– مقدمة :
قدر الإنسان الكردي أن يحمل ألف حسرة ويذرف ألف دمعة ويطلق ألف ثورة ويشعل ألف شمعة أمل , هذا ما ذكرته إحدى القصائد الكردية القديمة.
للوهلة و النظرة الأولى لا يستطيع المرء إلا أن يبدي إعجابه بمقاومة الكرد وما بذلوه من تضحيات و ما قاموا به من بطولات وثورات عبر الازمان , ولكن عند مراجعة هذه الثورات يتبنى للمراقب حجم الأخطاء القديمة المرتكبة مراراً و تكراراً والتي حكمت عليها منذ البداية بالفشل , ولا يخفي الكرد تعجبهم من عدم تمكنهم من النجاح في أي ثورة من الثورات التي أطلقوها عبر التاريخ سواء في بلد واحد أو في عدة بلدان في نفس الوقت ,
فالكرد لم يتوحدوا يوماً على الصعيد السياسي او غير السياسي و كثيراً ما عانوا من الانقسامات العميقة في صفوفهم والميل المتأصل لخيانة بعضهم البعض , بالإضافة إلى مواجهة حكومات ديكتاتورية شمولية شوفينية قمعية لدرجة أن الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا مناصر الكرد والقضية الكردية عندما ساله احد الصحفيين عن سبب رفضه جائزة اتاتورك , أجابه : حاول ان تكون كردياً لساعة واحدة و اخبرني عن شعورك وستعلم حينها لماذا رفضت هذه الجائزة , و لكن للأسف الشديد لم يبدو على الكرد أنهم تعلموا من أخطاء الماضي ويقعون دائما في نفس الفخ .
وعلى الرغم من تعدد اللهجات والديانات والمذاهب والعادات والتقاليد في المجتمع الكردي إلا أن لدى الكرد تجربة تاريخية مشتركة وتطلعات جماعية واحدة رغم جميع محاولات الصهر و التذويب التي تعرضوا لها وما عانوه من اضطهاد بلغ درجة الإبادة الجماعية في جرائم ستبقى نقاط سوداء على جبين البشرية , إلا أنهم يعرفون أولا واخيراً أنهم ليسوا عرباً ولا تركاً ولا فرساً ويعرفون أين تقع جغرافية كردستان بالرغم من كل عمليات التشويه التي تعرضت لها .
– الكرد و الثورات :
الكرد هم القومية العابرة للتاريخ والجغرافية فتاريخهم يبدأ قبل ٥٠٠٠ سنة وتقويمهم ينطلق قبل الميلاد بما يزيد على سبعمائة سنة متقدما بذلك على التقويم الميلادي الشمسي كما ولهم السبق في انطلاق اول ثورة في تاريخ البشرية بقيادة الثائر الكردي كاوا الحداد , ثورة النوروز العظيمة في معانيها لنيل الحرية والكرامة ضد استبداد وجور الملك الضحاك ، و نتيجةً للظلم والاستبداد الذي وصل لدرجة الاستعباد في بعض الأحيان كان لابد للكرد من إشعال الثورة تلو الثورة وبتعدد الثورات وانتشارها تعدد القادة والزعماء بدءاً من ثورة الأمير بدرخـان سنة 1847م بعد ان ازداد تدخل السلطنة العثمانية في الشؤون الداخلية الكردية وعلى أثرها تم نفيه إلى خارج الجغرافية التركية , مروراً بثورة الشيخ عبيد الله النهري سنة1880م ضد السلطنتين العثمانية والإيرانية لتحرير الكرد مما يوصف بالاضطهاد والتمييز العنصري الذي كان يمارس من قبل السلطتين و التي انتهت بعد محاصرة الجيوش العثمانية والإيرانية للقوات الكردية من كل الجهات وباعتقال الشيخ عبيد الله النهري ونفيه مع عشرات العائلات الكردية الى المدينة المنورة في المملكة العربية السعودية التي توفي فيها سنة 1888م ومن أشهر ما قاله الشيخ النهري ومازال عالقا بالاذهان : (أينما وجد الظلم فذاك هو وطني).
