تنفتح المساحات في ديوان “ضجيج السكون ” امام الرؤى الشعرية لتتواصل في مداياتها مع الاواصر الذاتية الشعورية الانفعالية من جهة “و ألطخ الحِبر خلف صَدى جرَاحِي أهدم مِن صَدرِي مَنازلَ العَنكَبوتِ”، وبالرؤى النابعة من الخيالية الملتحفة بالواقع العياني من خلال استعارات اصلية واخرى تبعية واخرى حقيقية واخرى تخييلية، كلها تعمل وفق منظومة متداخلة لتشكل في النهاية لوحة معالمها تحدد من خلال فهم القيمة الاستعارية من جهة والعلائقية بينها وبين الاحالات والتشبيهات التي حاولت الشاعرة ان تغرسها بين جنبات ديوانها الشعري، وفق حراك موفق حداثياً ولغوياً وصورياً ، فالديوان يُبرز لنا من الوهلة ومن خلال العنوان ذاته ” ضجيج السكون” القيمة الحداثية في خلق التضاد وفتح المجالات لتعددية التأويل، فضلا عن التلاحم مع القيمة الاستعارية التي تعتمدها الشاعرة في تكوين وخلق معالمها الشعرية، وهي بذلك تعطي الانطباع الواعي حول الماهية والكيفية التي تريد ان تبث من خلالها رؤاها الوجدانية والشعورية والفكرية لكون ان الاستعارة في البيان هي صيغة من صيغ الشكل الفني في استعمالاته البلاغية الكبرى، حيث تحمل النص ما لايبدو من ظاهر اللفظ، او بدائي المعنى، وفي الوقت نفسه تعمل الاستعارة على خلق ممرات التآلف بين الرؤى المطروحة ضمن دائرة العملية الابداعية لتضفي على الالفاظ المنتقاة بعض المرونة والنقل والتوسع،“و شراعُ سَفينتِي صارَ سَجِين..”، وتضيف الى المعنى مميزات خاصة نتيجة النقل الذي قد دل على معنى اخر لايأتى من اللفظ خلال واقعه اللغوي، وبذلك تنقل الاستعارة النص من حالة الجمود اللفظي المحدد الى السيرورة في التعبير، والمثلية الذائعة في الاستعمال، ومن يتمعن في “ضجيج” الذي رافقه ” السكون” سيدرك الاشتغال الواعي للشاعرة في توظيف دلالاتها وفق منظومة الاستعارة التخييلية في العنوان من جهة، وكذلك العمق الحسي الانفعالي الذي خلق تلك المساحة المتضادة في الذات الشاعرة، بحيث اتت الفاظها متناسقة مع الحراكات الجوانية للحالة الانتاجية الابداعية التي تعيشها، فاستعانت بتلك الاستعارة لتحيل وقعها الجواني الى عنوان قصدي متميز.. وهنا لابد من التأمل قبل الخوض في المعيات التلازمية الاخرى، باعتبار ان الاستعارة وحدها لم تكن هي الفعالة، انما ما اعطت الاستعارة حقها التوسعي في التنقل التخييلي كان الاحالة نفسها، فالصاق الضجيج بالسكون او احالة الضجيج البراني الى السكون الجواني اعطى للاحالة نفسها قيمة وحضوة، والاحالات كما يقول “د.محمد اسماعيل حسونة” في الانتاج الابداعي لاتاتي بصورة عبثية، لكونها في الاصل حالة تعبيرية فنية قصدية واعية تمط من امتدادية الانتاج نفسه، فتجعله موصلاً بجذره الزمني والمكاني السحيقين والمكتنز بالرؤية الانسانية والتاريخية على المسوتيين الشعري والحياتي” ألتَمس خطواتي في صَحرَاء عمرِي ..