24-12-2017
لن يختلف اثنان على مقولة ليس في السياسة الدولية عواطف بل عقول، ولا مجاملات بل مصالح، وليس في السياسة خصومة دائمة، ولا صداقة دائمة؛ فصديق اليوم قد يكون خصم الغد، وخصم الأمس قد يصبح صديق اليوم، هذه المقولة التي اصبحت من اهم ركائز الرؤية البشرية لمفهوم السياسة في اغلب اصقاع العالم الحالي بشطريه الشمالي والجنوبي، مع اختلافات في الصورية التي تتمثل بها السياسة من شطر الى اخر، فبين التنافس السياسي الحزبي الفكري الى افاق اضيق ضمن دائرة التنافس المغلف بالسياسي، وهو في الاصل التنافس الطبقي الديني المذهبي الطائفي القومي القبلي.
ولايجد المتتبع لمدلولات السياسة في الشطر المدني الديمقراطي الحزبي الفكري الساعي للوصول للسلطة اية صياغات تناقض شعاراتها المبنية على اساس الحفاظ على المصالح الوطنية والقومية بالدرجة الاساس والتي يعتبر المس بها انتهاكاً صريحاً لكل الشرائع واللوائح والقوانين بالنسبة لهم، وهو ما يستدعي بالتالي الوقوف بوجه تلك الانتهاكات بكل الوسائل وشتى السبل حتى لو كانت تتطلب العبور فوق جماجم الاخرين فالامن القومي لديهم فوق اية اعتبارات اخرى، وذلك ما يفرض عليهم اتباع بروتوكولات خاصة تحمي مصالحهم الامنية والقومية والوطنية والمدنية على حساب اتفاقاتهم ومعاهداتهم مع الاخرين، مما يعني ان لاثوابت سياسية تتعلق بالصداقات لديهم اذا ما مست ولو من بعيد الامن القومي لديهم.. وهنا قد ينظر الى تلك الرؤية بدونية من قبل الشعوب المستضعفة الساعية لبناء مجدها “اعلامياً” على حساب اللاوفاء بالعهود والاتفاقيات من تلك الدول الاخرى، ولكن الحقيقة الواضحة هي ان الدول المستضعفة تعيش في وهم المجد الاعلامي فحسب والواقع يبرهن دائما على خلوها من اية مقومات يمكن الاستناد عليها والاعتراف بوجودها كدولة تستحق الاحترام سواء من الداخل او الخارج، وبعبارة اخرى سواء الشمال او الجنوب، فالمنطق هو الذي يفرض نفسه دائما والمصلحة الوطنية هي التي تعطي الثبات لدى الغير اما لدى هولاء فالثبات يكون في الابقاء على الكرسي مصوناً ومحفوظاً من اية هزات وتغيرات.
على ذلك الاساس تأتي الرؤية الثانية النابعة من السياسة الطبقية والدينية والمذهبية والطائفية والقبلية وفق معطيات تنتمي الى الوهم الشعاراتي المبني على اسس البيان والبلاغة والصراخ والتحريض واثارة العواطف الدينية والمذهبية وحتى القومية المكسوة بالرداء القبلي، فالبعض من هذه الدول تدَّعي كونها دول ديمقراطية وتستشهد باحزابها التي وفق رؤيتها تتنافس على ضوء البرامج البناءة وخلفية الخطابات السياسية “بتصويرها الاعلامي القومي القبلي” والخطابات التوجيهية النيرة” بردائها المذهبي” والرؤى الاستشرافية ” بكسوتها الدينية القومية ” الظاهرة المعالم المحبكة التفاصيل، بحيث تجيش العواطف وتصعق القلوب وتفطرها فتخرج الجموع من اوكارها الى الشوارع ثائرة هائجة تحرق وتسرق وتنهب باسم الثأر والمقاومة والحرية والى غير ذلك من التداعيات التي لاتثبت غير الانكاسة النفسية وانعدام الثقة وغياب الوعي السياسي الحقيقي المبني على الحفاظ على الثوابت المتعلقة بالامن القومي والوطني، وامكانية الاستحداث في السياقات الاخرى التي لاتمس المصلحة الاساس، فتاتي شعارات هذه الدول على اسس واهنة ضمن تصوير عنكبوتي شائك، في الاعلام يصرخون بالضد، وتحت الطاولة يوطدون الاواصر التي تدعم بقائهم على الكراسي السلطوية دون الالتفات الى المعيات الاخرى التي يمكن ان تغير معالم الموجود الواهن والواقع المرفوض اجمالاً، فتأتي كل التحركات مناقضة للمفاهيم التي يمكن اعتمادها كوسيلة للمطالبة بالحقوق او حتى كسبها، فتخرج عن دوائر الرصد العالمي الدولي لتصبح مجرد حركات عابثة غوغائية في انطلاقتها وتصوراتها وعقائدها وافعالها والنتائج تكون في الغالب كارثية على الجميع دون استثناء.
