توطئة/الشاعر والصوفي صورتان لأبداعٍ واحد ، أذا كان الصوفي يرى بعين الغوص في الذات الذوق والكشف لتحقيق الحلول، والفناء في الذات الألهية وتمزيق ظلماتها وستائرها التي تخفي أسرارها وحقائق الوجود ، فأن الشاعر تمكن من أن يرى العالم من خلال عين الذوق والأنصات إلى الكون بأسمى تجليات العزلة والأغتراب والوحدة والتيه في الدروب الوعرة في الذات والعالم ، وبالتالي فأن الشاعر شبيه بالمتصوفة الذين نذروا أرواح عقولهم وعيون قلوبهم للآنهائي قصد فتح كوّة في وجه السديم والتوحّدْ مع الألم الباطني الذي يهزُ الكوامن ويعزّي حقيقة المكابدة ، ولعل ثمة رحلة في فنون الأبداع الأنساني سنقف فيها على حقيقة العلاقة بين المتصوّفة والشعر ذلك أنّهما يقترنان بينهما ، فهي رؤية معرفية تنحو لملامسة الحقائق العميقة في الكون ، فالمتصوف ينظر ألى الكون بعين القلب لأكتشاف المعرفة الذاتية والباطنية للأشياء ، والتصوف مرتبط بما هو خفي ، هذا الخفي لا يمكن ألا أن يشوقنا لبعده وأحتجابه ، خصوصاً أذا ما تمّ ربط هذا الخفي بخفي آخر ، وهذا المحتجب البعيد بمحتجب بعيد آخر ألا وهو الشعر للبحث عن الوجود .أقتباس بتصرف من (كتاب التصوف الأسلامي في الأدب والأخلاق د/ زكي مبارك – القاهرة) .
متن الموضوع / قبل الخوض في مثل هذا الموضوع علينا أن نعرف معنى التصوّف نفسهُ : أنهُ منطق المسلمين وفلسفتهم في الأخلاق وربما كلمة المتصوّفة يونانية تعني الحكمة وربما هي حقيقة التصوّف الكاملة الفاضلة هي مرتبة الأحسان الذي يقوم على أساس أخلاص العبادة لله دون تصنّع ولا تكلف دون رياء أو نفاق حين يجمع بين أسلامه وأيمانه ويزينها بأحسانه وهي التوحيد الخالص ، وحاجة المتصوفة إلى الشعر جاءت تلبية لرغبات مجالس الصوفية التي تتخذ من السماع باباً من أبواب تحقيق اللحظة الصوفية ، التي ينسى فيها المريد مكانهُ وزمانهُ ويندمج في الزمن الروحي الذي لا تقيدهُ الدقائق والساعات ويتعمق في حال الوجد والغرام والهيام ويطوّر هذا السماع إلى الأبداع والأنتاج فأظهر لنا التأريخ شعراء أبدعوا في الشعر الصوفي أمثال : الحلاج وأبن عربي وأبن الفارض ورابعة العدوية .