و بعد انهيار الدولة العثمانية و ازدياد تدخل حكومة الاتحاد والترقي في الشؤون الكردية قاد الدكتور نوري ديرسمي مع رفيقه الثوري علي شير باول انتفاضة كوردية عام 1921 ضد ظلم وطغيان الدولة التركية الحديثة العهد استنكارا للسياسات الاستعمارية بتقسيم و تشتيت الكرد وعرفت ثورته بثورة ( قوجكيري)، كما كان له بصمات واضحة في ثورة ديرسم التي قادها السيد رضا لاحقاً وانتهت ثورته بمجازر وحشية لاانسانية ، لتنطلق بعدها الثورة الكردية الاكبر ثورة الشـيخ سـعيد بيـران سنة 1925م ضد السـياسـة الكمالية الفاشية لانتزاع الحقوق القومية للشعب الكردي و جاءت ايضاً تكذيباً لإدعاء الوفد التركي في مؤتمر لوزان 1923 المشئوم للـكرد عندما قال : ” بأن الأقليات المسـلمة في تركية راضية بمصيرها” , وكانت من أكثر الثورات انتشاراً بالنسبة للكـرد حيث اشتعلت في معظم أرجاء كردسـتان تركيا ما يقارب 15 ايالة ( محافظة ) , وشارك فيها مئات الآلاف من الكـرد والآلاف من العرب والأرمن والشركس والأشوريين , وتم قمعها بوحشية شديدة من قبل السلطات التـركيـة و بموافقة غربية و ســوفياتية وعلى اثرها تم اعتقال الشـيخ ســعيد بيران مع 47 من رفاقه وتم تنفيذ حكم الإعدام الصـادر عن ما يسمى محكمة الاستقلال بتاريخ 30 أيار 1925, وأمام حبل المشنقة صرخ الشيـخ ســعيد : (لست بنادم على انني اضحي بحياتي في سبيل وطني ومن اجل شـعبي , يكفي ان أحفادنا سوف لن يخجلوا أمام الأعداء) وحسب مذكرات جواهر لال نهرو) أول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال(1947 عن اعترافات حكومة أنقرة أنه بلغ عدد القتلى الأكراد في تلك الأحداث مليوناً ونصف مليون.
وبعد الوحشية الكبيرة في قمع ثورة الشيخ سعيد تحول إحسان نوري باشا من ضابط في الجيش العثماني إلى قائد لثورة اغري 1930 بعد ان شاهد بأم عينيه الاعمال الشنيعة التي قامت بها السلطات التركية بحق الكرد واخماد ثورتهم الا ان ثورته لم تستمر طويلا لعدم وجود الدعم العسكري اللازم و الوحشية التركية المنتهجة ليلجأ بعدها الى شاهنشاه ايران ويطلب اللجوء هناك هو وعائلته و مجموعة من الثوار إلى حين ما وافته المنية 1976.
وفي سنة 1937م انتفضت محافظة ديرسم الكردية من جديد ( التي تحول اسمها فيما بعد إلى تونجلي سنة 1935 بعد اتباع سياسة التتريك ) بقيادة الزعيم سيد رضا نتيجة القوانين المجحفة بحق الكرد وخاصة قانون إعادة التوطين و القمع و التهجير القسري للأهالي , وقمعت هذه الثورة والانتفاضة بوحشية مفرطة قل مثيلها واستخدم الجيش التركي خلالها سياسة الأرض المحروقة سويت فيها المدينة بالارض و راح ضحيتها أكثر من 50 ألف مواطن كردي واعتقال و تهجير عشرات الآلاف وانتهت بإعدامه مع إبنه في 18تشرين الثاني سنة 1937م.
وجنوباً لا ننسى الملا مصطفى البارزاني الذي بدأ النضال مبكراً وعمره 16 عاماً في حركة الشيخ محمود الحفيد سنة 1919م. ومن ثم مبعوثاً من قبل شقيقه الأكبر أحمد البارزاني للتنسيق مع ثورة الشيخ سعيد , ومن ثم نضاله ضد الحكومات العراقية حتى وفاته متأثرا بمرض السرطان سنة 1979م , ولا بد من الإشارة إلى واحدة من المحطات الهامة خلال مسيرته عندما تولى قيادة الجيش في جمهورية مهاباد الناشئة عام 1946 تحت رئاسة الزعيم قاضي محمد على مساحة 30% من مساحة كردستان ايران والتي لم تستمر أكثر من 11 شهر فبعد انسحاب السوفييت من إيران تمت إعادة السيطرة الايرانية على مهاباد وبعدها بالعام 1947 تم إعدام القاضي محمد مع وزراء آخرين في ساحة چار چرا Car Cira التي منها أعلنت الجمهورية الكوردية, و تابع المسيرة النضالية بعد وفاته ابنه المحنك السياسي ادريس البارزاني مهندس المصالحة الوطنية سنة ١٩٨٦ الى حين وفاته بظروف غامصة سنة١٩٨٧ ذكر فيها الكثير من قيادات الحزب الديمقراطي الكردستاني انه مات مسموما وخلفه بعدها شقيقه مسعود بالقيادة.