ولايمكن ارجاع الهزائم المتكررة لهذه الشعوب الا الى المنظومة اللاواعية التي تنطلق منها مطالبة بحقوق ربما هي ضمن دوائر المصالح السياسية الدولية لاتخدم ثوابتها، لكونهم يدركون تماما بان تداول الانظمة وفق معايير هذه الدول الساعية للتغيير سواء الدينية المذهبية والطائفية او القومية القبلية لايمكن الاعتماد عليها، لكونه عاجلاً ام اجلاً ستتحرك النعرات وبحسب الظروف ما تسمح به الظروف في السياقات الدينية والقبلية التي ستدفعها إلى الواجهة والصدارة، معتمدة على القدرة التأويلية الموروثة من العقلية الغاباتية ” منطق القوة” المبنية على اسس الحمية التي تتشكل منها معالم الوجود السياسي الفعلي والتي ايضا تأخذ زمام الأمور من الوهلة الاولى مع الإحساس الجديد بالمكانة المكتسبة و من خلال خلاياها لتضع معالم وجودها السلطوي السياسي وفق منطقها الخاص “القبلي الجهوي التحالفي” حتى تؤول اليها السلطة المطلقة.
وكل هذا ما يفرض علينا البحث في العينات الاستدلالية والواقعية لمفعولية مفهوم خبث السياسة والنظر في الترافقيات التي تجعل الانسان يُقّر بخبث السياسة مع العلم ان الانسان نفسه هو الذي يمنطق المفهوم اساساً ويخلق المسار ويفتح امام المدلول بالتحول وتقبل المتغيرات والمتحولات على جميع الاصعدة سواء تلك التي تخدم مساعيه لفرض وجوده او لتحقيق غاياته وحاجاته ورغباته، فتأتي الرؤى بعد ذلك منطلقة من صميمه الواعي بالواقع لترسم ملامح السياسة التي يريد ان يتبناها ومن نفس المصدر نراه يطلق على السياسة التي لاتتطابق وحاجاته وسعيه بالخبث، وليس من شك لدى احد بان مهنة الساسية تتفرد على توفير أدلة براءة المتهم وتجريمه في آن واحد كما يقول “المامون حساين” لعدم ايمانها بصداقات ولا عداوات دائمة ولا تمنح الأصدقاء ثقتها وتتربص بالأعداء وتفرض قيمها الأخلاقية على ممتهنيها وتجردهم من أخلاقهم الاجتماعية، وتشترط إتقان أساليب الخداع، والمراوغة، والكذب، والغدر، والشك لاحتراف العمل السياسي يقول مكيافلي”على الامير أن يتصرف كالحيوان عليه أن يقلد الثعلب والاسد في نفس الان”.
بدليل ازدواجية أخلاق السياسي فمن جهة يوحي التزامه بقيم المجتمع الأخلاقية ومن جهة أخرى سلوكه يعكس قيم السياسة الأخلاقية، ففي الأولى يكسب ولاء المغفلين والسذج وفي الثانية يخدع أقرانه السياسيين لتحقيق أهدافه الخفية… ومن هنا تأتي الاستدلالات الاجمالية التي يمكن الاعتماد عليها كوجهة نظر خارجة على السياقات السبقية التي فرضها المصطلح ضمن دوائر الواقع العياني من حيث التنظير الفعلي والفرضي، ويمكن اعتبار ان اساس الخبث هو البشر ” الانساني ” الذي تجبره رغباته وحاجاته ورغباته وميوله وطموحاته على اتباع نهج يفترض انه ضمن السياق الاصطلاحي ” سياسته” لتحقيق تلك الحاجات والرغبات، ومن تلك الوهلة تبدأ المصاغات البلاغية برصد نوعية الحراك ونوعية الوسائل المتبعة والوجهة الاساسية لها لتطلق عليها ما يناسبها، ولكون الوقائع تاريخياً قديماً وحاضراً ومعاصراً لاتشير سوى الى المتغيرات التي لاثوابت لها ضمن هذا المسار الرغبوي الحاجاتي الانساني فان المصوغة الاكثر انتشارا عن السياسة اصبحت الخبث، وفي الاصل ان الخبث هو الاساس الذي اعتمده الانسان الاول للسعي لتحقيق رغباته وحاجاته حتى وصل به الامر الى استخدام ابشع الوسائل لازاحة ازاحة المنافس.