26-3-2018
ان التحجر الفكري هو اساس التخلف والتلاشي الحضاري والزوال للقيم الانسانية في اي مجتمع، كما يقول ” بوقفة رؤوف ” ، فحين نتوقف عن التفكير ، عن التطور ، عن الاستمرارية التأملية والتفاعل مع النفس ومع الاخر ومع الكون، نقحم انفسنا في دائرة ضيقة لا مخرج منها، واذا ما رافق التحجر الفكري ، التحجر العقائدي والذي هو موقف فكري جامد وقاطع يقوم على فرض الافكار دون مناقشة وهي مرادفة لضيق الافق والجمود والتصلب والتشنج والتسلط والارهاب الفكري والعقائدي، فاننا بذلك ندخل طور التلاشي الحقيقي، بحيث يصعب معالجة حالتنا الوجودية، ونتحول الى ادوات هدم وخراب بل الى طفيليين نساهم في تدمير الوجود الانساني ببطئ من الداخل.. ويصعب في الوقت نفسه معاينة المرض فيتفشى في البنية الاساسية لوجودنا ونصبح مشللوين تماما وعاجزين عن التقدم والتطور والانتاج معاً.
على هذا الاساس حين نقيم المجتمعات الشرقية بصورة عامة والدينية فيها بشكل خاص، نلامس عمق الهوة التي تبعد هذه المجتمعات عن الركب الحضاري السائر في ارجاء المعمورة، بالطبع هذا لايعني ان الشرق وحده يعيش هذه الحالة المرضية المستعصية، لان اغلب مجتمعات العالم الثالث او دول الجنوب تعيش هذه الحالة كل واحدة وفق معاييرها الخاصة، ولكن حين اخص الشرقية ” الشرق اوسطية” منها لاننا نتكلم بواقع الحال الذي نعيشه ونراه ونعاينه عن قرب بل ونساهم كفرد في صيرورته، وهذا ما يدعونا الى الخروج عن المألوف في الصياغات البلاغية احياناً، وحتى عن السياقات الوجودية الحاضرة والمؤثرة بشكل مستمر.
فالمجتمعات الشرقية لاتعيش التحجر الفكري الهادم لكل القيم الانسانية فيها فحسب، بل انها تستند في قتل الملكات الفكرية المتقدة بالتحجر العقائدي ايضا، ودون ان نمس الاصوليات العقائدية ضمن دوائر التشريع الاصل ، او الشارع الاصل، انما وبحسب المقتضيات الواقعية التي نجدها تتحكم في العقلية الشرقية منذ التكوينات البشرية الاولى، والتجمعات التي تحولت الى مُدينات ودويلات، تتحكم بالموجودات سواء عن طريق السلطوية التي ترتقي الى الالهوية او الكهنوتية التي تساهم السلطوية الاخرى في ترسيخ المبدأ القائل بالتحجر العقائدي المؤدي بالتالي الى التحجر الفكري والعقلي معاً.
والتاريخ الشرقي اوسطي لايشهد فقط على نمو الجوانب العمرانية والحضارية وحتى النظم السياسية والتي قد يستشهد بها الشرقي ليقول لي بالتناقض في المقولات التي اقوم بصياغتها الان، ولكن الامر لايتوقف عند البناء الشاهق، والعجائب التي تم تدشين الانسان الشرقي لخلقها لتخليد اسم الاله او السلطة الحاكمة، انما اتحدث عن الاساس في العمل الوجودي الانساني ” البشري” على الخراب الارضي، ودون الاستشهاد بالامثلة التي يتبناها اغلب الشرقيين ويتباهون بها بكونهم كانوا رواد العلم والفلسفة والى غير ذلك من الترادفيات اللامنطقية .. انما التاريخ يشهد ايضا على الجمود العقلي والفكري للشرق، وليسأل كل شرقي نفسه الى اي درجة تغيرت العقلية الشرق اوسطية في القرن الحادي والعشرين..؟ ، انه السؤال الذي يجيب على تلك التحديثات اللامنطقية التي تستقي من التاريخ وتتوهج اعلامياً فقط، دون ان تعطي الامكانية على فهم واضح للصيرورة الحدثية التاريخية التي تخلق ذلك الانموذج التطوري الاستمراري ” الديمومة والديناميكية” والتأمل والتعامل مع النفس ومع الاخر، فهذه المجتمعات على الرغم من انسياقها الواهم وراء ذلك التاريخ الذي حفل لفترة بنوع من التوهج والتطور العلمي والعمراني الذاتي، الا انها في الحقيقة والواقع مجتمعات ” آفة ” تستهلك اكثر ما تنتج، تعيش كالطفيليات على الغير، وتهدم اكثر ما تُعمر، ولم تزل تستند على مبدأ رفض الاخر انسانياً ودينياً وفكرياً وعقلانياً وعقائدياً، لانها باختصار لم تزل تحتفظ بالعقلية القديمة التي كانت تبحث عن كيانات قبلية مستقلة تريد ان تحكم باسم السلطوية الالهية او الكهنوتية التي تساهم في رفع منزلة السلطوية الحاكمة واحيانا الكهنوتية التي تسعى لفرض نفسها كسلطة واحدة لا غير .. فاصبحت تقتل وتدمر وتسخر البشرية لاغراضها كما كانت من قبل.
