ساكتب عن بعض المواقف التي واجهتني في زيارتي الأخيرة إلى الوطن ، وأبدأها من الدقائق الأخيرة
العودة إلى ألمانيا ..عند مدخل الخرطوم المؤدي إلى الطائرة
من يغادر العراق عبر مطار بغداد الدولي سيمر عبر الكثير من نقاط التفتيش والسيطرات وتدقيق الجوازات ، لاشك إن بعضا منها لها أهميتها القصوى في الحفاظ على أمن المطار والمسافرين ، ودون ذلك لن يكون هناك سلام لا في المطارات ولا في الطائرات ، ولكن هناك عددا من هذه النقاط ليس لها علاقة بكل ذلك ، فهي مبالغ فيها إلى حد كبير، أو هي مواقع تشغلها بطالة مقنعة جاءت بها المحاصصة الحزبية ، المهم فإن تقدير هذا الأمر يعود إلى السلطات الأمنية للمطار، ولكن عليها أن تأخذ في الحسبان مدى الحاجة الحقيقية من ذلك في جانب ضبط أمن المطار والمسافرين .
ما يهمني قوله في هذه السطور ، هو أنني كنت في 8.11.2017 من بين المسافرين على متن أحدى طائرات الخطوط الجوية العراقية ، ضمن الرحلة المؤشرة IA245 التي كان وقت أطلاقها محددا في تمام الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الأربعاء ذلك عبر البوابة رقم 40 التي وصلنا إليها بعد اجتياز النقاط الكثيرة التي أشرت إليها وذلك للعودة إلى ألمانيا التي أحمل جنسيتها إلى جانب جنسية بلدي ، حيث أعيش هناك منذ 20 عاما ، أزور وطني بين فترة وأخرى حيث أبعدتني عنه ظروف الدكتاتورية المتسلطة على رقاب شعبنا ، بعد رحلة شاقة و طويلة من الكفاح ، كما هوحال الملايين من العراقيين .
قضيت هنالك في العراق حوالي 3 أسابيع برفقة صديقي ورفيقي العزيز أبو زكي ، خصوصا في بعض المدن الكوردستانية وقريتنا ختارة الكبيرة وبغداد التي أحبها رغم خرابها والتشوهات العمرانية التي أصابتها والأزبال والأوساخ التي تتراكم و تنتشر في كل احياءها وشوارعها . ولكن روح البغداديين العذبة كانت وكالعادة تضفي عليها نكهة جميلة فتدب فيها الحياة والأمل ، وتشجع المرء للبقاء فيها لأطول فترة دون أن يمل منها . ألتقينا خلال زيارتنا وفي كل مدينة أو قرية زرناها بالمزيد من الأصدقاء والأحبة والرفاق ، وأنشغلنا ببعض الأمور الشخصية و الرسمية وأداء بعض الواجبات .
هناك في البوابة رقم 40 غصت القاعة بالمسافرين من مختلف الأطياف العراقية ومن مختلف مدنه ، وهي نقطة الانتظار الأخيرة قبل الصعود إلى الطائرة القابعة بالقرب منها تنتظر ركابها للإقلاع ، الأمر الملفت هنا والذي أثار انتباهي ، إن السفر إلى بغداد من مطارات ألمانيا يكاد أن يكون خجولا بسبب قلة عدد المسافرين ، فخلال رحلتي إلى بغداد من دويسلدورف في 18.10.17 لم يكن عدد الركاب على متن طائرة الخطوط الجوية العراقية يتعدى الـ 50 راكبا ، مما حدا بغالبية المسافرين أن يتخذوا من المقاعد الثلاثة الفارغة أرايك مريحة للنوم عليها، ذلك لقضاء 4,45 ساعات من وقت السفر.. بينما السفر من بغداد إلى خارج البلاد عادة ما تكون الطائرة مشغولة تماما إلى أخر مقعد فيها …!!!
أنتظرنا إلى دقائق قريبة من وقت الإقلاع ، قبل أن يطلق حارس البوابة الأخيرة ، الوجبة الآولى للتوجه إلى مدخل الخرطوم المؤدي إلى الطائرة ، وثم أوقف الآخرين .. لم نكن نعرف ماذا يجري في الممر الذي دخلت إليه المجموعة الأولى ولكن الشيء المميز والملاحظ بشكل مثير هو فوضى التدافع عند التوجه إلى الطائرة ، اذكر إن الوقت كان يمر بطيئا وأطرافنا تعبت من حمل أجسادنا وحقاءبنا اليدوية ، أطلق حارس البوابة الوجبة الثانية من المسافرين نحو مدخل الخرطوم عبر ممر ليس طويلا ، كنت ضمن الوجبة .. وجدت ضابطا أنيقا طويل القامة ، يدقق جوازات المسافرين واحدا واحدا ويقرأ أسماءهم وثم يسمح لهم بالتوجه إلى الطائرة عبر مدخل الخرطوم ، ولكن تعامله مع الركاب كان عكس أناقته حاله حال أي شرطي في أزمنة عراقنا الرديئة ..يتعامل بكبرياء وتعال غير مبرران .. أسرع الشباب ضمن مجموعتنا إلى المقدمة دون الإلتزام بأي نظام للطابور المفترض ، وأنا تأخرت تاركا الفرصة للنساء والأطفال للتدافع ومد جوازاتهم إلى يد الضابط لكي ينالوا موافقته والصعود إلى الطائرة .
