البراعة المدهشة في التوغل في اعماق الواقع السياسي والاجتماعي , واكتشاف حقيقة الدلالات التعبيرية , ووضعها على مشرحة المتن الروائي , في التناول والتمحيص , وتحليل مكوناتها ببراعة الواقعية الانتقادية او الواقعية السياسية , في مكوناتها المتحركة بشكل فعال على الواقع اليومي ونشاطاته الدؤوبة , في المؤشرات الرؤية التحليلية , بكل التفاصيل الدقيقة بالرؤى الفكرية , المشحونة بالصراع السياسي , وحالة التجاذب المشحونة بالحدية العنيفة , لاصعب فترة عصيبة مرت على الواقع السياسي والاجتماعي , عقب انبثاق ثورة 14 تموز عام 1958 , التي تميزت في مسرح احداثها وتطوراتها المتلاحقة , في التجاذب الحاد بين قطبين متنازعين : التيار اليساري من جهة , والتيار القومي / البعثي ولحقهما الاقطاعيين واعوان العهد الملكي من جهة اخرى , ليقطعوا الطريق على الثورة وقطع اوصالها , وجعلها تغوص في اعماق الرمال حتى اجهاضها , هذه سمات العمل الروائي ومنطلقاته الفكرية , التي برعت في خلق عالم روائي متكامل , بكل التفاصيل الواقعية , على مسرح تطور الاحداث الدراماتيكية المتسارعة . التي تعطي معاني الافعال التي تؤجج بؤرة الصراع السياسي نحو التأزم الحاد , في المعنى والادراك , في العقلية السياسية السائدة آنداك بعد انتصار الثورة , ومتابعة مجرياتها اليومية , بعين لاقطة مفردات قاموس المواجهة في الصراع , والظروف المحيطة , التي تعمل على تعميق الانقسام السياسي , , في التخبط وانغلاق الرؤية السياسية الواضحة , وفقدان صوابية افعالها , هكذا وجدت الثورة هذا المناخ المتأزم , ولم تحسم امرها , ضمن دائرة التجاذب السياسي الحاد الدائر رحاه بحرب الضروس , لقد صنعت الثورة لنفسها وضعاً شاذاً ومتقلباً , ومتجاهلة دسائس الاقطاعيين واعوان العهد الملكي , والتهاون والتردد في مواجهة التيار القومي البعثي , الذي كشر انيابه , وراح يعمل بكل وسيلة في اجهاض الثورة بل اعطيَ له فرص ثمينة لجناحه العسكري , في تولي مناصب حساسة , في احكامه العرفية الصادرة , التي هي في الواقع , سلب الثورة من جماهيرها الحقيقيين . لقد خلقت الثورة بافعالها السلبيةبأن تسجل نقاط ضدها , لا لصالحها , ويجعلها تسبح في التخبط السياسي , وبذلك قدمت خدمة كبرى للجناح المعادي لها , والذي يعمل على اغتيالها . هذه المكامن الخطوط العامة للمتن الروائي , الذي ابدع في تقنية الحبكة الفنية بعناصرها الثلاث المكونة من . لغة السرد التي رصدت ادق التفاصيل اليومية للافعال السياسية المكشوفة , بسردية واضحة بالتشويق والشد الدرامي المتصاعد . وكذلك برعت في وصفية المكان . وقدمت للقارئ , بشكل مشوق وممتع , الخريطة الادارية بكل التفاصيل لمعالم مدينة ( الحلة ) , في ايقاع النشاط اليومي المتحرك والدؤوب , في الاماكن والطرقات والمحلات والاسواق والمقاهي الشعبية , في معالم البارزة في المدينة. وكذلك لعب الحوار والحواريات , دوراً بارزاً , في انضاج سمات فضاء الروائي وأداته التعبيرية , التي كشف عن التحولات والتطورات الدراماتيكية , ورصدها بالعين اللاقطة لتدوينها , وكذلك متابعة العمل السياسي الجماهيري المناصر للثورة , وبرعت في معرفة الدواخل الداخلية لشخوص الرواية , الذين هم نتاج الواقع السياسي , بتشكيلاته