22/7/2018
يستمر الجدل حول المظاهرات العراقية، التي تشهدها مدن الجنوب والوسط، ضمن زيادة دائرة الحراك الشعبي المطالب بضرورة خضوع الحكومة في بغداد لمطاليبها والتي تتمثل في ” تحسين الخدمات، الكهرباء، الماء، الصحة… وفي بعض الاماكن طرد ايران.. وفي بعض الاماكن الاخرى محاسبة الاحزاب والمسؤولين الفاسدين.. ومع مطالبة البعض لمحاكمة من تسببوا في سقوط المدن العراقية بيد داعش والابادة الجماعية في سبايكر..” ، وفي الوقت نفسه مع زيادة العنف الذي بدأ ينتشر بصورة سريعة في عمليات تفريق التظاهرات من قبل الحكومة، هذا الجدل الذي بات يؤرق مضجع الكثيرين في الداخل العراقي، وحتى في اقليم كوردستان لاسيما اذا علمنا بان هناك الملايين من اهالي مناطق الوسط يعيشون في الاقليم سواء كنازحين او مواطنين.
لايختلف اثنان على ان التظاهر ” المظاهرات” تعبير عن رأي مجموعاً بضغط من اجل تحقيق مطالب المواطنين، وهي تعتبر كأحد الاشكال المتداولة في المشاركة السياسية، وتعتبر في الوقت نفسه فعل سياسي جماعي، وهناك ضوابط وشروط تتميز بها التظاهر كالتنظيم وتحديد الاولويات التي تعد من السمات الرئيسية والمهمة فيها، وللتظاهر اهداف مختلفة منها للتأييد ومنها للاحتجاج ” وتظاهرات العراق تنتمي للفيئة الثانية الاحتجاج”، وحين نكرر مقولة ان التظاهر حق منصوص عليه في مواثيق حقوق الانسان، فاننا هنا نجعل انفسنا امام مسؤولية كبيرة ينتج عنها الحق في التعبير عن الراي وايضا المشاركة في العملية السياسية، وهذه المقولات اصبحت ذات صبغة دولية عالمية، ولكن بلاشك فان لكل دولة قوانينها الخاصة فيما يتعلق بحق تنظيم التظاهرات، سواء من حيث المكان والتوقيت والفترة ، وهذه الامور لاتحدث عبثياً وفوضوياً انما عن طريق لجان متخصصة، وكل هذا يجعلنا امام واقع خطير، ومقولة قد تغضب الكثيرين الا وهي ان التظاهر ليس حقاً مطلقاً، طالما هناك قوانين خاصة تتحكم بها.
الجدل في المظاهرات العراقية الان لايرتكز على هذه القوانين التي تحص حق التظاهر، انما الجدل اصبح حول من هم الذين يقودون التظاهرات، هل هناك ايدي خفية تحرك الجماهير لتحقيق اجنداتها وفق منظومتها التي تنتمي اليها، ام انه حراك شعبي عفوي بدون تنظيم، ام ان هناك لجان متخصصة تقود هذه التظاهرات لتحقيق اهداف محدودة يمكنها ان تساعد على تحسين الوضع العام للشعب، كل هذه التساؤلات هي الان المحور الاساس للجدليات القائمة حول التظاهرات، وهي في الوقت نفسه تضعها على المحك لكوننا اذا سلما باي الامور السالفة الذكر فاننا امام واقع خطير، قد ينتج عنه تداعيات لاحقة، وتؤثر على صيرورة العمل السياسي في العراق.
فاذا ما كانت وكما يذهب اليه البعض موجهة من قبل اطراف خارجية لتحقيق اهداف تلك الاطراف، فبلاشك ان تلك الاطراف لن تبحث عن مصلحة الشعب العراقي انما ستفعل المستحيل وستستخدم كل الوسائل من اجل تحقيق اهدافها بما في ذلك القتل المتعمد للمتظاهرين واخضاعهم لابشع انواع التعذيب في سجونهم، وهذا ما يجعل من تلك التظاهرات آفة تنهش بجسد العراق وتسير به الى هاوية لارجعة فيها، لاسيما اننا امام واقع محتدم حيث لاثقة بين الشعب وبين القيادات السياسية والحزبية وبين القيادات والاحزاب وبين الحكومة، وبالتالي فان كل عمل ممنهج منظم تدعمه بعض القيادات والاحزاب ستكون بمثابة دعم للفوضى وتحقيق لمصالحها على حساب مصالح الحكومة التي تمثل الدولة، في حين اذا كانت التظاهرات عفوية غير منظمة ، فانها بذلك ستخرق القانون الدولي لحق التظاهر، لكونها ستفتقد الى التخطيط والتنظيم وتحديد الاولويات وكذلك التوجيه للتعبير السلمي في المكان والزمان المحددين وبالتالي سيحدث حرق ونهب للمؤسسات الحكومية وكذلك سيحدث غلق للطرق الرئيسية وغلق المعابر الحدودية، وبالتالي سيتوجب على الحكومة اتباع وسائلها التي قد لاترضي العديد من الاحزاب المعارضة لوقف هذه التظاهرات، والتي ستقوم بدورها في التحريض واثارة الفوضى.