ولما بقيت وحيدا تقدمت نحو الضابط وجوازي في يدي ، وفي هذه الأثناء أطلق الحارس وجبة ثالثة وصلت بطابور غير منتظم وبسرعة شديدة إلى حيث أقف أنا ، قبل أن أستطيع أيصال جوازي إلى الضابط ، وسرعان ما وجدت نفس في وسط هؤلاء ، والضابط تعامل مع الفوضى كما هي فأخذ جوازا لشخص جاء من بعدي والتدافع ظل مسمترا ، عندها أعلنت رفضي للفوضى وتعامل الضابط معها بنفس الطريقة ، ولكن الضابط أستقبل رفضي بعدائية ، وخرج من سياق التعامل الطبيعي معي ، وقال ( أنت تقول لي ليش… ليش ها … ليش ها ) ( أنت تعلمني ماذا أعمل وكيف أتعامل ) وكرر ذلك بتشنج وبمزاج عصبي غير لائق ، ما دفعني أن أقول له أيها السيد الضابط ، ينبغي أن تتعامل مع طابور منتظم وليس مع فوضى التدافع ، فأنا كنت أولى بالآخرين من الوجبة التي جاءت من بعدي لغرض تدقيق جوازي والعبور إلى داخل الطائرة ، ولكنه تمادى في هذه المرة أيضا وعنفني بألفاظ غير مهذبة وثم طلب مني بحدة أن أخرج من الطابور مهددا بمعاقبتي إن لم أفعل ذلك ، أمتثلت لأمره خشية من عرقلة سفري وأنا في غني عن ذلك ، خصوصا أنني أدركت إنه لا يكترث إن تأخرت أو حتى ربما يلجأ فعلا إلى معاقبتي بطريقة أسوأ ، فكل شيء وارد في بلد سلطاته غير منضبطة وهي لاتقيم وزنا لمواطنيها ، فوقفت جانبا انتظره ماذا عساه أن يفعل ،كنت أشعر بالإهانة ، سمعته لأكثر من مرة يقول لن أتركه أن يغادر ، بقيت متماسكا ، وجاءني في هذه الأثناء حارس البوابة ، يسألني إن كان لدي مشكلة في الفيزا أو أية وثيقة أخرى من وثائقي .. قلت له وثائقي لاينقصها شيئ ولكن مشكلتي مع هذا الضابط وليس شيئا أخر.. انتظرت إلى أن مر آخر مسافر، ما عدا عددا من الركاب صعدوا إلى الطائرة مودعين بقبلات الضابط نفسه ودون تدقيق لجوازاتهم( طبعا لم يكن هؤلا ء دبلوماسيون ، بل ربما كانوا أصدقاء الضابط نفسه ، أو أبناء المسؤولين في حكومة المحاصصة ، لآنني وجدتهم في مطار دويسلدورف في طابور الأجانب وليس في طابور الدبلوماسيين ) ، عندها فقط قال لي بعصبية ، تعال .. واخذ جوازي ونظر إلي بحنق وعدائية … ثم قال لي ( أمشي ولا تحجي زايد مرة أخرى ) ..أردت أن أقول له شيئا ولكنه حاول أن يصرخ في وجهي وهددني أن اذهب قبل أن يسيء لي أكثر مما اساء .
ولكني كنت مصرا قبل أن اتحرك صوب الطائرة ، فقلت له إن نظام صدام حسين كان سببا لتدميرنا وهجرة ملايين العراقيين ، وانتم ستكونون سببا لمنعهم من زيارة بلدهم ، تكلم بعد ذلك بعنف ولكنني لم أستطع التقاط ما قاله .
هنا أقول أن المطارات تعتبر بوابات البلد المشرعة على العالم الخارجي .. ومن يحرس هذه البوابات ينبغي أن يكون امينا على خلق أنطباعات أيجابية وجميلة عن الوطن عبر بواباته .. لذلك يتعين على سلطات أمن المطارات تطهير أجهزتها الأمنية من العناصر التي تسيء استخدام سلطتها وبالتالي الإساءة إلى سمعة البلد عبر الإساءة إلى المسافرين .
وللمقارنة لابد من القول عند وصولنا إلى مطار دويسلدورف توجهت أنا ورفيقي أبو زكي إلى كابينات المواطنين الألمان لتدقيق الجوازات ، كان هناك موظفين اثنين في كابينتين متقاربتين ، كان احدهم ضابط ، حيث أستقبل رفيقي أبوزكي بابتسامة جميلة قائلا له سفرة سعيدة ، أما أنا فنادت علي ً شابة جميلة ( الضابط ) جالسة في الكابينة الثانية بابتسامة عذبة ..أيها الرجل الشباب ، ستتأخر قليلا،لأن نظام حاسوبي أصيب بخلل مفاجيء وقالت لكني سأعالجه سريعا .. قلت لها ضاحكا ربما أنا كنت سبب العطل.. ضحكت وقالت اكيد لست أنت .. لم يتأخر الوقت أكثر من دقيقة واحدة حتى أعادت لي جوازي قائلة ، شكرا لتحملك هذا التأخير، أتمنى لك يوما سعيدا .
بغداد هي عاصمة وطني الأول والذي ولدت فيه .. ودويسلدورف هي عاصمة مقاطعتي في وطني الثاني الذي وفر الحماية لي من ظلم حكام وطني الأول..!!!