بعد أن أصبحت الزردشتية الدين الرسمي للمملكة الأخمينية، ظل الدين اليزداني سائداً بين سكان المملكة. بعد إستلام الحُكم الأخميني من قِبل (أَرتَخششتا الثاني “أَردشير الثاني”)، الذي كان إبن دارا الثاني (404 – 359 قبل الميلاد)، أصبح (ميثرا Mithra) إله العدل والإخلاص إلى جانب الإله (أهورامزدا)، حيث يقول (أَرتَخششتا الثاني): {أنا أصنع صور مهر (ميثرا) وناهيد، وأضعها في هذا القصر}. (ناهيد) هي الإلهة (آناهيدا Anahide) التي تَمنح الخصب والنجاح. هكذا كان (ميثرا) إلهاً شعبياً خلال الحُكم الأخميني، يتضرع إليه الملوك الأخمين في النقوش، وكان الملوك والعامّة يُركّبون أسماءَهم منه، مثل (مِيثرادتيس)10.
يصف زردشت دينه الجديد (مَزْديَسْنا) بأنه دين إله النور الأوحد (أَهُورامَزْدا)، وقام بمحاربة الدين اليزداني، فألغى قسماً من معتقدات هذا الدين، وقام بتعديل القسم الأخر وجعله جزءاً من الزَّردشتية، وجعل إله الشمس (ميثرا) أحدَ كبار الملائكة الذين يساعدون الإله (أهورامَزدا) في الحرب ضد إله الظّلام (أهريمان). في إطار هجومه على الأديان الآريانية السابقة، إعتبر زردشت أنّ عبادةَ (ڤارونا Varona) الذي كان الإله المحارب للآريين في الهند، وعبادةَ الإله (ميثرا) والإله (آَهُورا) هي عبادة الجِنّ والشيطان.
بعد وفاة زردشت، ترك أكثرية معتنقي الزردشتية دينهم وإعتنقوا الدين اليزداني من جديد وتحالفوا مع اليزدانيين، حيث أن الديانة الزردشتية لم تكن راسخة في نفوس الأشخاص الذين لبّوا دعوة زردشت وإعتنقوا الزردشتية.
بعد إنتصار (الإسكندر المكدوني) على آخر ملوك الأخمين (دارا الثالث) في سنة 331 قبل الميلاد وإسقاط الإمبراطوريةَ الأخمينية في معركة (گُوگاميلا Gaugamela) التي دارت في سهل أربيل، حاول (الإسكندر المكدوني) التقريب بين الشرق والغرب ودمج الثقافتَين الشرقية والغربية. كانت الديانة الزردشتية آيديولوجية الإمبراطورية الأخمينية الفارسية في ذلك الوقت، حيث كانت تُشكّل عقبة في تنفيذ مشروع (الإسكندر المكدوني) الهادف الى التقريب والدمج بين الثقافة الشرقية والغربية. لذلك أمر (الإسكندر المكدوني) بِحرق الكتاب المقدس (آڤيستا).
بعد إختفاء المملكة الأخمينية وإلغاء الزردشيتة كَدين رسمي للبلاد، استعادت الديانة اليزدانية مكانتها المرموقة، حيث أصبح (ميثرا) من جديد إلهاً للشمس (مِهِر) وأخذت الناس يمارسون طقوس وشعائر الديانة اليزدانية ويحتفون بمناسباتها وأعيادها. إستمرت الديانة اليزدانية في إزدهارها خلال حُكم (السلوقيين Seleucids) الإغريق (سنة 312 – 63 قبل الميلاد). في عهد المملكة الپارثية (سنة 249 قبل الميلاد – 226 بعد الميلاد)، حدث تقارب بين الديانة القديمة والجديدة وإستمرت معتقدات الديانة اليزدانية، حيث أن بعض ملوك المملكة الپارثية كانوا يحملون إسم (ميثرادات).
