نبذة تأريخية عن الكورد والآشوريين والعلاقة بينهم (43) – أسلاف الكورد: الميديون
الديانة اليزدانية تدعو إلى عبادة الخالق الواحد وتخليص الروح من المادة، والى احترام العناصر الأربعة (النار، الهواء ،الماء ،التراب) وأنّ تعاليمه تقوم على مجاهدة النفس للإنتصار على أسباب الشر والوصول إلى فردوسٍ، حافلٍ بالأفراح والسعادة واللذة المادية
والإشراف على إيقاد النار المقدسة.
تأثرت الديانة اليزدانية بالفلسفة السومرية، كملحمة كلگامش التي تطرح أسئلة فلسفية عن الحياة والموت وموقف الإنسان من الآلهة والسعي للحصول على الخلود. الديانة اليزدانية مبنية على تألية العناصر الطبيعية، وعبادة قوى الطبيعة كالشمس والقمر والنجوم والماء والأرض والإحتفاظ بالقبور كَضريح موضوع على شكل برج مربع، مع غرفة واحدة في الأعلى، حيث كان اليزدانيون يضعون النارَ المقدسةَ فيها.
الثقافة اليزدانية هي ثقافة كوردستانية أصيلة، ثقافة إشراقية، ثقافة سلام، إنها ليست ثقافة تكفيرٍ وجهادٍ وغزوٍ وسلبٍ وسبيٍ وذبحٍ. إنها ثقافة مبنية على مبدأ (اطلب السلام، تُوهَبْ لك الحياة) وليست ثقافة مبنية على مبدأ (اطلب الموت تُوهَبْ لك الحياة) k. حتّى أن القرابين والنذور في هذه الديانة المُسالمة هي في الغالب عبارة عن الفواكه والفطائر. كما أن الطقوس والمراسيم الدينية اليزدانية يتم إجراؤها على أنغام الموسيقى التي تُنعش الروح وتسمو بالمشاعر. لا تزال الموسيقى حاضرةً في طقوس فروع الديانة اليزدانية رغم تعرضها للتحريف والتشويه بشكلٍ كبير. فروع الدين اليزداني هي الديانات الإيزدية واليارسانية والهلاوية والدروزية والشبكية21.
تتمثل الوحدانية في الديانة اليزدانية في خالق الكون (يزدان). في الديانة اليزدانية، لا توجد تسمية خاصة للشر و لا يوجد إله خاص بالشرّ. في فلسفة العقيدة اليزدانية، يزدان (الإله) هو نور وخير مطلق، ولا يمكن أن ينبثق الظلام من النور، ولا يمكن للإله الخيّر أن يُنتج كائناً شرّيراً، يسلّطه على مخلوقاته، فالخير والشر في العقيدة اليزدانية هما من عمل الإنسان، ولذلك فأنّ الإنسان هو صانع أفعاله وأقواله، ولا وجود لِكائن شرّير بإسم (أهريمن أو شيطان) لتحميله وزر أفعال وأقوال البشر. كما أنّ وجود الشر في الدين اليزداني يتناقض مع مفهوم (الخالق) الذي هو خير مطلق. وهبَ الإله (يزدان) الإنسان العقل ولذلك فأنّ الإنسان مُخيّر بين القيام بأعمال خيّرة أو سيئة و هذا يعني بأن الإنسان مُخيّرٌ في التفكير والقيام بالأعمال، سواء كانت أعمالاً صائبة أو خاطئة، جيدة أو سيئة، وأنه يتحمل مسئولية قيامه بالأعمال التي يقوم بها، وهو بنفسه يتحمل مسئولية إرتكابه الأخطاء أو الجرائم. لو أنّ كل ما يقوم به الإنسان هو من إرادة الإله، هذا يعني بأن الإله يدفع الإنسان الى إرتكاب الجرائم والأعمال الشرّيرة الأخرى وأنه مصدر الشرّ. هذا يعني أيضاً أنه في هذه الحالة فأنّ الإنسان المُجرم برئ من جرائمه لأنه فاقد الإرادة وأنه مجرد آلة يستخدمها الإله في إرتكاب الجرائم و أنّ الإله هو المجرم الحقيقي والعقل المدبّر لكافة جرائم وشرور الإنسان. الفلسفة التي تتميّز بها الديانة اليزدانية عن الديانات االمُسمّاة بالسماوية، هي أنه في الديانة اليزدانية، الإنسان هو منبع الخير والشر و ليس الإله. هكذا فأن الفلسفة اليزدانية تقول أنّ أعمال البشر لا يُحددها الإله، بل أنّ الإنسان بنفسه يُحدّد الأعمال التي يقوم بها الإنسان وبذلك يمنح الدين اليزداني للإنسان حرية الفكر والإبداع والإبتكار والإختراع والإعتماد على النفس والثقة بالنفس و العمل على خدمة الإنسانية وبناء الحضارة البشرية، بِعكس الأديان التي تجعل معتنقيها يخضعون للأقدار ويعتمدون على الإله وبذلك يتم تغييب عقل الإنسان وإلغاء إرادته.