فالتصوف هو كل عاطفة صادقة متينة الأواصر قوية الأصول لا يراودها ضعف ولا يطمع فيها أرتياب ، ومفهوم الحب الصوفي يأخذ مساحة واسعة في زمكنة الأدب العربي وعموميته في الولاء والسياسة والحزن والصداقة والوفاء والمودة حيث تقوم على مباديء تتصل بالروح والوجدان
أحلى قصائد الصوفية :
أحنُ بأطراف النهار صبابة / وبالليل يدعوني الهوى فأجيبُ
وأيامنا تفنى وشوقي زائدٌ / كأن زمان الشوق ليس يغيبُ ( الشاعر الصوفي : مجدي حسين كامل 1997م)
لاحظ ذوبان الروح وتسامي الوجود في هذه الأبيات الشعرية :
وليس لي سواك حظٌ / فكيفما شئت فأمتحنيّ
أن كان يرجو سواك قلبي /لا نلتُ سؤالي ولا التمني ( الشاعر أبو الحسن سمنون الخواص – 910 م)
وهذه أبيات رائعة تعكس ما يتمتع بهِ الشاعر الصوفي من حسٍ شعريٍ وقدرة على صياغة أفكارهِ الصوفية بطريقة محكمة
يا واحد الحسن البديع لذاته / أنا واحد الأحزان فيك لِذاتي
وبحبك أشتعلت حواسي مثلما / بجمالك أمتلأت جميع جهاتي ( عفيف الدين التلسماني – 1291م)
أن ظاهرة العلاقة بين الشعر والتصوّف تكمن في أن القصيدة الصوفية التقليدية هي فرع أساسي من تركيبة وهيكلية الشعر العربي ، وحسب تجليات الدراسات النقدية التي تناولت هذه الظاهرة قسمت الشعر الصوفي إلى قسمين : الأول يتوضّح في المدلولات الصوفية في النص الشعري ، أما الثاني تطغى الصوفية بوجدانياتها ورومانسياتها الشعرية على النص السردي ويأخذ مساحة واسعة في أدب المعاجم الصوفية المعصرنة الحداثوية
فالدكتور زكي مبارك في كتابه ” التصوف الأسلامي في الأدب والأخلاق ” قراءة بحثية جميلة في هذا الموضوع : فقد أعدّ جميل بثينة ومجنون ليلى من أعرق النصوص الادبية في الهيكل الصوفي( والزهد) ، فيستخلص أن الزهد في الوصل هو التصوف لذا يستشهد بقول جميل بثينة :
وأني لأرضى من بثينة بالذي لو أبصرهُ الواشون لقرت بلابله
وهكذا في شعر قيس وليلى – المنسوب أليه –
وأحبسُ عنك النفس والنفسُ صبّة بذكراك والممشى أليك قريبُ
وقد يتخيل ألينا أن الشاعر الصوفي نشأ من أجل أن يغني في حلقات الصوفية ، ولم تكن هذه الحقيقة غائبة عن ذهن الشاعر الصوفي فحشّد فيه مقومات الغناء : اللفظ الملائم والقافية الرصينة المطلوبة والوزن المناسب فحصيلتها الفنية قطعة موسيقية قابلة للعرض والغناء ( الدكتور محمد عثمان أستاذ النقد الأدبي في الجامعة اللبنانية )
هيكلة العلاقة بين الشعر والتصوف
-الوجود المطلق والوجود المقيّد أو الخيال المتصل والخيال المنفصل ، ويقصد هنا الخيال المنفصل الخاص بالذات الألهية .
– والخيال المتصل يعني جل المشاعر والأحاسيس الأنسانية ، وحسب هذا الطرح الأدبي نجد ان الشعر الصوفي يتعلق بالخيال المتصل المقدس وظهرتْ في شعر حسان بن ثابت عندما يصوّر حبهُ وتقربهُ من شخصية الرسول محمد (ص) وهو يقول :
وأحسن منك لم ترى قط عيني / وأجمل منك لم تلد النساءُ
-و مرحلة الفناء والتلقي /يتشح بالألهام الصوفي من خلال التأمل الروحي للشاعر ومن شدة الولع بالعشق الصوفي في الذات الألهية يتسامى بروحه ومشاعره ويفنى في الذات حيث يغيب لحظات عن نفسه ومحيطه حتى يحضر القصيدة وعند الأنتهاء يستعيد عالم الوعي .
– الرمز وهي أشارات أيحائية أيمائية ذات معنى روحي مقدس في ثلاثة رموز ( المرأة – الطبيعة – الخمره) ويقول أحدهم :ألا ليت شعري هل أفوزبسكرة / من الحبِ تحي مني كل رميمة .
-الخطاب الديني : وفيهِ تجريد الجسد من الملذات الدنيوية ، وكأنهم متأثرين بالحكمة ( أخشوشنوا فأن الترف يزيل النعم )
-شمولية الزمكنة في الجغرافيا والتأريخ .
وعلى هذا الأساس يمكن الأستنتاج بأن جُلْ القصائد الناتجة عن عاطفة صادقة عفيفة في تجربة وجدانية تغوص في الأعماق الأنسنة هي ( قصيدة صوفية )، وهكذا أن نعتبر جميع شعراء الحب العذري وكثيراً من الشعراء الرومانسيين شعراء صوفية .
