بناء الشرق الأوسط الأمین یبدأ من مقاومة عفرین- الحلقة الثانیة – د. عبدالباقی مایی

٢٢\٢\٢٠١٨

فی الحلقة الأولی نشرنا مقدمة للموضوع،  وهنا سنذكر المحتوی لكی ننهی بالإستنتاجات فی الحلقة الثالثة.

عندما تصاعدت معمعة الإقتتال الداخلی فی سوریا منذ إندلاعه سنة ٢٠١١ إستطاعت الإدارة الذاتیة فی كانتونات “جزیرة” و “كوبانی” و”عفرین” فی كوردستان الغربیة “روژئاڤا” فی شمال سوریا أن تطبق نموذجا جدیدا للتعایش السلمی الدیموقراطی فی المناطق التی تم تحریرها بالتدریچ قریة فقریة من داعش أولا و الإحتفاظ بها ثانیا (وهو الأهم) بالتفاهم مع قوات السلطة المركزیة والقوات المختلفة للمعارضة دون أن تصطدم بها عسكریا إلا ما ندر. حیث كانت جمیع هذه القوی منهوكة من الإقتتال الداخلی أولا والتدخل الأجنبی ثانیا وعدم وضوح ستراتیجیتهم ثالثا. بینما كانت ستراتیجیة قوات حمایة الشعب واضحة المعالم منذ البدایة بعیدة عن الإقتتال الداخلی ورافضة لأی تدخل أجنبی ومعتمدة علی شخصیة الفرد الذی تربی علی أسس الإعتماد علی الذات لكی یتخلص من الخائات الثلاث (الخوف والخجل والخطیئة) التی هی من أهم أسس تربیة الطفل فی مجتمع كوردستان الجماعی كما كان سابقا ولازال ساری المفعول فی هیكلیة العشیرة التی كانت أساس لحمایة العائلة وفیها ینصهر الفرد عامة والطفل والمرأة بصورة خاصة (راجع تفاصیل التحلیل النفسیإجتماعی لتكوین شخصیة الفرد فی المجتمع الكوردستانی فی مقالتی – السیاسة والشعب  – المنشورة فی شبكة صوت كوردستان بتأریخ ١٦\١\٢٠١٧).

إبتداء” من اللجان المحلیة المنتخبة من الأهالی فی كل قریة أو ناحیة أو منطقة أو مدینة تم تحریرها من قبل وحدات حمایة الشعب بالتعاون مع وحدات حمایة المرأة، والتصاعد هرمیا إلی قمة السلطات التشریعیة والتنفیذیة والقضائیة، یصبح كل فرد فی الجتمع مشتركا لإتخاذ القرارات المصیریة بشفافیة تامة و بغض النظر عن الجنس أو العنصر أو الدین. فتتوفر بذلك العناصر الثلاثة للمناعة النفسیة حسب نظریة ئه‌نتونوفسكی “سالوتوجینیسس” التی تعنی “مصدر الصحة” وهذه العناصر تتكون من: (١) فهم الموضوع وإستیعابه، (٢) الشعور بالمعنی فی التواجد والعمل ضمن هذا الموضوع، (٣) المشاركة الفعالة فی تطبیقه عملیا” حسب إرادة و إمكانیات الشخص. هذا الأساس الإجتماعی المبنی علی قابلیات الفرد ومشاركته فی جمیع الأمور یسهل عملیة مشاركة الجمیع فی الإدارة  وإتخاذ القرارات مما یۆدی إلی تعددیة النظام وإحتوائة لجمیع شرائح المجتمع فیشترك الكردی مع العربی و الآثوری وغیرهم من أهالی المنطقة معا بالعمل مع قوات حمایة الشعب و قوات حمایة المرأة تحت قیادة مشتركة وفق فلسفة التعایش السلمی فی الكونفدرالیة الدیمقراطیة كبدیل لنظام الحكم الشوفینی القومی والطائفی.

لم یأتی هذا النموذج الإجتماعی الجدید للتعایش السلمی بین الشعوب نتیجة للصدفة أو عبثا. ولم یكن مستوردا من الخارج المتمدن كبقیة الأنظمة فی المنطقة سواء” كانت إشتراكیة أو رأسمالیة أو دكتاتوریة شوفینیة. بل نتج عن تكوین شخصیة الفرد بتربیة جدیدة منذ الطفولة إعتمادا علی تحلیل علمی دقیق للقیم والثقافات التی نشأت فی المجتمع الكردستانی المتأثر بثقافات القومیات المسیطرة فی الدول التی تحتل كوردستان (القومیة الطورانیة فی تركیا والفارسیة فی إیران والعربیة فی كل من سوریا والعراق). فهی جمیعها قومیات ناهضة تمر من مراحل العبودیة والجماعیة المغلقة إلی مچتمعات متفتحة تحاول التكیف علی مبادێ الدیموقراطیة والتعایش السلمی وحقوق الإنسان ولكنها لازالت متأخرة بدرجات متفاوتة فی طریق التطور الإجتماعی وذلك بسبب الدین والإستعمار والإمپریالیة ومن ثم الإقتتال الداخلی المتطرف الهدام نتیجة للعوامل المذكورة. فتتمیز هذه الثقافات بدرجات مختلفة من الحكم المستبد بید الرجل وإستغلاله للمرأة والطفل بإعتبارهما ملك للرجل فی الهیكل السلطوی للعائلة. تداخلت هذه الثقافات مع الثقافة الكوردیة التی تنبثق من المجتمع البدوی. فأصبحت ثقافة مختلطة یسود فیها التراث الكوردی الأصیل المتمیز بممارسة الحریة فی التحرك حسب الحاجة بین الجبال والودیان. هذه الحریة فی التحرك والإكتفاء الذاتی فی العیش علی إنتاجه الزراعی الغنی فی تطاریس كوردستان المختلفة جعلت مشاركة المرأة مع الرجل فی العمل الیومی طبیعیا وضروریا للنجاة فی الظروف الطبیعیة القاسیة وتحت الإحتلال الأجنبی، فأدی ذلك إلی ستراتیجیات نفسیإجتماعیة فی المجتمع من أجل النجاة، منها تكوین الهیكل الوظیفی للعائلة. هذا یعنی بأن كل فرد من أفراد العائلة یشترك فی العمل علی جلب القوت والأمان للعائلة، فالطفل (فتاة أو صبی) یۆدی وظیفته المكلف به من قبل الوالدین اللذین یعرفون طاقة الطفل وقابلیاته فی تنفیذ هذا لواجب فیشعر الطفل بأهمیته ویفتخر بعمله بعد أن یشرح له ولی الأمر فیشعر بقابلیته فی السیطرة علی هذه الوظیفة (كما وجدنا فی دراساتنا حول الصحة النفسیة للطفل فی كوردستان الجنوبیة فی الفترة ١٩٩١-٢٠٠١).