كما أنّ العلاقة بين الإله والإنسان في الديانة اليزدانية، هي علاقة روحية هرمونية، علاقة عشق وحُبّ ومحبة، حيث أنّ الإنسان هو جزء من الذات الإلهية. لذلك فأنّ الإله يُحبّ مخلوقاته وأنه إلهٌ مسالمٌ، ليس “جلّاداً”، يُهدد ويُخيف ويُرعِب البشر ويُنذره بالحرق والتعذيب، كما هو الحال في أديانٍ أخرى. هذا يعني بأنّ الإنسان يعبد اليزدان عن قناعة وإيمان وأنّ عبادته غير ناجمة عن الخوف من غضب وعقاب الإله.
مما سبق، نرى أن اليزدانية كانت الدين الأصلي للشعب الكورديl قبل الغزو العربي – الإسلامي لِكوردستان وإحتلالها إستيطانياً من قِبل العرب وفرض الدين الإسلامي على سكّانها. لقد قام الباحث الكوردستاني مهرداد إيزادي Izady Mehrdad في السنين الأخيرة بإجراء أبحاثاتٍ ودراساتٍ حول الدين اليزداني، حيث أنّ معتنقي هذا الدين كانوا السكان الأصليون لِجبال زاگروس. يرى الپروفیسور إيزادي أن مصطلح (اليزدانية) هو مصطلح لِنظام العقيدة التي تسبق الإسلام بآلاف السنين والتي هي في طابعها مُعتقَد آري وليس سامياًl. يُعرّف مهرداد إيزادي الديانة اليزدانية بأنها دين خوري (هوري) قديم ويذكر بأنه قد يكون أسلاف الكورد الميتانيون قاموا بإيجاد بعض الطقوس الڤيدية التي تظهر بِوضوح في الديانة اليزدانيةm.
لقد أحدثَ مفهوم اليزدانية نقاشاً واسعاً داخل المجتمع الكوردستاني وخارجه على حدّ سواء، و خلق جدلاً في أوساط باحثين علميين مرموقين مختصّين بالأديان الآريانية.