أهربُ مِن خرافات جدتي و أبحَثُ فِي جِبهتي عَن صدَى أو جراح…” ، لتعبر من خلالها الى حالة الزمني المزامن الممتلئ بالمحركات المواكبة لتلك الرؤى، ومن خلال هذه الحركة الافقية الارتدادية المتزامنة الموغلة في العتاقة والحداثة معاً يتاح للرؤية الشعرية مسافة زمنية شاسعة تجعل من الاختيارية امراً خيالياً يطال المدهش والجديد، ويستنفر الطاقات الراقدة في اللغة والفكر ويحيط بالظواهر الجمالية ويقترب كثيرا من منابع الدلالة وخزاناتها ويطل على معادلات موضوعية تشد من ازر الرؤية الشعرية التي تحوم في الانتاج الادبي الذي تتحرك في اوردته تلك الاحالات، ولنعيش تلك الحالة الاستعارية الاحالية علينا تأمل هذه الوصلة الشعرية ” سَأدفن صَرخَتي بِـ” ضجيج السُّكون “ ،”لا يمَامةً تصدحُ شقراء في الوَادي….سَأرْنُو إلى السَّقْف و البُحيرَة و السرير..” ، “فالمهد مُكبل…..إنّي أرتجفُ وَحيدة عند الغروب..” تلك هي المساحات التي اشتغلت عليها الشاعرة في ديوانها الممتلئ بهذا الضجيج الساكن.. المتنقل بين الذات الشاعرة وتلاحمها مع البراني وفق معايير هي وحدها يمكنها ان تقيس مدى توافقها مع عدم توافقها مع الواقع الحياتي، ولكنها في الوقت نفسه تعطينا الحق في تداولها لنكون كالعبارة التي تنقلها من شاطئ الى اخر، وعلى ذكر الشواطئَ ما اكثر تلك الصور التي تداولها الديوان عن المائية التي تحيلنا وفق استعارات مهيمنة من البحر والمطر والماء..” كم هي مِسكينة قطرات الماء..حين تشردتُ منْ نَهرها الى مَهبِها..”.
يصدح الديوان بالعديد من الصراخات، صراخات الذات المنفعلة احياناً والمتفاعلة في احيان اخرى، وبين الانفعال والتفاعل تكثر المدايات، وتستمر الحالة النفسية للشاعرة في استمثارها لقواها الخفية لتحقق بذلك اعلى مستويات التلاحم البلاغي الشعري الصوري، ولتخرج في النهاية صور انتاج ادبي مفعم بالحيوية الشعرية ، فحين تقرأ في صمت عاصف”أنا لستُ إلا مَوجةً هَوجاءَ تُؤذنُ بالتَّواري… و أنزف من كياني”، وفي بلاشيء ” لا أحدٌ يعرِفُ شيئاً عن قبور بِلا أسماء ..و عن أعضاء صارت أشلاء ….وحذاءٌ يُدفَنُ قُرْبَ حذاءْ..” ستدرك ان الاستعارات والاحالات هنا لم تأتي عبثاً انما هي امتداد طبيعي للرؤية الشعرية الصاخبة التي نبتت من الجواني فارادت ان تخرج لتعطي انطباعاً ذاتياً حول البرانيات الواقع الذي يحركها ولتتساؤل بحرقة ” هَل يَنْبُتُ وردٌ من مشْنَقَةٍ ؟..” ، انها الحالة والموضوع والسؤال والجواب في الوقت نفسه، لكونها لاتنقل خيالاً، انما تحاول ان تثبت عبر عباراتها ما يراه البعض خيال وغير ممكن واقعاً في عالم الانسان، وفي على جناح غيمة تثبت مساراتها ” مازلتُ أمشي في شوارعٍ مهجورةٍ…” لتظهر للمتلقي وقع الصدمة والدهشة معاً على ذاتها، وفي طريق يكاد يطير تأتي الصورة اكثر عمقاً وتأثيراً على النفس ” كَانَ لُبُّ الشَّجَرِ يابسٌ في كفي…” ، فاللب اليابس ليست استعارة تبعية انما هي استعارة اصلية استطاعت الشاعرة من خلالها ان تحقق مقصدها في توظيف اللفظة لتأتي الصورة متوحشة في مضمونها وموضحة في ظاهرها، فهذا ما احالنا الواقع اليه ، ” أطلق زفيرا .. شهيقا … أحترق…و الكبد المفتت بين طيات الأرق…” ولتستكمل المشهد الاحتراقي تقول في نملة الرصاصة” و عَلى أسوارِ لُجَّةِ الظَّلاَمِ….