السياسية المتصارعة والمختلفة . كما انها اخذت مساحة بارزة لمعاني الحب النقي , واضاءت جوانبه المضيئة , وبرزت معالم الظلم الاجتماعي وعقليته السائدة , في ظلم وحرمان المرأة من حقوقها الشرعية , وعقلية العشائرية في غسل العار وبحجة الحفاظ على الشرف , وانها مقيدة بسلسلة من المحرمات الطويلة , والاهم في تشكيلات النص الروائي , اشتغل في اظهار ازمة الثورة , وتقوقعها على نفسها , ولم تحاول الخروج من شرنقتها . كما هو الحال ينطبق على الاحزاب السياسية , وتياراتها الفاعلة والمتصارعة , هي ايضاً تعيش في ازمة حزبية وسياسية . ولكن الذي عمق الازمة السياسية في العراق , هي اجراءات الاحكام العرفية الصادرة من الحاكم العسكري العام للثورة , بمنع حمل السلاح , ونزع سلاح عن المقاومة الشعبية , التي هي تعتبر الدرع الجماهيري الحامي والمدافع عن الثورة . وكذلك احكام العفو العام لاعوان العهد الملكي والاقطاعيين بالافراج عنهم , و في عودة الجناح العسكري لتيار المعادي للثورة ( القومي / البعثي ) , في تكليفه بمهمات ومسؤوليات لمناصب حساسة في الدولة , تأتي هذه الاجراءات , في خضم الصراع السياسي الحاد القائم , مما أفقد الثورة الهوية والانتماء السياسي المحدد لها , وانها بالحقيقة تقوم بعملية القضم بأكل ابناءها , وتسمين ابناء اعداءها , لتقوى شكيمتهم , حتى يستطيعون الانقضاض عليها , هذه هي معطيات النص الروائي بكل تفاعلاته السردية , وبالتفاصيل اليومية في الواقع السياسي , وفي مسار الاحداث الملتهبة , كأن الثورة تسيرالى هاوية في السقوط في فخ اعداءها , من هذه المنطلقات التي ركزت عليها رواية ( الجسور الزجاجية ) التي جاءت مشبعة بالافكار السياسية والفكرية , لواقع مسرح الاحداث آنذاك . وكذلك في المدلولات الرمزية والترميز في المغزى من الجسور الزجاجية , التي يستشف او يستدل في التعبير والمغزى الدال , بأن الثورة كانت تمشي على جسور زجاجية , قابلة للتكسر والتحطم , في انقلابية احداثها الدراماتيكية , في الصراع السياسي الذي يرفض التعايش , والتعامل السياسي السلمي . لذك جاء المتن الروائي كأنه يصور احداث درامية فيلم سينمائي متكامل , في السيناريو والاعداد والاخراج , يسجل يوميات الثورة , ودخولها في شرنقة الازمة العويصة , لا يمكن ان تخرج سالمة , إلا في اجهاضها ثم غتيالها . وقبل الدخول في تفاصيل المتن الروائي , لابد من التذكير في المشتركات العامة , بين رواية ( الجسور الزجاجية ) ورواية الكاتب الكبير نجيب محفوظ , في رواية ( اللص والكلاب ) , في سجن ابطال الروايتين بتهمة السرقة , وخروجهما من السجن بعفو عام من الثورتين ( المصرية والعراقية ) . وكذلك وجودهما في وضع شاذ بعد خروجهما من السجن , في رواية ( اللص والكلاب ) وجد ( سعيد مهران ) زوجته تزوجت من اقرب اتباعه واصدقائه المقربين له . وظل يكابد بكل جهده في ايجاد حلاً للعدالة المفقودة , وفي عواصف خضم الصراع , وجد ان العدالة تبتعد عنه بعيداً , ويقع في دائرة التخبط والخيبة بالافعال المتشنجة في سلسلة من الاعمال الاجرامية , بدوافع القصاص من الذين سلبوا حقوقه العادلة المفقودة ,لكن يجد نفسه يقتل الابرياء . وبالتالي تكون نهايته القتل . بينما ( مزعل ) بطل رواية ( الجسور