الأستقرار والأمن والأنضباط ) ، وأعتقادي هو الصح لأن الحرية والأستقرار هي الأصلح لشعوبٍ ليس لها ثقافة الغرب ولا تأريخها الديمقراطي ، فعند فرض سلطة القانون وحصول الأستقرار يمكن رفع سقف مطالب الخبز والغذاء الذي يتوفر بسلاسة وسهولة .

عُرفتْ تونس في تظاهراتها الشبابية الأحتجاجية السلمية للتصدي للسلطات الحاكمة بعد ثورة كانون الثاني 2011 خارجة بشعار( ما نيش مسامح ) أي لن أسامح وهي ضد قانون المصالحة الذي يشمل العفو عن شخوص العهد المباد ومشاركتهم في العملية السياسية ، والذي تراجعت الحكومة عنهُ ، وتظاهرة حملة ( موش على كيفك ) أي ليس على مزاجك يا حاكم ، والتي تدعو إلى سحب قانون (منع الأعتداء على القوات الأمنية ) في تونس ، أما في هذه المرّة والتي نتكلم عنها أنتفاضة يوم الخميس 11 كانون ثاني 2018 أطلق المتظاهرون عليها أسم ( فاش نستاو ) أي ماذا ننتظر!؟ والتي تزامنت مع زيادة الأسعار على المواد الغذائية بالأخص الخبز، وفرض سياسة التقشف ، مع كل الأسف هذه المرّة تخرج التظاهرة عن عن مسارها السلمي ، لأختراقها من قبل مندسين مرتبطين بأجندات خارجية كما طلعت وسائل الأعلام التونسي للمعارضة السياسية وقوى اليسار الديمقراطي التي أشارت بالأصبع إلى تدخل دولة الأمارات العربية في أستغلال الأزمة ، فكانت مانشيتات الصحف المحلية لتونس : محتجون يحرقون مقر الحرس الوطني بولاية ( تطاوين ) التونسية بعد أنسحاب الأمن منها ، وفاة محتج صدمتهُ سيارة شرطة ، محتجون يقتحمون مقر ولاية ( تطاوين ) رافعين لافتات مكتوب عليها ( أرحل ) ، والحراك الجماهيري الشعبي في الشارع التونسي تألف من أئتلاف الجبهة الشعبية ( أئتلاف أحزاب اليسار ) ومن أحزاب سياسية معارضة ربما تكون في السلطة أو خارجها مثل حزب النهضة وحزب نداء تونس الحاكم  ومن القوى السياسية المدنية من طلاب الجامعات التونسية ، والنقابات وعلى رأسها ( الأتحاد العام التونسي للشغل ) الذي كان لهُ الدور الريادي في ضخ العمال والكسبة والعاطلين عن العمل ولأنّها منظمة عريقة تأسست في سنة 1922 لعبت دوراً مؤثراً ضد حزب أبن علي ( الحزب الحر الدستوري ) ، وهيئة المحامين التونسيين ، ورابطة حقوق الأنسان ، ومنظمة نساء تونس .

فكانت أبعادها أستثمار فضاءات الديمقراطية وعطاءاتها في باب الأحتجاج والأنتفاضة على المعاناة وتعسّف السلطات الحاكمة ، وأنطلقتْ من تونس شعارات الأنعتاق والتي هي من صميم مباديء روسو للثورة الفرنسية 1789 في الحرية والمساواة ،والديمقراطية والكرامة ، فالثورة التونسية ليست عفوية بل نتيجة تراكمات أحتجاجية تأريخية سواء ٍكانت فردية أو جماعية ، فكانت أبعدها أنتشار شرارتها أقليمياً وعربياً بما سميّتْ بالربيع العربي في ليبيا ومصر ، وساهمت الثورة التونسية على الوعي والأرادة اللازمة والضرورية للتغيير ، فكانت مطالبات الحراك الجماهيري في توفير الكرامة والخبز وثم رفع سقف المطالبات إلى تحقيق دولة المؤسسات ، ورفض الحزب الشمولي وحضره كليا وجعله خارج التغطية السياسية ، وأثبتت الثورة التونسية على أن الحكم الأسلامي الراديكالي عاجز عن توفير مستلزمات العيش الكريم والمواطنة والأستمرار في مسيرة الألف ميل إلى خط النهاية ، فتمخضت من رحم الحراك الشعبي والجماهيري ولادة اللبرالية العلمانية ، وحقيقة الوضع السياسي حسب أعتقادي عبر مراقبتي للوضع السياسي والأقتصادي وآفاقها بعد الثورة 2011 هو أن الصراع يدور في ثلاث محاور: الأول/ يتمثل في الحراك المدني الجماهيري ، والثاني / مجلس النواب والذي هو تحت تأثير حزبين رئيسيين هما ( حزب نداء تونس الحاكم اليوم والذي يمتلك 86 مقعداً ، وحزب حركة النهضة وعندها 69 مقعد ) ، والثالث / وهو الأخطر الذي يمثلهُ وسائل الأعلام بأشكالها فهي القوّة الضاربة التي يجري عليها الرهان