هذا النظام الإجتماعی الكلاسیكی السائد فی المجتمع الكوردستانی الجماعی نما وتطور من حكم العائلة المتمددة إلی العشیرة حیث لازال المجتمع فی كوردستان یعیش فی عصر الأسطورة حسب تصنیف علم البشر (أنثروپولوجی). من هذا الهیكل الهرمی الأبوی للعائلة فی المجتمع الكوردستانی نشأت تربیة الطفل علی أسس الخوف والخجل والخطئیة التی أضیفت عندما توغل الإسلام فی المجتمع فی كوردستان. فأصبحت شخصیة الفرد نتجة لهذه التربیة شخصیة هزیلة لاتستطیع الإعتماد علی النفس بل تعیش إتكالیة علی الغیر. فتعارضت الستراتیجیات الجماعیة للنجاة مع الشخصیة الضعیفة للفرد مما أدی إلی إستمرار الحیاة الجماعیة للعائلة دون الإهتمام بتطویر شخصیة الفرد. وهذا أدی إلی إستمرار سیطرة الرجل علی العائلة ورئیس العشیرة علی العوائل وسلطة الإحتلال الأجبنی علی رۆساء العشائر إی بهرمیة فوقیة فی نشوء السلطة. هكذا تمت السیطرة علی الثورات المتتالیة فی جمیع أجزاء كوردستان، حیث إندلعت الثورات الشعبیة عادة ضد الإضطهاد والتعسف الفوقی فتبنتها قیادات من أصحاب النفوذ فی الجتمع لكی یتم السیطرة علیها بإتفاق القیادات مع قوی الإحتلال لحفظ مصالحها، فتم قمعها من قبل الإحتلال كأعلی سلطة فی المجتمع مستعملة رۆساء العشائر وغیرهم من أصحاب النفوذ فی عملیات القمع. هذا الطابع الهدام لقیادات الثورات الشعبیة لازال سائدا فی معظم أجزاء كوردستان مما یۆدی بالمجتمع إلی النكسات المتوالیة لثوراته المستمرة فیفقد الشعب سیطرته علیها وتتكرر السیناریوهات.

أصبح هذا النموذج الجدید للنظام الإداری فی “روژئاڤا” محل إعجاب كل من تعامل معه أو عاشره من الأطراف المتصارعة فی سوریا وتحالفاتها الدولیة، ناهیك عن قوة تنظیمها العسكری فی كسر شوكة داعش وبالأخص الدور الممیز للعنصر النسوی فی قیادة وتنفیذ هذه العملیات. كما و أصبح هذا النموذج للتعایش السلمی بین شعوب المنطقة علی إختلاف أدیانهم وأقوامهم محل فضول وإهتمام القوات الأمریكیة التی سرعان ما قامت بالتعاون معها والإعتماد علیها فی تأمین محاربة داعش، فوجدت فیها الحلیف الأمین والكفوء لیس فی هذه المهمة فحسب بل فی إختیار الإدارة الذاتیة أیضا” والإعتماد علی طاقاتهم الذاتیة وإتخاذهم التعایش السلمی الدیموقراطی وسیلة ناجحة للإدارة الذاتیة. یتمیز هذا النظام الجدید أیضا بسهولة تطبیقه وسرعة توفیر الخدمات المختلفة دون أن تنتظر توفیرها لهم من قبل جهة أخری وذلك بالإعتماد علی طاقاتهم الذاتیة فی تسییر أمورهم من جمیع الجوانب من خلال إنتخاب لجان محلیة لجمیع الشوۆن حالما یتم تحریرهم فی أیة منطقة أو وحدة إداریة  فی شمال شرق سوریا التی تكون كوردستان الغربیة “روژئاڤا”. وعندما لاحظت القوات الأمریكیة فی سوریا هذا النموذج الناجح فی جمیع شۆونه الإداریة والعسكریة أخذت تعتمد علیه كأفضل حلیف میدانی فی محاربة داعش وكذلك كأفضل نموذج جدید وجد محلیا لكی یكون بدیلا للأنظمة القمعیة فی الشرق الأوسط الجدید بدایة من سوریا والعراق ومن ثم لإنتشاره فی كافة دول الشرق الأوسط عندما ینضج شعبها إلی مستوی فهمه وتطبیقه.