المؤرخ الكوردستاني المعروف الأستاذ (محمد موكري) يُشارك الپروفیسور إيزادي في الرأي حول الهوية غير الإسلامية لليزدانيين (الديانات الإيزدية واليارسانية والهلاوية والدروزية والشبكية هي فروع للديانة اليزدانية)، حيث يذكر بأنّ الدين اليزداني أقل إسلامية من الدين البهائي الذي ظهرَ من البابية (Bábism) كَدين غير إسلامي جديدn. كما يؤيد الباحث الإيراني المختص بِعلم الإنسان (Anthropology) الأستاذ (زيبا مير حسيني Ziba Mir-Hosseini) رأي الدكتور إيزادي القائل بأنّ الدين اليزداني هو دين غير إسلامي وأنه دين كوردي بحت، حيث يذكر الأستاذ مير حسيني بأنّ اليزدانيين هم طائفة تعتنق ديناً ظهرَ في العصور القديمة جداً والذي يسمّيه “عبادة الملائكة”. يستطرد الأستاذ مير حسيني في حديثه بأن هذا المُعتقد هو في الواقع يعود لِدين غير سامي، مع بُنية فوقية آرية تعود لمعتقدات أسلاف الكورد الذين هم السكان الأصليون لِجبال زا گروس. يمضي الأستاذ مير حسيني في حديثه ويقول بأنّ أي إدّعاء بأنّ اليزدانية أو فروعها هي مُعتقَد إسلامي هو خطأ يشير الى عدم الإلمام بهذا الدين الذي يرجع إلى ما قبل الإسلام بآلاف السنينo. كتاب {دَبيستان المذاهب (Dabestân-e Madâheb)} الذي مكتوب بين سنة (1645-1658 ميلادية) هو أحد المصادر القديمة الذي يشير الى”Sipâsîâns” الذي هو مرادف للديانة اليزدانيةp.
في الدين اليزداني، هناك إله متفوق مطلق (هاك أو حق)، مستقل تماماً عن الكون المادي وأنه خالق جميع القوانين الفيزيائية. إنه يشمل الكون كله، يربط معاً الكون كنظام معقد و منظَّم مع ذاته، كما أنه يظهر في (الأسرار السبعة “هَفتاد” أي “الملائكة السبعة”)، الذين يحافظون على حياة الكون. يمكن أن يتجسد الإله في الأشخاص، بابا “بوابة” أو الظهور (تجسد الإله في شخص على الكوكب الأرضي)q. هذا الإنبثاق السبعة مماثل للأطوار السبعة لِ(أنوناكي) من آنو (آنوناكي هو مجموعة من الآلهة في الثقافات القديمة لميزوپوتاميا” (في الديانة االسومرية، آنو هو ملِك الآلهة)، وأنها تشمل (طاووس ملك) الذي هو نفس الإله القديم (دوموزي إبن إنكي)r والذي هو الإله الرئيسي في الديانة الإيزدية، والشيخ شمس الدين، الذي هو ميثراs.
يذكر الدكتور جمال رشيد احمد بأنّ (داريوس الأول) يصف على لوحة بيستون أن (ڤارونا) أي (آهورا) هو خالق السماوات والأرض والإنسان وكان مسؤولاً عن (أميشا سپنتا) أو الخالدات الست [فوهو ماناه (الفكر الطيب) و أشا (العدل) و خشارثرا (الحكم) و أرمايتي (الإخلاص) و هَورفَتات (سلامة الروح) و أميريتات (الخلود)] التي تجسدت في المواشي والنار والمعدن والأرض والماء والنبات في الطبيعة، كان يتحمل مسؤولية كل واحدة منها، مَلَكٌ من الملائكة وكان هو سابعهم. الوظيفة الأولى (الفكر الطيب) كانت تمثل مع (العدل) طبيعة المعبودَين (ڤارونا) و (ميثرا). الوظيفة الثانية (الحكم) فهو تجسيد لِقوة (إندرا). كانت (الخلود) ترمز الى مُهمّة (نَساتيا) أي (أناهيتا) عند الآريانيين. ظل في المعتقدات الزردشتية (أهريمن) منافساً لِ(آهورا)، حيث أن (أهريمن) يمثل قوى الشر والدمار والأمراض. بعد سقوط الإمبراطورية الآشورية وإستقرار الميديين في كوردستان، برز (آهورا الحكيم) كصيغة جديدة لِ(آسورا) الميتانيين22.
