مقتطفات من كتاب مذكرات وزير عراقي- مؤيد عبد الستار

يحفل كتاب مذكرات وزير عراقي ، للدكتور جواد هاشم ، الذي رافق احمد حسن البكر في اول وزارة تألفت بعد انقلاب تموز 1968 وشغل منصب وزير التخطيط ومراكز سياسية مختلفة في عهد البعث لسنوات عديدة ما جعلته يختزن قدرا ضخما من الاسرار ويسجل الملاحظات الهامة التي رافقت مسيرته مع هذا النظام الطائفي المتخلف الذي دمر البلاد والعباد خلال عقود تسلطه على مقاليد الحكم في العراق .

حصل الدكتور جواد هاشم على ثقة البكر من خلال صديقه د. محمد المشاط  الذي قدمه الى البكر في زيارة لداره حين كان يستقبل بداره في منطقة علي الصالح من يخطط معهم التآمر على حكومة عبد الرحمن عارف / طاهر يحيى .

ومن الجدير بالذكر ان الوزير جواد هاشم من ابناء مدينة عين التمر – شثاثه – تابعة لمحافظة كربلاء ، في هذه المدينة ونسبه الذي يعود الى البيت العلوي – السادة – ابصر النور وعاش فيها طفولته وما لبثت اسرته ان  انتقلت الى كربلاء ثم الى بغداد في اوائل الخمسينات من القرن الماضي .

بعد اكماله الدراسة الجامعية ببغداد حصل على بعثة على حساب وزارة النفط بتدبير من د . محمد المشاط الذي كان مديرا للبعثات اوائل الستينات لانه كان قومي الهوى ويعرف ان جواد هاشم من الشباب القومي الذي تاثر بالافكار القومية من خلال صديقه طالب الشبيب الذي اصبح وزيرا للخارجية في حكومة البعث 1963  وسفيرا في المانيا بعد انقلاب 1968 ثم اعفي من منصبه وظل يتنقل بين امريكا وسوريا ولندن حيث قضى نحبه فيها عام 1998 .

في معرض حديثه عن اسباب تاليفه لهذه المذكرات يقول جواد هاشم في مقدمته انه في اوائل الثمانينات كان رئيسا لصندوق النقد العربي في ابي ظبي ، زاره الجواهري عام 1980  في داره فكانت جلسة سمر  مع مجموعة من الاصدقاء استمرت من المساء حتى الرابعة صباحا تخللتها قراءات شعرية واحاديث سياسية عن الظلم الذي وقع على العراق تحت سلطة البعث وسياسة صدام ، وفي اليوم التالي جاءه الجواهري ليخبره انه نظم فيه قصيدة متاثرا بسهرة الليلة الماضية ، واخبره انه سيعطيه القصيدة بشرط واحد ، هو ان يؤلف كتابا عن تجربته مع البعث ، فوعده جواد هاشم بذلك .

بعد بضع سنوات شرع في تاليف الكتاب ، ولكن احتلال صدام للكويت وشيوع العداء للعراق بسبب طيش صدام أخّـر نشر الكتاب الى سنوات تاليه ، فاضاف خلال هذه السنوات وثائق اخرى جديدة للمسودات واصدره عام   2003 م عن دار المدى / بغداد.

في مذكراته يتناول أغلب القيادات والمسؤولين في حكومة البعث بالتعريف والوصف وبيان فكرهم الطائفي المتخلف في التعامل مع الاحداث والمسؤوليات الملقاة على عاتقهم ، ويصف شخصية صدام من خلال تعامله معه بسبب مسؤوليته في وزارة التخطيط في السنوات التي كان فيها صدام نائبا للبكر ، وكيف انه كان يستمع ويصدر القرارات الجريئة متحاشيا ان يظهر للبكر تجاوزه على سلطاته ، حتى حانت اللحظة المناسبة عام 1979 فقلب له ظهر المجن ، وبدأ اولا بمجزرة لرفاقه في القيادة ، المجزرة التي عرفت بمحاكمة قاعة الخلد .

ويورد جواد هاشم العديد من الملاحظات التي تفضح طائفية الحكم وايغال المسؤولين في دماء الابرياء وقتل المواطنين وعدم توفير دماء زملائهم في الحكم .

