ان المعايير التي نتبناها في الشرق الاوسط بصورة عامة، لايمكن ان تكون اساساً للاجيال القادمة لبناء دول ديمقراطية تقتات من التعايش السلمي بين مكوناته، وتكون دول مؤوسساتية يتحكم فيها القانون بعيداً عن النعرات القومية والدينية والمذهبية والايديولوجية الاحادية بكل تمفصلاتها، فنحن كنا ومازلنا نعيش وهم التاريخ السلبي ، الجائر المتسلط بقوة السلاح والسلطة الدينية و المذهبية او جبروت الدكتاتورية ، وحكم القبيلة والعشيرة، وهذا ما خلق شرخاً وهوة عميقة في بنية المجتمعات ، وهي تتسع يوماً بعد يوم ليس على الصعيد السياسي فحسب، بل على جميع الاصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى العسكرية.
لم يعد خافياً على احد ان التصورات التي تعتمدها دول الشرق الاوسط كمعيار دولة وسلطة وحكم، منغمسة بدماء الابرياء من الشعب، وجاحدة بحقهم، فلايكفي ان ما تسمى بالدولة تقوم بفرض قراراتها بالقوة، بل انها تعمل بشكل منظم (هي منظمة فقط في الارهاب على جميع المستويات ) على فرض ايديولوجيتها القمعية بالتهجير والتشتيت والتهميش والترحيل والسجن والترهيب والاغتيال والمحاصصة وتوزيع الثروات فيما بين السلطوية الفاسدة، وعدم وجود اية قيم اخلاقية ولا علمية ولا حتى اجتماعية يمكنها ان تحتكم اليها في اتخاذ القرارات، فاغرقت الشعب في وحل الفقر والتشرد والهجرة، تحت وطأة شعار الوطن، والدفاع عن الوطن، وسيادة الوطن ، والحقيقة لم تعد خافية على احد ان كل ذلك ليس الا وهم وخداع فالوطن انما كان ولم يزل سلعة تقدم لمن يدفع اكثر ، او لمن يدير المذهب او الطائفة او القبيلة.
لذا بعيداً عن الشعارات التي تطلق بين الاوساط القبلية المتعصبة المنتمية لافكار بالية التي لم تزل تقتات على النعرة العصبية القومية المتبلدة، لايوجد في دول الشرق ما يمكن ان يصنف بانه يمكن الاقتداء به لبناء دولة او حتى قرية او مؤوسسة صغيرة فكل المعايير انتهكت وتم اباحت الانسان فيه بشكل مخزي، حتى لم يعد للانسان قيمة، وتحولت السلطة العظمى للنزعات الانتمائية بعيداً عن المسائلات وبعيداً عن المؤهلات، وبعيداً عن الوطنية، فالمواطن في الشرق ليس مواطناً انما هو باحث عن حق المواطنة،طالما هو لاينتمي الى العصبة الحاكمة، او لاينتمي الى دين السلطة ومذهبها.
ومن هذا المنطلق فاننا نرى بان الهيكل الذي تبنى عليه الدول او ما تسمى بالدول في الشرق الاوسط هو قائم على ازدواجية المعايير، فالقائمين على امور الحكم مقتنعيين بمجموعة قرارات واعمال وفق رؤية مذهبية دينية او قومية وتتضمن هذه القرارات والاعمال احكام تختلف كثيرا عن مجموعات كثيرة اخرى تعيش في نفس الدائرة الجغرافية، وبذلك تبيح وفق معاييرها الازدواجية للمنتمين اليها او عصبتها القيام باعمالهم وفق النهج المذهبي او القومي دون السماح للاخرين الذين لاينتمون الى نفس العصبة القيام بتلك الاعمال، وفق مبدأ سياسة الكيل بمكيالين، بحيث ان ما هو حلال للعصبة واسيادها محرم على الاخرين وغير مقبول، وهذا بالضبط ما تقتات عليه الحكومات السلطوية ومن خلالها تستطيع ان تحرك الشارع المنتمي اليها، على حساب ما يسمى بالاقليات او المكونات الاخرى للشعب، ولقد لعبت تلك المعايير دورا بارزاً في تعميق الهوة بين السلطوية وبين الشعب سواء داخل المؤوسسات او خارجها، حتى وصل الامر الى الاجتماع الذي بدوره تأثر بها وجعلها حاجزاً في اقامة العلاقات وتوسيعها، فغالباً ما تصطدم تلك العلاقات بالمفهوم والحس السلطوي لدى بعض الشرائح فتتحول الى عائق في استمرار العلاقات او حتى تطويرها.