فكانت التحديات والآفاق في : أولا-مصير النظام القديم : ولو قطعت الثورة التونسية أشواطاً بعيدة في أقصاء الحزب الشمولي الواحد (حزب التجمع الدستوري ) وهو حزب الرئيس المخلوع أبن علي ، الذي يعتبر محلولا  ولكنه يبدو للمتتبع غير محضور لتحالف أكثر أعضائه مع حزب نداء تونس الحاكم وأن تأثيراتهُ تبدو للعيان داخليا وخارجيا ، ففي الداخل لا يزال الرتل الخامس يفرض حضورا في الواجهات السياسية والثقافية ، وحزب التجمعيون وهؤلاء يحملون أرث وتطلعات النظام السابق الذين يطالبون بأرجاع ما فقدوه ، وكما رأينا في حكومة ( محمد الغنوشي ) المتعاطف معهم ، ودوره الأعلامي المخابراتي لصالح السعودية حيث مقر الرئيس المخلوع أبن علي ، والثاني –الفكر الديني المتطرف والمتمثل بالأخونة بشبه سيطرتها على الخطاب الديني المتعصب ، والثالث- الوضع الأقتصادي المهزوز والمتأزّمْ أصلاً ، أن تونس تعيش وضعاً أقتصادياً صعباً بعد ست سنوات من الثورة :

1-ترجع الأستثمار والتنمية الأقتصادية وفشل الحكومات المتعاقبة في حل تعسّرْ الوضع الخدمي في السكن والمواصلات والتعليم والصحة . 2- البطالة المستشرية في البلاد . 3- الفساد الأداري والمالي والضرائب المجحفة ، وأغراق نظام السوق بالقطاع العام على حساب القطاع الخاص . 4- ضغوطات قوية على الأتحاد العام التونسي للشغل ، من قبل متنفذين في القرار السياسي في كسب النفعية والربح الغير مشروع على حساب المواطن التونسي ، مما أدى هذا الأتجاه ألى حد القطيعة بين الحكومة وبين المركزية النقابية ، لذا كان نضال النقابة بجبهات عديدة مما أضطرها إلى توحيد جهودها في دمج النقابات المهنية بمطلب جبهوي واحد تحت عنوان ( النضال الوطني العام ) ، 5- يضاف ألى ما سبق السياحة في تونس لقد تراجعت بعد الثورة في تعرض تونس لهجمات أرهابية كالذي أستهدف منطقة قريبة من القصر الرئاسي ( باردو ) الذي راح ضحيتهُ 32 شخص من بينهم 24 سائح  . 6- أنفلات الأمن في الجارة ليبيا ، وزاد الطين بلّة نزوح أكثر من مليون ونصف المليون ، فالأرهاب والنزوح أصبحتا جزءاً من الأزمة التونسية .7- التدخلات الخارجية العربية ( الأمارات والسعودية وقطر) ودول الأتحاد الأوربي وأمريكا بتشجيع وتأييد الحزب الذي يأتمر بأراداتهما الأستعمارية على سبيل المثال تشجيع مشاركة حركة النهضة في السلطة ، وأيدتهم ألمانيا ، أما موقف فرنسا أنتهازي ولكنهُ الأقوى الذي يحلم في أستعادة أمجاده في شمال أفريقيا .

الواقع السياسي في تونس : يتميّزْ بالصراع الطبقي الكتلوي الحزبي المؤدلج بحداثة التجربة وعدم أمتلاكه الخبرات النضالية التراكمية مما أدى ألى ظهور فراغ سياسي هيأت تلك الظروف الهشّة أن تملأ ذلك الفراغ الأتحاد العام للشغل التونسي ، لما يملك من قاعدة أجتماعية من عمال وكسبة وكادحون وموظفون ، وبحجم 750 ألف منخرط في الحراك المدني الجماهيري ، وبما يملك من شرعية تأريخية ، وتأييد جماهيري ، بمساحة جغرافية تونس لقي تأييداً من مكونات المجتمع المدني والأحزاب السياسية .

أخيراً/ أحتفالات ومسيرات تعم البلاد في الذكرى السابعة للثورة التونسية يوم الأحد 14-1-2018 ، وهذا يعني ان الحراك الشعبي للشارع التونسي رقاً صعباً في المعادلة السياسية ، حيث أن أغلب مطالباته تنفذ من قبل الحكومات ، والأشارة الخفية التي أكتشفتها في الشعب التونس هو أن الخطاب المصيري للوطن مرهون بتلك الطبقة المثقفة والواسعة التي تعي العولمة والحصانة من طفيليات التطرف الفكري ، وأحترام مخرجات الأنتخابات وصندوق الأنتخابات ، وهذا يعني أن الديمقراطية في تونس سليمة ومعافاة من الشوائب السياسية فهو متمسك بالخيار الديمقرطي السلمي ، وربما أعتقد الموقع الجغرافي لتونس وهي مطلة على البحرالمتوسط الذي يوصل حبلهُ السري بعموم أوربا في الثقافة والتمدن الحضاري ، وأن تونس أولى البلدان أنتفاضة وآخرها أستقراراً ، وتستحق لقب {تونس سويسرا العرب} أملي وأمنيتي أن تحافظ على هذا اللقب الجميل —–

كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد

كُتب يوم 14-1-2018