ومن تلك الملاحظات اخترت المقتطفات ادناه التي ترسم صورة موجزة لنظام البعث ، على ان في الكتاب مجالات عديدة تستحق النظر والاطلاع عليها وربما دراستها لانها تكشف عن نهج مدمر في السياسة اتبعه حزب البعث خلال سنوات حكمه المظلم للعراق .

– زيارة الوفد العراقي الى الخليج :

ارسلت حكومة البكر  بعد نجاح انقلاب عام 1968  وفدا عراقيا  الى الخليج ، بدأت الزيارة بالكويت وانتهت بالمملكة  السعودية.

عرض الوفد تحسين العلاقات مع دول الخليج والسماح لطلبة الخليج بالدراسة في جامعات العراق والسماح للخليجيين الاقامة والتملك في العراق وجاء في الكتاب ( سافر الوفد ومعه تعليمات محددة لتطمين الملوك والامراء بنوايا العراق الصادقة ولعرض مشاريع التعاون بينه وبين كل دولة خليجية ، بما في ذلك فتح ابواب كليات وجامعات العراق أمام ابناء الخليج واعطاء المواطنين الخليجيين حقوق التملك والاقامة في العراق دونما قيد او شرط) ص 218

– ذبح الشيوعيين

يتناول جواد هاشم في كتابه الكثير من الاحاديث التي دارت بينه وبين المسؤولين في الحكومة الذين كانوا في دست الحكم خلال حكم البعث ومن بين تلك الاحاديث ما دار بينه وبين صالح مهدي عماش أحد كبار رجال الانقلاب في السنوات الاولى ولكنه اقصي من منصبه ومات ميتة غامضة، يقول جواد :

لم اشعر خلال علاقاتي واجتماعاتي مع عماش بانه كان حساسا من الشيوعيين او مهاجما لهم ، بقدر ما كان منتقدا لبعض القوميين وكان يقول احيانا : اننا جئنا للحكم في 1963 وقتلنا الشيوعيين وذبحناهم دون مبرر ، وحتى في ذلك القتل والذبح ميزنا بين الشيوعي السني والشيوعي من الطائفة الشيعية ، حيث اعدم القادة الشيوعيون الشيعة وبقي على قيد الحياة الشيوعيون من الطائفة السنية . ص 380

– احصاء عام 1947 نسبة الكرد 18 % من سكان العراق

شغل مؤلف الكتاب جواد هاشم  منصب وزير التخطيط ، فاهتم بنشر احصاءات رسمية موثقة في الكتاب لوضعها تحت انظار القراء ومن بين تلك الوثائق احصاء عام 1947 واحصاء عام 1957 وتبين الجداول الاحصائية التي اوردها ان نسبة السكان الكرد في العراق في احصاء عام 1947 هي 18،4%  وفيما يلي التفاصيل :

في جدول احصاء عام 1947 ص 6 ،  عدد نفوس سكان العراق  6 ,4 مليون نسمة  ،  ويشير جواد هاشم الى عدم وجود وزارة تخطيط في ذلك الوقت وانما كانت وزارة الشؤون الاجتماعية هي المسرولة عن تعداد عام 1947  ، والنسب موزعة على النحو التالي :

الشيعة العرب        51,4 %

السنة العرب          19,7 %

السنة الكرد           18,4%

الشيعة الكرد          0,6 %

السنة التركمان      1,1 %

الشيعة التركمان      1,0%

اقليات شيعية اخرى  1,1%

اقليات غير الاسلام   6,7 %

 

اما في احصاء عام  1957 فكان تعداد نفوس العراق  6,1 مليون نسمة ، ونسبة الكرد هي 19 % كما وردت التفاصيل في الجدول التالي المنشور في ص 7

تفاصيل احصاء عام 57 :

نسبة الشيعة العرب   51,5%

نسبة السنة العرب    19,7 %

نسبة الكرد              19 %

نسبة التركمان          5,4%

اقليات اخرى          4,5%

( يبين المؤلف ان سبب تقارب النسب بين احصاء 47 و 57  وثباتها تقريبا بانه امر طبيعي لان معدل النمو السكاني هو ذاته بين جميع المكونات ) .

يورد  المؤلف العديد من الاحصائيات المفصلة عن هوية  المسؤولين واعلام الحكم و رؤوساء الوزراء وانتماءاتهم الدينية والقومية والمذهبية وغير ذلك من مختلف الاحصاءات التي توفرت تحت يديه بسبب كونه من اعلام وزارة التخطيط في العراق .