وبعد حوالي نصف قرن من أخر تجربة ثورية في كردستان تركيا شهد العام 1984م وبالتحديد ١٥ اب اوغسطس إطلاق حزب العمال الكردستاني أو مايعرف اختصارا ب PKK للكفاح المسلح ضد السلطات التركية القمعية بقيادة الزعيم عبـد الله اوجــلان الملقب APO و رفاقه , واعتبارا من العام 1987 تم إعلان حالة الطوارئ في الولايات أو المحافظات الكردية كافة أظهر خلالها الأتراك أبشع الجرائم ضد الإنسانية من قتل و خطف واعتقال وحرق أكثر من 3000 قرية كردية وتشريد مئات ألاف المواطنين الكرد ضاربين عرض الحائط القواعد والأعراف الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومبادئ ميثاق هيئة الأمم المتحدة , كما ان الجيش التركي الذي كان يقدم نفسه حارساً للعلمانية وحامي عرينها كان يقوم بدعم جماعات وأحزاب متطرفة مثل حزب الله التركي لاغتيال من يشتبه بانتمائهم لحزب العمال الكردستاني , ولكن رغم كل ذلك بقي حـزب العمـال الكردسـتاني شوكةً عصيةً على الكسر في حلق السلطات التركية الفاشية إلى يومنا هذا , وبقي الزعيم اوجـلان القابع في غياهب سجن جزيرة ايمرالي بعد اعتقاله بمؤامرة دولية في العاصمة الكينية نيروبي 1998 رمزاً لهذه الحركة و قائداً لها من خلف القضبان , وبات ملهماً للثورة في غرب كردستان (روج افا) الثورة الداعية الى اخوة الشعوب عبر فكره وفلسفته بمنطق الأمة الديمقراطية والدعوة الى العيش المشترك بين المكونات العرقية والطائفية واستبعاد الفكر القومي الدوجمائي الذي هو سبب الصراعات والمشاكل في الشرق الاوسط.
– الكرد و الخيانة والغدر ….. واقتتال الإخوة :
التسمية التي أطلقت على الكرد فرسان الشرق أو كما وصفهم المؤرخ الإغريقي زينوفون ( 427 – 355 ) ق.م بالمحاربين الأشداء هذه التسمية لم تأتي من فراغ لاستعدادهم الدائم للقتال وإخلاصهم والتزامهم الدقيق بكلامهم وحسن ضيافتهم واحترامهم لنسائهم , هذه الصفات التي تعبر عن شجاعة ولكن كثيراً ما تنتهي بالغدر والخيانة والشواهد عديدة و كثيرة فما حصل لحمزة أغا احد زعماء كردستان ايران الذي لم يكن على علاقة جيدة مع الفرس عندما أقسم له القائد الفارسي بأنه لن يلحق الأذى وهو موجود على وجه الارض و عندما دعاه لعنده قتله وهو جالس في حفرة في قعر الأرض , وبطريقة مماثلة ألقي القبض على الثائر الكردي يزدان شير سنة 1855م , وأيضاً ما حصل للثائر الكردي إسماعيل أغا الشكاكي الملقب بسيمكو أغا زعيم قبيلة الشكاك القوية في ايران و قائد ثورة أورمية ضد السلطات الإيرانية بين عامي 1920- 1930 ( حتى لقبته الصحافة الانكليزية بروبن هود الشرق لشجاعته ورفضه الظلم كما أن الشيخ محمود الحفيد يخاطبه في مراسلاته بقهرمان كردستان ) و لعب سيمكو دوراً بارزاً في النضال التحرري الكُردي في شرق كردستان (روج هلات) و لكن تم الغدر به واغتياله باسلوب المراوغة والحيلة بعد يأس وفشل الإيرانيين من القضاء عليه بالأساليب العسكرية والمؤامرات السياسة والدسائس وتأليب وحض العشائر عليه حيث استطاع الإيرانيون اقناعه بالقدوم إلى المفاوضات وهناك نصب له كمين وقتل في أيلول ١٩٣٠، وبذلك يكون التاريخ يعيد نفسه فقبل خمسة وعشرين عاماً من مقتل سمكو آغا قتل جوهر آغا شقيقه الأكبر أثناء المفاوضات ١٩٠٥ وقبل هذا وذاك و بسنين طويلة دعي إسماعيل خان الجد الأكبر لـ سيمكو للمفاوضات وقتل غدراً ايضاً ، وبعد تسعة وخمسين عاماً من مقتل سمكو آغا قتل الدكتور عبد الرحمن قاسملوا غدراً في فيينا 1989 وأيضاً أثناء المفاوضات مع الحكومة الإيرانية في النمسا و القائمة تطول باسماء ضحايا الاغتيالات من الساسة الكرد ) صالح اليوسفي ، الدكتور صادق شرفكندي ، سكينة جانسيز ، وفيدان دوغان وليلى سويلماز وليلى قاسم …الخ ( ، وأخيرا وليس اخرا خيبة أمل الكرد في إقليم كردستان العراق مؤخرا باحزابهمو بحلفائهم في الشرق الأوسط وسحب البساط من تحت أقدامهم لصالح حكومات بغداد و طهران و أنقرة , ومن كل ذلك نلاحظ سبب ترسخ الحذر والخوف والاحتراز عميقا في نفوس الكرد ولماذا لم يندمجوا داخل المجتمعات التي يعيشون فيها .