ووفق هذا التوهم وتلك التداعيات لم تزل المجتمعات الشرق اوسطية تعيش حالة من فقدان الذات والهوية، وكأنها لاتستطيع الاستناد على المنطق والعقل في صرف امورها وسيرها، فحتى الاديان لم تستطع ان تخلق داخل هذه المجتمعات ما يفضي الى التخلي عن تلك الوهميات والانسياقات غير المنطقية، والبدأ بمرحلة يمكن فيها للعقل ان يخرج من دائرة التحجر الفكري والعقائدي الى دوائر التطور التلازمية التي تفرضها الوقائع والحقائق والتجديد، وحين نقارن بين الممكن والواقع سنجد بلاشك عمق الهوة بينهما، فالممكن هو اخر ما يبحث عنه الشرقي كي يستحدثه، لكونه باختصار متمسك بواقعه الوهمي الخيالي الراسخ في ذهنيته المتحجرة والمتجذرة في كينونته اللاقابلة للتطور بسبب انسداد المسامات العقلانية والتفكيرية والتجديدية لديه، فاصبح مهوساً بتراثه وبتاريخه، دون ان يسعى لاعطاء سمة الديمومة والاستمرارية لتلك الموروثات ولذلك التاريخ، وهذا الجمود دفع باحد الكتاب ليشخص بعض التلازميات المتحجرة للفكر الشرق اوسطي، ضمن انموذج سلطوي ديني يعتبر اخر الاديان المتوارثة في الشرق( نحن نذكر هذه المقولة كمثال يمكن ان يساهم في توضيح ماهية التمسك بالقديم وفرضه على الحاضر المتجدد وليس من باب التنقيص للديانة الاسلامية )، حيث يقول ” د.لؤي صافي ” أن التيار الإسلامي يتبنى مضمون التراث التاريخي ولكنه يسعى إلى تنزيله على أساس معاصر يتناقض معه في مستوى المقاصد والتكوين “فحركات الإسلام السياسي تتبنى نظريات الأحكام السلطانية التي طورها الفقهاء التاريخيون في القرون الأولى للإسلام، ولكنها تعمل على تنزيلها على بنية سياسية حداثية، وبالتحديد الدولة المركزية التي تتولى السلطة السياسية فيها مهمة تنظيم الحياة”، فحركات الإسلام السياسي هذه “لا تدعو إلى عملية تشريعية يرتبط فيها القرار التشريعي بالإرادة الشعبية الممثلة في المجالس النيابية، بل تصر على تطبيق الشريعة الإسلامية وفرضها على المجتمع السياسي وفق مؤسساتها التاريخية”..” ، وهذا بالطبع يمكن اسقاطه على باقي الديانات ايضا التي فيها الكهنوتية هي الحاكمة وهي التي يستمد منها السلطات السياسية مقاصدها باختلاف انواع تلك المقاصد، وهذا بالضبط ما يسبب التحجر الفكري ويعيق الاستمرارية والتطور، لكونه عائق غير طبيعي في المجتمعات الشرقية، فحين يتعلق الامر بالدين والتشريع تتوقف عجلة الكون في الشرق الذي يلبس رداء الدين ظاهرياً، ويبيح ما ليس للدين علاقة به باطنياً.
ومن هذا المنطلق نجد بان السمة التحجرية هي ليست مستحدثة او ضمن مايسميه البعض نظرية المؤامرة، انما هي امتداد طبيعي وموروث في البنية الاجتماعية والسلطوية والكهنوتية الشرقية، حتى اصبحت متمكنة في الفرد والاسرة والمجتمع والدولة معاً، وهذا ما يدفعنا الى القول باننا لانحتاج الى تيارات فكرية وسياسية مغايرة وجديدة ومختلفة، لنقول للعالم باننا متحضرين ولدينا ديمقراطية وتعددية حزبية وفكرية ودينية وطائفية ومذهبية وقومية، انما نحتاج بالدرجة الاساس الى عقول متغيرة متجددة، تواكب الحدث الكوني وتساهم في احداث النقلة الايجابية للواقع العياني، دون الانقياد الى المعيقات التي لاتفسد التطور فحسب بل تجعل من الفرد والسلطة والكهنوت معا آفات تدمر المجتمعات من الداخل وتساهم في انحلالها على جميع الاصعدة..العقول المتغيرة التي تتغلب على التحجر الفكري والعقائدي، بشكل يتناسب مع الرؤية الاصلية للوجود الانساني.