كما يورد  الدكتور جواد هاشم في كتابه ، مختلف الاحداث التي تدل على السياسية الطائفية المتخلفة التي انتهجها حزب البعث رغم تزويق سياسته باهداف الامة العربية زورا وبهتانا وهو ما وصل اليه في خلاصة اعترف بها في ثنايا كتابه اذ يقول ( كنت اقول لنفسي ، دوما ، وأحاول اقناع غيري وباصرار أن لا وجود لاية ممارسة طائفية في العراق سرية كانت أم علنية .

كم كنت مخطئا. فالتحزب الاقليمي كان ولم يزل قائما. وان مبادئ الحزب مجرد كلمات مسطرة في منهاجه دون ان تترجم الى واقع . ودون ان تطبق او تنفذ من قريب او من بعيد . فالنعرة الطائفية كانت ولم تزل موجودة . متخفية احيانا وجلية احيانا اخرى . تنمو وتترعرع متسترة بمختلف البراقع والاساليب، لتأخذ مجراها في الحياة العملية .) ص 118

بهذه اللوحة الصريحة يضع جواد هاشم يده على حقيقة النهج الطائفي الذي كان ينتهجه حزب البعث وهو الذي لم يكن يصدق  ان الحزب الذي ينتمي له يمارس الطائفية و لكنه كان هو الشاهد الاول  على هذه الممارسة وفضحها من خلال وقائع عاشها وكان مطلعا عليها لانها رافقت مسيرته في حياته السياسية ومن خلال تسنمه لمنصب  وزاري هام في حكومة البعث منذ الايام الاولي لنشر رايتها السوداء في سماء العراق  بعد انقلاب 1968 .

وفما يلي مقتطفات اخرى من الممارسات الطائفية التي  اوردها د . جواد هاشم في كتابه نقتبسها كمثال على تلك السياسة

التي استمر حزب البعث يمارسها لاكثر من ثلاثة عقود حكم بها العراق حتى سقوطه غير مأسوف عليه عام 2003.

 

– الوسط والجنوب عجم يجب التخلص منهم

يذكر جواد هاشم انه كان ذاهبا الى مكتب البكر في القصرالجمهوري ، واثناء انتظاره   في مكتب حامد الجبوري وزير شؤون رئاسة الجمهورية ، يقول : ( وجدت في المكتب وزيرين اخرين هما الدكتور احمد عبد الستار الجواري وزير التربية والفريق حماد شهاب التكريتي وزير الدفاع وعضو مجلس قيادة الثورة ، ويبدو ان الجواري وشهاب كانا في حديث عن محافظات العراق ،سمعت شهاب يقول للجواري بان جميع سكان المنطقة التي تقع بين المحمودية وجنوب العراق هم عجم وانه لابد من التخلص منهم لتنقية الدم العربي في العراق .

– يقول جواد هاشم استغربت من كلام حماد شهاب وبلغ بي الانزعاج الى الحد الذي تناولت فيه ورقة من مكتب حامد الجبوري وقلت ساقدم استقالتي من الوزارة الان ، كتبت استقالة من سطرين وتوجهت الى مكتب سكرتير رئيس الجمهورية بانتظار مقابلةالبكر …وعندما قابلت البكر : ضحك وقال دكتور ، حماد شهاب لا يمثل اي اتجاه.. حماد

حمار .. ثم مزق الاستقالة .  ص 122 .)

– معمل سكر الموصل و ميناء  البصرة

التخطيط الطائفي لنظام البعث لا يكترث للخسائر التي يسببها للوطن ولثروة البلد ، ما يهمه  هو الاستئثار بالمكاسب لمن يحسبهم من طائفته وحرمان بقية ابناء الشعب من المنافع حتى لو كانت المنافع تعود على البلد والشعب اجمعه ، احتكار الثروة وتوزيع المصانع والمعامل الحكومية كان يجري وفق خطة تحرم فيها الحكومة الشعب الكردي والشيعة من الحصول على المشاريع الاقتصادية في مدنهم لذلك جاء مثال معمل السكر الذي استشهد به وزير التخطيط جواد هاشم كمثال ساطع على العقلية الطائفية التي تدير الحكم في العراق منذ العهد الملكي .