يؤمن الدين اليزداني بِالطبيعة الدورية للعالم من خلال تناسخ أرواح الإله والبشر الذي هو سمة مشتركة وعبارة عن تجسيد لروح شخص في شكل إنسان أو حيوان أو حتى نبات. هناك سبع دورات لحياة هذا الكون، ستة من هذه الدورات قد حدثت بالفعل، في حين أن الدورة السابعة لم تحصل بعد. في كل دورة، هناك مجموعة مؤلفة من ستة أشخاص تُجسّد فيهم الروح (أُنثى واحدة وخمسة ذكور) الذين سوف يبشّرون الدورة الجديدة ويقودونها (الإله المتجسّد في الدورة السابعة في المجموعة يبقى خالداً ويبقى إلهاً حاضراً). تجسّد روح الإله يمكن أن يكون في واحدة من أشكال ثلاثة: “تجسد التفكير”، و “تجسيد ضيف”، أو الشكل الأعلى وهو “تجسد تجسيداً”. يسوع والقادة الثلاثة من الفروع الرئيسية الثلاث للديانة اليزدانية كلها تجسد تجسيداً، أي أن الإله يتجسد في جسم الإنسانt.
هكذا نرى أنّ الميزة الرئيسية لليزدانية هي الإعتقاد في سبعة كائنات إلهية خيّرة التي تدافع عن العالم مع عدد متساو من الكائنات الشريرة. في حين أنّ في اليارسانية والإيزدية تصبح هذه الكائنات سبعة قديسين و في الديانة الهلاوية يُسمّى هؤلاء القدّيسون ب(“Yedi Ulu Ozan”)u. مظهر آخر لهذه الأديان هو الإعتقاد بتناسخ الأرواح. الهلاويون يؤمنون أيضاً بتناسخ الأرواحu.
اليزدانيون لا يؤدون الفرائض الإسلامية الخمسة وليست لهم مساجد ولا يذهبون إليها. إنهم يحترمون القرآن كإحترامهم للإنجيل. كل فرع من فروع الديانة االيزدانية له كتابه المقدس الخاص به والذي هو أكثر قُدسية ومنزلة فيها من كتب الأديان الأخرىv وأن هذه الكتب المقدسة مكتوبة باللغة الكوردية.
المصادر
- توفيق وهبي بك (2006). الآثار الكاملة. إعداد: رفيق صالح، سليمانية، كوردستان، صفحة 17.
- الدكتور جمال رشيد احمد. ظهور الكورد في التأريخ – دراسة شاملة عن خلفية الأمة الكوردية ومهدها. الجزء الثاني، الطبعة الثانية، 2005، صفحة 735-736.
المراجع
- http://stuna-kurd.com/%D9%8A%D8%A7-%D8%A3%D8%AA%D8%A8%D8%A7%D8%B9-%D9%85%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AE-%D9%88%D9%87%D9%8F%D8%A8%D9%8E%D9%84-%D9%84%D9%83%D9%85-%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%AA%D9%83%D9%85-%D9%88%D9%84%D9%86/
- Izady, Mehrdad R (1992). The Kurds: A concise handbook. Washington, London, Taylor & Francis Publishers, p. 172. ISBN978-0-8448-1727-9.
- http://www.kurdistanica.com/?q=node/74
- Mukri, Muhammad (1966). L’Esotrérism kurde(2nd (2002) ed.), Paris, p. 92.
- Mir-Hosseini, Ziba(1992). “Faith, ritual and culture among the Ahl-e-Haqq”. In Philipp G. Kreyenbroek; Christine Allison. Kurdish culture and identity. London: Zed Books. p. 132. ISBN1-85649-330-X.
- Azar Kayvan (1645–1658). “Dabestan-e Madaheb, section 1-2”.
- http://www.kurdistanica.com/?q=node/101
- Açıkyıldız, Birgül (2010). The Yezidis: The History of a Community, Culture and Religion. I. B. Tauris. ISBN978-1-84885-274-7.
- Bidlīsī, Sharaf Khān & Mehrdad R. Izady. The Sharafnama: or the History of the Kurdish Nation, 1597. Mazda Publishing, 2000. ISBN1568590741.
- Elahi, Nurali(1975), Buhan-i Haq (in Persian), Teheran, pp. anecdote 487.
- Izady, Mehrdad R.(1992). “The Kurds: a concise handbook”. Washington & London: Taylor & Francis. ISBN0-8448-1727-9.
- Elahi, Nurali(1975). Buhan-i Haq (in Persian), Teheran, pp. anecdote 1143.