وفي تأريخية الشعر الصوفي ظهرت هناك أختلافات فكرية في جذور التصوف الشعري فكل الآراء مقنعة بالأدلة التأريخية والنصوص الشعريه المؤطرة بهالة من حب الذات الألهية ربما يرجع إلى عصر ماقبل الأسلام ما يسمى بالجاهلية حيث أتجه بعض من شعرائهم إلى التصوف والزهد والتقشف مثل زهير بن أبي سلمى الذي كان زاهداً وصائماً عن ملذات الدنيا ومعارضاً لرغباتها ومغرياتها ، وكذا مع الشاعر الوجداني أمية بن أبي الصلت الذي كان مقتدراً في ربط الشعر بالأحاسيس الوجدانية وألتمس الدين ونكر الأوثان وحرّم الخمر وأبتعد عن الزنا والأزلام ( كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ) ، وجاء العلامة ماسينيون)المستشرق الفرنسي بكتابه العلاقة بين الشعر والتصوف ينكر تأريخية التصوف حسب رأيهُ ، أن لفظ التصوف لم يكن معروفاً أنما التصوف لفظ أشتهر في القرن الثالث الهجري 825 م ثم ظهور الشعراء المتألهين من أمثال الحلاج والنقري وأبن عربي وطاغور وهم يمثلون شعراء المتصوفة الذين يرون الكون في أنفسهم كمال يرون أنفسهم في الكون فينبثق شعرهم من هذه الرؤيا التي تعتبر نقطة البداية في الأنطلاق إلى صورة الجمال والفتنة والأغراء والغوص في أعماق مسالك الحيرة والبحث — والبحث المستمر في مسالك الصوفية التي هي مصدر الألهام لذلك البحث ( صلاح عبد الصبور / حياتي في الشعر ).
الخلاصة/التجربة الصوفية والتجربة الفنية منبعهما واحد وتلتقيان عند نفس الغاية يكون فيه الشاعر باحثاً عن التجلي والكشف عن المستور وهي أحدى منطلقات الشعراء المتصوفة للغة التجلي ولغة الأحوال والمقامات لأكتشاف أفق لغوي رمزي أيحائي تنقلب فيه اللغة على عجزها وضبابيتها المحدودة لتنتقل من النقل اللغوي ألى الخلق اللغوي الذي يعتمد لدى شعراء الصوفية بعنوان الأيمائي في اللغة Connotation أو ما يسمى حسب أقفال الرموز اللغوية بالأنزياحات التعبيرية المؤدية ألى التعدد الدلالي للقصيدة ، ولهذا كانت مجالس الأسماع الصوفية لم تكن تجالس الأذكار والأوراد فحسب بل كانت إلى جانب ذلك مجالس فنية يروّج فيها الشعر الصوفي وتوطد فيها العلاقة بين التصوف والشعر فتنشط فيها القصائد الغزلية الروحية التي تربي الأذواق وترتقي بالنفوس ألى مقامات السالكين وألى ما يعرف بالعشق الألهي التي تفيض بفردات الجمال والجلال والتي ظهرت جلياً في مدونات الحلاج وأبن الفارض وأبن عربي والشيشتري ورابعة العدوية وخاض الشاعر العراقي المعاصر البياتي في ديوانه الموسوم ( بستان عائشة )نماذج جميلة ورائعة في مضمون الرومانسية المقدسة برمز أسطوري معبر عن قدسية الوطن والأرض والأم والمدينة وكذا السياب الذي أتخذ من مدينة جيكور ملاذاً وسكينة ودار أستراحة المحارب روحياً وذوباناً في الذات ، ولدى شعر الفرس شهاب الدين السهروردي وجلال الدين الرومي .
المصادر وبعض الهوامش
د/ محمد بن عمارة-الأثر الصوفي في الشعر العربي. مدخل ألى العلاقة بين الشعر والصوفية مجلة البيت – خالد بلقاسم . مجدي حسين- أحلى قصائد الصوفية 1997 . د/محمد الشدادي- كتاب القصيدة الصوفية في المغرب
باحث عراقي مقيم في السويد
22 تشرين الثاني2017