في مواجهة الدكتاتورية نشعر بالفخر والشرف لأننا نعيش تحت سلطة ظالمة نتحداها بالصبر والعمل والكفاح والإنتظار، لكننا في زمن الفوضى نرى الكل يقتل الكل، والكل يرى في نفسه الحق والعدل، ويرى في غيره الباطل، ويقتل الرجل الرجل ولايعرف لم قتله. أليست مساحة ممتدة من الظلام تلك التي نحن فيها؟
في زمن مضى قتل من العراقيين الملايين، كثيرون ذهبوا ضحايا الحرب في عقد من الزمان، وكانت جثثهم تضيع في القبور، أو تتناثر أشلاؤهم على السواتر، وفي الأرض الحرام بفعل القنابل التي تنفجر من تحتهم، وهناك من يترك في السبخ كما في معركة نهر جاسم الشهيرة في الجنوب التي قتل فيها ستون ألفا من الرجال نهاية ثمانينيات القرن الفائت، وأتيحت لي فرصة زيارتها عندما سافرت برا الى البصرة، ووجدت أن هناك المزيد من الجثث تحت الأرض طمرت بفعل الطمى والطين والسبخ، بينما كانت قنابر الدبابات مرمية في أكثر من موضع، والأسلاك الشائكة مطلية بلون الصدأ في منظر تقشعر له الأبدان.
ماتت جدتي عام 1982 وهي لاتعرف مصير خالي عزيز قلبها الذي أسر، وبقي إلى أن إنتهت الحرب، ولم يجد من أمه التي ماتت حسرة عليه سوى شاهد على قبر لايشبع حنينه، ولايسكن من أنينه، ويتركه نهبا للذكريات والحسرات والدموع والحزن الذي سيلاحقه طوال حياته، ولايفارقه الى أن يحط معه في قبر ما في مكان ما، بينما الكثير أمثاله عاشوا ذات التجربة، وكثر عاشوا تجارب مرة مختلفة وصادمة صارت حكايات مخيفة عن الظلم والجبروت والطغيان، واليتم والثكل والبكاء المر.
السنوات التالية للدكتاتورية كانت مختلفة بالفعل وصادمة أيضا. فبالإضافة الى ضياع الفرصة في تغيير مهم وحيوي على مستوى الديمقراطية والإستثمار والصحة والتربية والتعليم والنهوض بالبنى التحتية، فإن دخول جماعات العنف المنظم، وتدخل الدول الأخرى في الشأن العراقي، والصراع الدموي الطائفي، والفساد المالي والإداري المريع، والتنافس السياسي القبيح، وسرقة المال العام، وتخريب مؤسسات الدولة، وعدم الشعور بالمسؤولية ،وإنشغال الناس بالدنيا والمكاسب الشخصية على حساب الوطن كلها عوامل أشعرتنا بالخزي والخوف من المستقبل، وفقدان الأمل ببناء دولة قوية مقتدرة ناهضة ترعى أبناءها، وتوفر لهم ضمانات الحياة الحرة الكريمة، فكان السياسي أحرص على نفسه وأسرته ومنصبه من حرصه على شعبه ورعيته ووطنه، ولم ينتج شيئا مختلفا، ولم يقدم ما كان مرجوا منها.
راعني منظر الجثث التي أنتشلت من مجار المياه الثقيلة في كركوك، وتذكرت الجثث المرمية في الشوارع بفعل التفجيرات الكبيرة بالسيارات المفخخة، والعبوات والأحزمة الناسفة، وتأملت وأنا أطوي سجل الحزن على مافقدناه من شبان في سنوات الطائفية والقتال ضد القاعدة وداعش وحقد الناس على بعضهم والترويج السياسي والإعلامي القبيح للطائفية، والمتاهة التي عشناها خلال عقد ونيف من الزمن كان كفيلا بأن يؤسس في الذاكرة لصورة محزنة من خيارات كلها بائسة، ولم نعد ندرك الى أين نحن ماضون؟ فأسباب الخراب مازالت بيد الفاعلين السياسيين واللصوص والقتلة.