قد لايختلف اثنان على ان الحكومات الشرق اوسطية لاتعتمد على التنظيم الاداري والقانوني في حكمها للمنطقة ولكن مما لاشك فيه انها تعتمد تنظيما معقداً في التسمك بكرسي السلطة والابقاء على مكاسبه للعصبة التي تنتمي اليها وتدعمها في السراء والضراء، وهذا ما حول المجتمعات الشرق اوسطية الى بؤر حروب دامية يُسفك الدماء فيها بسخاء غير منظور مقارنة بالدول والمناطق الاخرى، كما ان الاشكاليات العرقية التي تعتمدها الحكومات التي هي في الاصل حكومات عرقية في بنيتها تحولت الى دمار شامل وفتاك لكل البنى التحتية لما تسمى بالدول ولكل المرتكزات التي يمكن بناء دولة عليها، وبالتالي فان الرؤية التي تقوم عليها مؤوسساتها والتي من المفترض انها القانون والمصدر التشريعي ليست الا وسيلة لكبح جماح غير المنتمين للعصبة، وهكذا قد غابت كل ملامح الدولة عنها، فهي ليست بدولة وليست بقرية ولا حتى مؤوسسة منظمة، انما هي اداة قمع واضطهاد ومصدر رعب لشعوبها التي كما اسلفت ليسوا بمواطنين طالما ليسوا منتمين للعصبة الحاكمة.
لقد لعبت النعرات التي تبنتها السلطوية الشرق اوسطية دورا هاماً في خروج الكثير من القوميات غير المنتمية للسلطة لاسيما غير العربية للمطالبة بحقوقها المهضومة ، لاسيما القومية الكوردية في كل من العراق وسوريا وايران وتركيا، حيث لامسنا انهم وتحت ظل الدكتاتوريات السلطوية من الدينية المذهبية الطائفية في كل من ايران والعراق والقومية المتعصبة في كل من سوريا وتركيا خرجت بحركات وانماط سياسية منوعة اعتمدت كلها على الصراع الحقيقي بشقيه المسلح والسياسي ، وغير المحدد زمنياً و مكانياً مما خلق نوعاً من المتغيرات لاسيما في الرؤية السلطوية، ففي العراق تغيرت معالم القضية والكيفية التي تتعامل بها الحكومات مع الكورد ضمن هيكل يسمى بالدستور، وهذا ما فرض على الكورد وعلى الحكومة الالتزام بالكثير من المسائل التي لم تكن قبلها تؤخذ بعين الاعتبار، وفي سوريا بدات بوادر خلق انموذج سياسي يعترف بالكورد كمكون اساسي في المنظومة السياسية السورية تظهر للعيان ، اما في تركيا فان الجناج السياسي الكوردي مازال يخوض معركة اثبات وجوده بعزيمة وثبات على الرغم من التعامل العنصري والدكتاتوري للسلطوية التركية تجاه قادة الكورد، وذلك التعامل في حد ذاته جعل الكفاح المسلح يسير جنباً على جنب مع الكفاح السياسي، اما في ايران المذهبية الطائفية فالكفاح الكوردي مستمر من خلال العمليات المسلحة تجاه الجيش الايراني في المناطق الكوردية، والكفاح والنضال ضد السلطوية الايرانية المذهبية لم يعد يقتصر على الكورد فحسب بل ان العرب في الجنوب ايضا انتفضوا ضد السلطوية التي جمعت المذهبية والدكتاتورية معاً، ويضاف الى هذه الدول الصراعات الاخرى المذهبية والقومية الدائرة في كل من لبنان واليمن وحتى مصر فالصراع المذهبي متفشي في لبنان بدرجة لايمكن التغاضي عنه، كما في اليمن بشقيه الجنوبي والشمالي ” السني- الشيعي ” ، وفي مصر التي تحاول اخفاء معالم الصراعي القومي القبطي المتسلح بالدين والاصالة وبين المسلمين حتى وان اظهر الاعلام بان التوافق هو الاساس، ناهيك عن ما يحصل في فلسطين من صراع قديم حديث معاصر على الهوية بين اسرائيل والعرب، وبذلك فان المرتكزات اللاممنهجة واللامنطقية التي تبنتها هذه الحكومات في بناء دولها اللامؤوسساتية خلقت هذا الشرخ العميق داخل مجتمعاتها، وحولتها الى جحيم متنقل لايفتك الا بالشعب.