الزجاجية ) يجد ايضاً الوضع الشاذ بعد خروجه من السجن , بأن زوجته ( شمسة او شمس ) قد تزوجت من رفيقه الحزبي ( صلاح ) بشكل شرعي . بعدما ورد اسمه من جملة الاسماء الذين قتلوا في مجازر السجون , الكوت . بغداد , وتم انقاذها من السجن وبراثن الشرطة في تهريبها الى الاهوار , وهناك تم عقد الزواج الشرعي , بالاعتقاد بأن ( مزعل ) هو من ضمن القتلى السجناء السياسيين . لان كانت تهمة السرقة ملفقة , لانه ضبط مع زوجته ( شمس ) في وكر حزبي , وكان قد انقذها سابقاً من براثن الاقطاعي الجشع ( ذياب القصير ) بتهريبها من سجنه , والزواج منها بدون علم اهلها . هو مطارد سياسي حين القي القبض عليه , وليس لصاً سارقاً , وتحمل العناء في سبيل حبه الصادق , الذي كسر العنجهية الصلفة للاقطاعي ( ذياب القصير ) , الذي يعتبر الفلاحين وعوائلهم عبيد وجواري له . بالمقابل زوجته ( شمس ) تحمل وتبادله الحب الصادق , لذلك جازفت في الهروب والزواج بدون علم اهلها , وتعرف بأنها ستكون مطاردة بالقتل لغسل العار , وهي مثقفة وناشطة سياسية وحزبية , محسوبة على التيار اليساري , ووقفت بصلابة التحدي والجرأة ضد العادات والتقاليد التي تجني عليها , برجوعها الى مدينتها وبالقرب من اهلها , لذلك يشعر ( مزعل ) بالقلق على حياتها من القصاص من اهلها ( ما كان يقلقني باستمرار , هو جرأة زوجتي على العودة وهي تعرف أهلها لن يكفوا عن ارسال غاسل عار لقتلها اينما كانت , وبخاصة وهي معروفة الآن كما اخبروني ) ص16 . حقاً وجدت ( شمس ) نفسها في ازمة عويصة , ومعضلة في الاختيار بين زوجين شرعيين امامها . القديم ( مزعل ) والجديد ( صلاح ) , وانها تحمل الحب للاثنين . لذلك صعب عليها الاختيار , ايهما تختار وتترك الاخر , وهذه الاشارة في دلالاتها . ايضاً تشير الى معضلة ثورة تموز , التي وجدت نفسها , في صراع تجاذب وشد الحبل , بين قطبين سياسيين عدوين , لا يمكنهما التعايش بينهما . التيار اليساري , ومن جهة اخرى التيار القومي / البعثي الذي تحالف مع الاقطاع واعوان العهد الملكي , وكل طرف منازع يريد ألغاء الاخر . لذلك ان حيرة وتردد ( شمس ) بالضبط يعنون حيرة وتردد الثورة , في حسم امرها في ايجاد الهوية والانتماء السياسي المحدد بوضوح . وليس ان تقع في الازمة , لان كل القضايا متعلقة بالسياسة والاختيار الصائب , ان الحيرة التي خلقتها الثورة ادخلتها في متاهات التخبط السياسي , في انعدام الرؤية السياسية الواضحة . وهي تحمل نفس الرؤى والمعاناة , حين وجد ( مزعل ) نفسه عائم وسط الرياح , بالظلم والعسف والحرمان من كل الاطراف , رغم انه تحمل معاناة السجون بالعذاب المؤلم , ووجد نفسه في الوضع الجديد القائم , بأنه يتحرك بدون هوية شرعية , في ظل انعدام العدالة الاجتماعية الغائبة , ولا يمكن ان يقبل ان يكون في النهاية ان يصبح قشة تتلاعب بها الرياح , بعد حصيلة من معاناة العمر, وحياة السجون في الظروف القاسية , يتنقل من سجن الى سجن اخر . من زنزانة الى زنزانة اخرى ( لا يمكن ان تكون هي النهاية / لا يمكن ان تكون حصيلة العمر قبضة ريح ومحض هباء . / تحملت عذاب السجون . معسكر اعتقال أبي غريب . سجن الكوت . البصرة . القلعة . استكلبت عليك زنزانات , تناقلتك من حفرة الى اخرى ,عرفت التوحد