في القرن الأول قبل الميلاد، في ظلّ الإمبراطورية الرومانية، ظهر (ميثرا) كَنبي ومُجسِّد للإله وسادت الميثرائية بين سكان المنطقة، حتى أنها إنتشرت في صفوف الجيش الروماني، حيث يذكر (أرنولد توينبي) بأنّ الجنود الرومان قد حملوا (ميثرا) من الفرات إلى بريطانيا11.
كان جميع ملوك المملكة الكوردية (پونْت Pontus) الواقعة في آسيا الصغرى، يحملون لقب (ميثريدات) وهذا يدلّ على أن سكّان هذه الممالك كانوا أيضاً يعتنقون الديانة اليزدانية أو كانوا يعيشون تحت تأثيرها. في عهد الملِك (ميثريدات Mithridates) العظيم (سنة 120 – 63 قبل الميلاد)، الذي كان ملِكاً لِمملكة (پونت)، إمتدّ نفوذ هذه المملكة من اليونان إلى جنوبي أُوكرانيا. من الجدير بالذكر أنّ الرومان قضوا على هذه المملكة وقضوا كذلك على المملكتَين الكورديتَين (كاپادوكيا Cappadocia) و(كوماجينCommagene ) اللتين كانتا تقعان أيضاً في آسيا الصغرىe.
عند إستحواذ الساسانيين على السلطة (سنة 226-656 ميلادية)، تمسكوا بالسلطتين الدينية والقومية وقاموا بِفرض الديانة الزردشتية بالقوة على سكان المنطقة. أدت هذه السياسة الى حدوث صراعٍ بين الديانة اليزدانية والزردشتية. كان الملوك الساسانيون يقومون بين وقتٍ وآخر بِحملات عسكرية على كوردستان للقضاء على المعتقدات اليزدانية. لِكون الزردشتية كانت الديانة الرسمية للملوك الساسانيين، كانت فرصة إنتشارها أوفر حظاً وعمد أتباعها بإلصاق تُهمة عبادة قوى الشر (أهريمن) على أتباع الديانة اليزدانية. هذه التهمة التي روّجها الملوك الساسانيون وأتباع الدين الزردشتي ضد معتنقي الديانة اليارسانية، شاع إلتصاقها بهم في المنطقة بأسرها وعُرفوا من قِبل الأقوام المجاورة بأتباع وعبدة (أهريمن) أي الشرّ. بعد ظهور الديانتين المسيحية والاسلامية، ظل هذا الإتهام رائجاً، في حين أن معتنقي الديانة اليزدانية كانوا ينظرون الى آلهة الميتانيين التي كانت الآلهة القديمة للشعوب الهندو – الآريانية، بأنها آلهة الخير. إستمرت الديانة اليزدانية وقاوم معتنقوه تأثير الديانات الزردشتية والمسيحية والاسلامية على دينهم ومعتقداتهم.
خلال السنوات (816 – 837 ميلادية) قام (بابَك الخورامي) بِثورة عارمة ضد الدولة العباسية، والتي شملت معظم مناطق جنوب وشرق كوردستان، حيث أنها إمتدت من لورستان جنوباً الى آذربيجان شمالاً، واستمرّت 22 سنة12. كان أحد أهداف هذه الثورة هو رفض الدين الإسلامي والعودة إلى الدين اليزداني، ولذلك عُرِفوا في المصادر العربية باسم (خُرّميين) أي (خوراميين) أي (أتباع الدين الشمساني اليزداني).
المصادر
-
جفري بارندر (1992). المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ترجمة د. إمام عبدالفتاح إمام، مراجعة د. عبدالفتاح مكاوي هامش 29، صفحة 396.
-
أرنولد توينبي (2011). مختصر دراسة التاريخ. ترجمة: فؤاد محمد شبل، مراجعة: محمد شفيق غربال، تقديم: عيادة كحيلة، الجزء الثاني، المركز القومي للترجمة، القاهرة.
-
الطبري. تاريخ الرُّسل والملوك، الجزء التاسع، صفحة 50.
المراجع
-
Izady, Mehrdad R (1992). The Kurds: A concise handbook. Washington, London, Taylor & Francis Publishers, p. 39. ISBN978-0-8448-1727-9.