اما اذا كانت التظاهرات لديها لجان متخصصة تقودها، وتحدد مواعيدها، وتعلن اولوياتها، وتحاور السلطات باسم الجماهير الغاضبة والمتظاهرة، فاننا هنا امام مفترق الطرق، لاسيما فيما يخص احقية تلك النخبة التي تقود هذه التظاهرات، ومدى اخلاصها للشعب ولاهداف المواطنين بعيداً عن الاحزاب والقيادات السياسية والاجندات الخارجية المتحكمة بزمام الامور في الدولة والحكومة، وبالتالي فاننا امام جدلية اخرى قد لاتظهر نتائجها في الوقت الحالي او في فترة التظاهرات بالذات، ولكن تلك النتائج ستظهر عاجلاً ام اجلاً، لاسيما حين يتخذ هولاء منحى اخر يبعد التظاهرات عن اسبابها واهدافها، لتتحول شيئاً فشيئاً الى شوكة في جسد الدولة.
ان المتتبع للتظاهرات في العراق سيجد بان كل المعايير التي سبق وان ذكرنها متوفرة فيها، وهذا ما يلخصه شعاراتها التي اسلفنا ذكرها، فمن محاولة لتطهير الجنوب من دنس ايران وهمجيتها المتملثة في استغلال اهل الجنوب لمصالحهم الدينية والاقتصادية في تدخل سافر ومفضوح لشؤون العراق، نجد بان بعض الاهالي لايبالون بذلك انما فقط توجههم هو تحسين الحالة الاجتماعية واخراجهم من الفقر المميت المتحكم بكل حياتهم على الرغم من كونهم يعيشون في مدن تمثل المصدر الرئيسي للدخل الوطني العراقي، هذا التناقض يجعل من مقولة التوجيه المتعمد لبعض الاطراف حاضرة، بالطبع مع عدم التأكيد، انما فقط من خلال التحليل والمتابعة، في حين هناك في الوسط اصوات تذهب الى محاكمة الفاسدين واسقاط الحكومة، وفي نفس الوقت محاكمة الذين تسببوا في جريمة سبايكر وسقوط المدن، وهذا التوجه يختلف تماما عن التوجهات السابقة لاسيما توجهات تحسين الحالة المعيشية واخراج ايران، ولكي يبقي هولاء على نوع من الترابط الوهمي بينها وبين التظاهرات في الجنوب يزيدون على مطاليبهم السياسية القصاصية، ببعض المطاليب الجنوبية، وهذا ما يستدعي التأمل والتوقف حول مصداقية التظاهرات في بعض المناطق وعدم خضوعها لاجندات سياسية داخلية وخارجية في نفس الوقت.
ان المعضلة الحقيقية لم تعد تتمثل بماهية التظاهرات، انما بالرؤية التي تتبناها الجماهير المتظاهرة، فحين تكون المطاليب مشتتة ومسيسة ومستهدفة تكون خيارات الدولة وحكومتها محدودة في التعامل مع هذه التظاهرات، وهذا ما يستوجب على المتظاهرين تحديد سقف مطاليبهم بالاولويات وترك المهم والبدء بالاهم، واختيار ممثلين عشوائين وليس مسيسين ومنتمين لجهات تعارض الحكومة او منتمية ومُندّسة تعمل على التحريض لكسب الثقة ولاضعاف موقف الحكومة، وتكون مطاليبهم واضحة ومحددة ولا تزداد كلما وجدت موقف الحكومة اضعف، انما تكون ثابتة كي تستطيع الحكومة التفاوض وعدم اللجوء الى القوة مع المتظاهرين، وبلاشك هذه ليست الحلول المثلى لاسيما حين ترافق الفوضى التظاهرات وتخرج عن سلميتها لتصبح تهديداً حقيقياً على السلطة من حيث هدر الاموال العامة، ذلك الهدر الذي في الاصل يتخذه المتظاهرون كدافع للخروج على السلطة والحكومة، فيصبحوا هم والحكومة مساهمين في الجريمة نفسها.
تلك الرؤية التظاهرية الناجمة عن وعي تحقق مكاسبها ليس داخلياً فحسب، انما تكسب العطف الدولي، بحيث تتعالى الاصوات المساندة لها، والتي تحث الحكومة والدولة على تحقيق مطاليب المتظاهرين والقيام بالضغط عليهم للاستجابة لتلك المطاليب، ولكن في حالة العكس لاتأتي الاصوات الداعمة الا من تلك الاطراف المصلحوية التي اما تبحث عن ضرب بعض الجهات المعارضة لها داخل العراق، او اطراف مصالحها في العراق اكبر من مصالح الحكومة العراقية نفسها،مثل ايران وتركيا بالتحديد.