يقول جواد هاشم مخاطبا صالح مهدي عماش 🙁  الست انت يا أبا هدى ، الذي أشرت في الجلسة السابقة لمجلس التخطيط الى سوء التوزيع الجغرافي لمشاريع الخطة الاقتصادية .. وكيف تفسر لي مثلا بناء معمل لتكرير السكر الخام في مدينة الموصل في أقصى شمال العراق ، في الوقت الذي يستورد السكر الخام عن طريق ميناء البصرة . ألم يكن منطقيا إقامة ذلك المعمل في البصرة أو العمارة لنوفر على أنفسنا نفقات النقل من الجنوب الى الشمال وبالعكس ؟) ص 131

– حسينية النفط الوطنية

كان رجال البعث الطائفي المتخلف لا يلتزمون بحدود مراكزهم الوظيفية ومسؤولياتهم الحزبية ، وانما كانوا يعدون التدخل الظالم والاعتداء على حقوق المواطنين امرا جائزا لهم مادام الاخر ليس من طائفتهم او من قبيلتهم او من دينهم او مذهبهم .والامثلة على ذلك عديدة ،  وتتضح من خلال الممارسة التي رسمت سياسة حزب البعث في العراق طوال العقود الثلاثة التي حكم بها بجميع السبل الميكافيلية والمجرمة بحق المواطنين .

يذكر وزير التخطيط جواد هاشم في كتابه انه كان في مكتب البكر – رئيس الجمهورية – مع غائب مولود مخلص وزير الصناعة وخالد مكي الهاشمي- وزير النقل –  الذي انبرى يقول للبكر : سيادة الرئيس ، هناك قضية اريد طرحها تتعلق بترشيح علي هادي الجابر لمنصب نائب رئيس شركة النفط الوطنية . ان وزير النفط  د . رشيد الرفاعي قد اقترح الجابر ليس على اساس الكفاءة والخبرة ولكن بسبب العلاقة الشخصية التي تربطهما وان الجابر شعوبي وطائفي .

يقول جواد هاشم ، بعد ان خرجنا من الاجتماع مع البكر قال لي الهاشمي :  رشيد الرفاعي وعلي هادي الجابر من صنف واحد .

يقول جواد هاشم ، حتى تلك اللحظة لم اكن اعلم ان رشيد الرفاعي شيعي ، ولم اكن اعرف علي هادي الجابر .

ثم مرت بضعة ايام ، وتم تعيين علي هادي الجابر بمنصب نائب رئيس شركة النفط الوطنية ، ولما عين الدكتور سعدون حمادي رئيسا للشركة ذاتها ، فقد اطلق على الشركة لقب ( حسينية ) النفط الوطنية . ص 121 .

 

خلاصة الحكم في العراق

يستنتج د . جواد هاشم عدة ملاحظات استنادا الى تحليل جداول الاحصاء  التي قدمها ومن بين تلك الاستنتاجات ما قدمه حول رئاسة  الوزارات العراقية منذ تاسيس الدولة العراقية فيذكر ان رؤوساء الوزارة  منذ عام 1920 لغاية سقوط النظام الملكي عام 1958 اي خلال المدة الزمنية البالغة 453 شهرا – تعاقب على رئاسة الوزارة العراقية  23 شخصية عراقية ، 19 منهم ينتمون الى المكون السني ،واربعة فقط ينتمون الى المكون الشيعي .

وان مجموع ما حكموا بلغ 22 شهرا فقط على النحو التالي :

1 – صالح جبر – ثمانية اشهر

2- محمد الصدر –  خمسة اشهر

3- فاضل الجمالي – سبعة اشهر

4 – عبد الوهاب مرجان – ثلاثة اشهر تقريبا .

وان دل هذا على شيء فانما يدل على مدى التمييز الطائفي الذي كان في العهد الملكي واستمر فيما بعد تحت سلطة البعث الجائرة ما عمل  شرخا في المجتمع العراقي عاني منه العراق وما زال  يعاني من آثاره في المجتمع ويضفي ظلاله القاتمة على العلاقات الاجتماعية والسياسية ، لذلك يتطلب الامر معالجة واعية من قبل الاحزاب ومنظمات المجتمع المدني لازالة الهواجس الدفينة من هذه التفرقة والاتجاه بالمجتمع نحو سيادة روح التعامل المدني الحضاري والتخلص من الاحزاب الدينية والطائفية مهما كان لونها وشكلها لكي نستطيع التخلص من آثام الماضي الذي مازال يكبل عقول الكثير من السياسيين وقادة المجتمع بمختلف اطيافهم .