تَتَزاحمُ الأوجَاع … تَحْتَرِقُ حَدَائِق صَمْتي…” انها استعارات حقيقية وفي الوقت نفسه احالات مفعمة بالصورية المشهدية الحداثية التي تبرهن على مدى تفاعل الذات الشاعرة مع موضوعاتها الشعرية سواء أكانت انسانية ام وجدانية ام متعلقة بالوطن.. الحب التائه ” عَويلٌ منْ أَعَالي التِلال يَصْرُخْ..احتَرقَت أَرض الخدَاع … اتسَخَت..” انها الصورة الحية التي قد لايستوعبها الا من يمر بتلك الحالة الشعورية سواء حين تنظر الى الارض او السماء، وبذلك تتحول الذات الى ممرات تحترق فيها كل الموجودات، فتقول في غطاء الارض المنقوش” خَريرُ الماءِ في أُذُني يَصْدَعُ..و في جَوْفِ الرضيعِ نارٌ في احْتراقٍ…حِين أُصْغي لنَعيق الغُرَاب..” وما اعمقها هذه الصورة التي لاتعتمد الصوتية فحسب”نعيق” انما تضيف اللونية ” السواد” حيث الان هو الوجه الحقيقي للواقع في اغلب اصقاع الخراب الارضي، وفي حكاية في نفق تعبر عن حالتها ” دثَّرَني صمتي بلحافٍ من بَريق الأشياء مزَّقني و شرَّدني…هَل ضللت طريقي؟..”، وعلى الرغم من محاولاتها للخروج من دائرتها الاحتراقية الممزقة والمشردة والتائهة تلك الا انها تبقى اسيرة رغم اتخاذها للحلم كممر للخروج فتقول في كابوس انت كرداء قديم ” ترسُو حَياتِي …فِي قبرِ الأحلَامِ..” وفي الدقيقة الهاربة ” يا أجملَ الشفاه،عيناكَ سِربُ حمامْ وثغرُكَ كأسُ مُدامْ … لكنه حلم لايستمر..” فحتى الاحلام تم احالتها الى القبر، انها في عمقها النفسي والدلالي وحتى الصوري حالة نفسية قريبة من الهلع ولربما هو هلع ناجم من حالة القلق العام والدائم حول كل الموجودات التي تبصرها ولكنها لاتستطيع ان تتفادى رؤيتها وهي تتهاوى في الخواء ، انه الرعب الحقيقي ، لذا نراها تقول في غص الطائر” و الرُّعبُ يَضرِب أُغْنياتي….كأنَ مِقصلة قَطَعَتْ رَأسي”و في قبلة المساء ” يَكَادُ يفُتِتُ عُرُوقِـي المُتَهتّكة…و يـَلْتَحِفُ بالسـَّمــاءِ المُعـْتِمَةْ…” تُحيل كل هذه الصواعق روحها الى اللجوء للتساؤل والحنين الى الماضي كما في كوكب القمر” دَمعُ الحنين يُردد اللحن في فؤادي يَخْتَنِق …” ، لكنه حنين يختنق ، اذا اجمالا هي الذات المتبعثرة التي تفتت جراء الفعل الزمني والمكاني معاً فسكنتها الغربة حتى اغتربت بين اشجار ونخيل وبحر وطنها.. وتلك الغربة هي التي وطدت المكانية في ديوان الشاعرة بشكل متناغم ولو بوجيعة مع نفسيتها ومشاعرها وانفعالاتها وتفاعلاتها.
ومن خلال رصد حركية الانفعالات والتفاعلات لدى الذات الشاعرة يمكن الوقوف على تلك البيئة الصارخة الممتلئة بالضجيج من جهة والتي استطاعت الشاعرة من خلال الاستعارات الواعية من رسم جغرافيتها، وفي نفس الوقت الوقوف على ماهية السكون الذي تناشده تلك الذات عبر الانغماسات المائية وذلك في حالة استمرار للتضاد في التكوين البلاغي والصوري الناجم من حالة الاغتراب النفسي والقلق العام، داخل الحركة الشعرية في الديوان،في ما خلف النقاط تقول الشاعرة “عُودي إلى الصحراء المموجة..” وذلك للتعبير عن الرغبة في تأصيل البيئة الانتمائية والتي يمكن ان تصور الوطن ايضا من جهة اخرى، وفي طنين بلا ذباب ” ها