وبالإضافة إلى كل ما كان يتعرض له الكرد من عداء وتربص وغدر في محيطهم الاجتماعي والسياسي كانت هناك خلافات عميقة وصلت أحياناً لدرجة الخيانة فيما بين الكرد أنفسهم , ومن منا ينسى ما حصل في كردستان العراق في أوائل التسعينات من صراع بين الحزبين الكرديين الرئيسيين هناك , الصراع الذي أدى الى تبديد ما كان قد بقي من تعاطف مع الكرد في العالم حيث تبادل الطرفين الهجمات والسيطرة على المناطق لفرض النفوذ الأمر الذي أدى إلى إرباك الكرد الآخرين وإشعارهم بالعار وهم يشاهدون من كانوا بالأمس ثوارا ضد السلطات الشوفينية وهم يتحولون الى أدوات في أيدي الدول الإقليمية لتكون النتيجة مقتل ألاف المدنيين الأبرياء من الطرفين , كما صرح أحد الدبلوماسيين الأمريكيين وهو محبط من تقلب الكرد السياسي :(لو أنني .. لم أكن اعرف منذ زمنٍ بعيد أسباب فشل الكرد في إقامة دولة خاصة بهم لأدركت اليوم هذه الأسباب) , وبالرغم من كل ذلك ونتيجة لعدم استيعاب الدرس واخذ العبر يعود المشهد الدرامي السياسي ليتكرر من جديد في إقليم كردستان العراق بعد إجراء الاستفتاء على الانفصال عن الجمهورية العراقية في أيلول 2017 من خلال الصراع الحزبي العشائري بين اربيل والسليمانية بسيناريو إقليمي طائفي و مسرحية سياسية هزلية في ختامها يتجدد الألم و يعود الجرح لينزف من جديد ولتستمر حسرات الشعب الكردي , ولتستمر معه الهزائم السياسية ويذكر ذلك الكاتب الامريكي جوناثان راندل في كتابه امة في شقاق ( الأكراد احترفوا في هذا العالم فن البقاء بعناد كما احترفوا الخسارة) لتبقى بالنتيجة البندقية و الجبل أصدق أصدقاء المقاتل الكردي الذي يبقى ليردد :
كردي … وكيس تبغ , بندقية …. ثم صخرة , وليأتي العالم … كل العالم ..
– بالنتيجة :
نلاحظ ان الأمة الكردية هي الأمة الوحيدة في التاريـخ التي لم تستغل الدين لأغراضها القومية ولم تسعى من خلال ذلك إلى إقامة كيان سياسي وتنظيم جماعي (دولة) يوفر الأمن والأمان ويحافظ على حقوق الإنسان الكردي فإمبراطوريات وسلطنات وممالك عربية و فارسية وعثمانية وغيرها ركبت موجة الدين وأدارت الدفة باتجاه مصالحها العرقية , بينما الكرد عبر التاريخ كانوا دائما يرفعون راية الإسلام الحقيقي والشواهد على ذلك عديدة وأبرزهم الناصر صلاح الدين الأيوبي صاحب الدولة الايوبية التي امتدت إلى شرق و غرب كردستان و خراسان و مصر و حتى اليمن و قال فيه احد الأدباء الفلسطينيين ممجدا : كردياً كان صلاح الدين …انتصر فأصبح عربياً…. ولو هزم صلاح الدين …لكان جاسوساً كرديا…ياللغرابة . كما ان العثمانيون استغلوا الكرد باسم السنة ضد الشيعة في حروبهم ضد فارس وباسم الإسلام في حروبهم بالحرب العالمية الأولى ضد الروس ويدفع الكرد الثمن بقتل الآلاف وتشويه وتشريد عشرات الآلاف.
المحامي سيوار حنان/ مقاطعة عفرين 20/11/2017
المراجع :
– كتاب “امة في شقاق ودروب كردستان كما سلكتها” للامريكي جوناثان راندل.
– الموسوعة الشاملة : https://ar.wikipedia.org
– محمد امين زكي “تاريخ الكرد وكردستان” .
– موقع العظماء الكرد : https://greatestkurds. blogspot.com