يحظى الشرق الأوسط بأهمية كبيرة في السياسة الأمريكية؛ لاعتبارات كثيرة، أهما جغرافية الشرق الأوسط الذي يُعد قلب العالم وحلقة الوصل بين البحار والمحيطات، فضلاً عن ثرواته النفطية والمعدنية، فلا غرو أن يحظى الشرق الأوسط على أهمية خاصة في السياسة الامريكية الخارجية واستراتيجياتها المستقبلية؛ لذلك تجد هذه المنطقة محط اهتمام مراكز البحوث الاستراتيجية للسياسة الأمريكية، وتأتي مؤسسة “Rand Corporation” التي تُعد بمثابة العقل الاستراتيجي الامريكي، في طليعة المؤسسات التي عنيت بتقديم الدراسات الاستراتيجية المقترحة للتعامل مع الشرق الأوسط حكومات وشعوباً.
منذ تسلم جورج بوش للرئاسة الأمريكية دخل مشروع إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط حيز التنفيذ، فكان كان احتلال العراق عام 2003م أولى الخطوات العملية لهذا المشروع، بوصفه يمثل قلب الشرق الأوسط، وبالتالي يمكن أن يكون احتلال العراق النواة الأولى لرسم خارطة الشرق الأوسط الجديد على وفق المصالح الأمريكية، بعد تضييق الخناق على ايران من خلال بوابة العراق، إلا أن الذي حصل جاء على خلاف الرغبة الأمريكية، إذ أن النفوذ الإيراني أخذ يزداد سعة في المنطقة على نحو لم يكن من قبل.
بعد ثلاث سنوات من احتلال العراق شنت إسرائيل حرباً على حزب الله عام 2006م، لتحقيق الغاية نفسها، وهذه المرة ايضاً جاءت النتائج خلاف المخطط له، حينها أدركت إسرائيل مثلما أدركت الولايات المتحدة بأن الخيار العسكري لم يحقق الغاية المنشودة، بل إن ارتداداته كانت سلبية في الشارعين الأمريكي والاسرائيلي بعد تزايد الخسائر المادية والبشرية، لكن ما لا يمكن انكاره هو نجاح أمريكا في تمزيق النسيج الاجتماعي للشعب العراقي، فضلاً عن جعله يدور في متوالية من الخراب والدمار، والانشغال في صراع داخلي مقيت ستغذيه أمريكا بكل ما يحتاجه من أزمات ونعرات طائفية.
إن الحرب الإسرائيلية على لبنان التي أعقبت احتلال العراق بثلاث سنوات تمثل الخطوة العملية الثانية لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، وهو ما أكدته وزيرة الخارجية الامريكية رايس آنذاك قائلة: “إنَّ الشرق الأوسط الجديد سيولد من رحم هذه الحرب” ؛ لأن الحرب الاسرائيلية على حزب الله في لبنان هي جزء من صراع أكبر يشمل سوريا وايران، وبالتالي فإن الحرب في لبنان تشكل ” جزءاً من معركة أوسع تشهدها المنطقة بين الحرية والإرهاب” على حد تعبير الرئيس الأمريكي جورج بوش.
إن انتصار حزب الله في حرب تموز 2006م قد غيَّر من قواعد اللعبة في المنطقة، واستطاع أن يوقف مشروع الشرق الأوسط الجديد ولو مؤقتاً، إلا أن هذا المشروع عاد إلى الواجهة من جديد عملياً مع انطلاق ما يسمى بـ”الربيع العربي” الذي دعمته أمريكا اعلامياً واستخباراتياً بشكل كبير لأن الربيع العربي جاء يتماهى مع مشروع الديمقراطية المزعومة التي تنادي بها أمريكا لشعوب العالم، بيد أن هذا الوجه الحسن الذي تظهره أمريكا، تكذبه الكثير من الوقائع وعلى رأسها، دعمها المطلق لإسرائيل، ناهيك عن دعمها لحكام الخليج الذين لا يمت نظام دولهم للديمقراطية بصلة، فضلاً عن سعيها الدؤوب لتقسيم العالم العربي والإسلامي إلى دويلات إثنية ودينية مختلفة يسهل عليها التحكم فيه.