في الغرف الصغيرة المظلمة . وريح الشتاء وخزات الابر . والسقوف الصفيحية الواطئة . والارضيات الاسمنتية المغمورة بالماء حتى كاحليك , والليالي الطويلات المرهقات , والنوم وقوفاً على الرجلين دونما غطاء او فراش ) ص264 . وجد نفسه في خضم الصراع المعقد والمتشابك , الصعوبة في الظفر بالحرية وعودة زوجته ( شمس ) اليه , وكذلك عليه ان يبدد اوهام الناس , بالتهمة السيئة السرقة التي اتهم فيها , وانه ليس لصاً, وانما سياسياً شريفاً ادى واجب النضال الوطني . لذلك عليه ان يكسب حريته , ورد الاعتبار اليه , امام القضاء , ليتخلص من هاجس القلق والحيرة التي تنهشه , عليه ان يكسب هويته ويحسم امره , لان قضيته لها جانب سياسي , وجانب اخلاقي , ثم ان المصيبة الكبرى , وجد زوجته ( شمس ) متزوجة من رفيقه الحزبي ( صلاح ) , اي انه في دوامة الحيرة . بأن زوجته بالضبط , وجدت نفسها في شرنقة معقدة , وفي دوامة الحيرة والاختيار , لمن تختار وتحسم امرها له , وتثبت اركان حياتها بزوج واحد لا زوجين . فكيف تستطيع ان تختار وتترك الاخر . انها مسألة عويصة في الاختيار , واي عدالة اجتماعية تركن اليها , ضمن هذه الظروف المعقدة . لذلك توجه قولها للطرفين ( – ما الذي تريدان مني أن أقوله الآن , بل ماذا تنتظران , ألا يفهم احد منكما هذا الوضع ؟ أنتما اشبه بجلادين يطلبان مني تسليم احد اولادي للموت . لا ! ليس هكذا , كل ما اقوله الآن سيكون قاصراً , الافضل ان اخرس , ليس في كل ما اقوله الآن عدل , كيف يمكن ان اعرف هنا ما العدل ما الخطأ , ما الصواب ) ص162 . هذا الوضع الشاذ في انعدام افق الانفراج , يحاكي الافق المسدودة , التي خلقتها الثورة لنفسها , وجدت نفسها ضائعة بين ضفتين , كأنها تمشي على حبل من النار , او جسر من الزجاج , بالتضييق على سورها الجماهيري المدافع عنها , وتسمح لمن يدبر الدسائس الماكرة للايقاع بها ,بأن يتحركوا بكل حرية , وعلى حساب طرفها السياسي المحسوب عليها . بأن يجد الاقطاعي ( ذياب القصير ) الذي يرمز للاقطاعيين عموماً , بأن زمانهم وعزتهم ومجدهم يعود بريقه مجدداً , وما عقلية الاقطاعي ثابتة لا تتغير, مهما كان الزمن والظروف , فقد تعلموا وتربوا على جشع الاستغلال , وتعلموا الترف والنعيم الحياتي بالبذخ ( – هي الدنيا . سادة وعبيد , وتظل هكذا الى الابد , فما علينا إلا رفض انحناء الرؤوس ) ص296 . لذلك اخذت رياح الثورة تنحسر وتخفت , ويذبل عودها وقوتها , وكل ما تنتظر , هي الطعنة القاتلة , مثلما قتلت ( شمس ) على يد شقيقها ( عدنان ) وهو محسوب على التيار المعادي للثورة , ان يرتكب جريمة القتل , بحجة غسل العار , والدفاع عن الشرف . وكما اعيد ( مزعل ) الى زنزانة السجن مجدداً , كما تصاعد المد المعادي للثورة , في ملاحقة انصار الثورة , فقد انطفأ بريقها , واضيء بريق اعداءها , بأجراءات الحاكم العسكري العام , التي عبر ( مزعل ) عن معنى الاجراءات والاحكام الجديدة الصادرة . بقوله ( – اذا نزعنا احزمتنا له اليوم , فغداً ننزع لبساننا ) ص225 . وهذا ما حدث فعلاً في الواقع السياسي .
× رواية الجسور الزجاجية . الروائي برهان الخطيب
× منشورات اوراسيا . ستوكهولم – السويد
× الطبعة الثانية – يناير عام 1991
× 303 صفحة
جمعة عبدالله