أنَا في تِلك الصحراء… ” انها مسألة توقيت ضمني عبر الاستدلال المكاني وهي حالة تحسب للشاعرة اذا استطاعت ان تعبر عن الزمنية زمنية الانفعال عبر حالة التفاعل المكاني، وتستمر حالة التفاعل مع البيئة في وعد بلا موعد ” غزالة الصحراء..” وبذلك تصور الشاعرة وقع البيئة المكانية على ذاتها، محاولة ان تحول صور الاغتراب الى وصفيات تخرجها من قوقعة الواقع الحياتي المؤثر على مجمل رؤاها، ولكن كما في الحلم الامر لايستمر، فحالة التضاد النفسي الذاتي الاغترابي ومن ثم الواقع الذي تحول الى كابوس وذلك من خلال الصور التي تلتقطها عدستها المبصرة، ومشاعرها الحساسة، وفكرها المتقد الذي يريد ان يحول واقعها الممتلئ بالوجيعة الى واقع اخر، كل ذلك ما تصطدم به تلك الذات المنفعلة والمتفاعلة لتقول بحرقة في صمت عاصف ” يا شواطئ المرجانْ….. أيتها البحار الهائجة هذه ليست سفني..” في نقلتين متزامنتين، فمن الصحراء الى البحر.. ومن غزالة تقول ها انا في الصحراء الى الغربة .. هذه ليست سفني.. انها حالة صدمة تبعث في النفس الوجيعة، وفي النص تحدث النقلة التي يمكن ان تبحث عنها الشاعرة، لكونها ستفتح امام مخيلتها مساحات واسعة من الاستعارات والاحالات التي تخدم قضيتها داخل جدران الديوان، فمن الصحراء والنخيل وشواطئ المرجال والسفن نجد الذات تعيش وقعها الاغترابي بشدة وتنفعل وتتفاعل بعمق اكثر حتى تقول في الاشباح التائهة ” أغالب نفسي على شواطئ غريبة “، وفي تنين الظلام ” فيثقلني الوُقوف و حباتُ المطرٍ تزدادُ في الهُطُول..”، وتستمر الحالة في هيجانها الاغترابي لتقول في طريق يكاد يطير” و جبين العاصفة تفصَّد ثلجا أسودا…… لن أخشى الغرق…” انها تكافح وتحاول عدم الاستسلام، ولكنها لاتصمد ففي نملة الرصاصة ” و خَلْفَ مَوانئِ الغَرق…… أغمس أوراقي في الماء..” هذه الانغماسة لاتاتي من فراغ، انما هي تعبير ذاتي للذات نفسها، ولتؤكد حتمية الغرق تأتي في حكاية في نفق لتقول ” و عويلُ حكَاياتي أَغرقَ السفِينَةَ..” واذا ما غرقت السفينة فانها ستغرق بحمولتها بلاشك، وهذا ما جعلنا بالتالي نجد في الحراك الدلالي للنصوص تحولات درامية احيانا، لاسيما فيما يتعلق بالتشبيهات التي لايكاد يخلو نص من نصوص الديوان منها، تلك التشبيهات التي نمت داخل ايقونة النصوص عبر التلامس الوجداني التفعالي من جهة، والمعنوي المثار من قِبل التحولات النفسية والحسية والانفعالية من جهة اخرى، واذا ما تأملنا تلك الالفاظ التي استخدمت للتعبير عن التشبيهات سنجد في تنوعها مصدراً اخراً للحالة التضادية الذاتية للذات الشاعرة نفسها،”، كأشواق، كرحِيق ،كَحنينِ ،كخليّة ، كَالبحر، كارجوحة ،كاللفافة، كحبلٍ، كالرعدِ ، كالصواعقِ، كهيجان.. كقبضةِ، كشَبكةِ كَتَمسُّك الغَريق..، كقطع السكر….” انها احالات واستعارات في الوقت نفسه، وهي ليست مجرد الفاظ بلاغية وظفت لاغراض عبثية، لكونها في الاصل تعابير دالة على متحولات كثيرة تثير الدهشة والصدمة في آن واحد، وهي في الاجمال تنقل النص عبر مداياتها الى افاق تخييلية اوسع وابعد مما يمكن ملامسته بالظاهر بالبياني.