استطاع الربيع العربي أن يحقق بعض ملامح الشرق الأوسط الجديد الذي تطمح إليه أمريكا، إذ أن الدول التي طالها الربيع العربي ما زالت تعاني من صراع داخلي ومشاكل سياسية واقتصادية وأمنية، كما هو الحال في ليبيا ومصر مثلاً، وفي ظل هذا الصراع القائم في هذه الدول ستتمكن أمريكا من تسيير سياسات هذه الدول بما يتوافق ومصالحها في المنطقة، ولكن هذا الربيع الذي دعمته أمريكا بكل الوسائل كان الهدف الرئيس منه هو اسقاط نظام بشار الأسد ومن ثمَّ القضاء على حزب الله والمحور المرتبط بإيران، وبما أن هذا الأمر لم يحصل كان تشكيل داعش هو الحلقة المتممة لتحقيق مشروع أمريكا في المنطقة إلا أن دخول ايران وروسيا على الخط بقوة أفشل هذا المشروع إلى حدٍّ ما، ومع وصول ترامب للرئاسة الأمريكية بلغت خطورة السياسة الأمريكية في المنطقة ذروتها؛ لأن ترامب يصنف ضمن اليمين المتطرف، وتكمن خطورة هذا الرجل في اعتماده على استراتيجيتين رئيسيتين: الأولى هي الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الأموال الخليجية بشكل مباشر أو غير مباشر كما حصل في صفقة الأسلحة والاتفاقات والاستثمارات التجارية مع السعودية والتي تجاوزت 400 مليار دولار أمريكي، أمّا الاستراتيجية الثانية والأخطر فتتمثل بإدامة زخم الصراع الطائفي والمذهبي في المنطقة، مما يعني تقسيم المنطقة إلى دويلات صغيرة عملياً من خلال صراع سني سني، وصراع شيعي شيعي، وصراع أوسع يكون شيعي سني.
كل المعطيات تشير إلى أنّ الأمير محمد بن سلمان الذي سيعتلي عرش المملكة العربية السعودية (قريبا)ً سيكون الأداة الأبرز لتنفيذ المشروع الأمريكي في المنطقة من حيث يشعر أو لا يشعر، فالرئيس الأمريكي ترامب يقف خلف الأمير محمد بن سلمان بقوة مستغلاً انعدام الخبرة السياسية والكياسة لدى الأخير، واندفاعه الكبير غير المدروس في اتخاذ القرارات، وخير دليل على هذا الاندفاع قرار الحرب على اليمن.
إنَّ الخطوة الأهم التي اتخذتها أمريكا لتقوية ابن سلمان في السعودية والمنطقة تمهيداً لمشاريع أكبر، هي وقوفها وراء الاعتقالات التي جاءت بعد زيارة ترامب للسعودية بأسبوع، والتي اعتقل بموجبها الأمير محمد بن سلمان أحد عشر أميراً، وأربعة وزراء حاليين وعشرات الوزراء السابقين تحت مظلة مكافحة الفساد، ويأتي في مقدمة المعتقلين اثنان من أكبر الشخصيات السياسية والاقتصادية في السعودية والخليج العربي وهما الأمير الوليد بن طلال ذو الستة وعشرين مليار دولار، والأمير متعب بن عبد الله وزير الحرس الوطني، وقرار اعتقال مثل هذه الشخصيات وبهذا الثقل السياسي والاقتصادي لا يمكن ان يصدر من محمد بن سلمان ما لم يكن هناك ضوء أخضر ودعم أمريكي لمثل هذا القرار وهو الدعم الذي أكده ترامب للملك سلمان وولي عهده عقب حملة الاعتقالات، لا شك أن مثل هذا القرار مدروس بعناية وموقتاً بدهاء، إذ سيصير من الأمير محمد بن سلمان شخصية وطنية نزيهة في عيون السعوديين، وبالتالي سيكون تسلمه لعرش المملكة محل ترحيب الجميع، بعد إزاحة خصومه السياسيين من الأمراء، كما أن هذا القرار سيكون مقدمة لمشاريع وقرارات أكبر وأشد خطورة، ويبدو أن المنطقة ستشهد صراعاً سياسياً غير محمود العواقب وستكون بوصلته الأولى صوب لبنان.