قبل سنة فی مثل هذا الیوم بدأت المباحثات بین المدیریة العامة للصحة فی دهوك والمۆسسة الأهلیة للصحة النفسیة للطفل “بیت متین الصحی” للقیام بتنفیذ مشروع مشترك بدعم مالی من المنظمة الألمانیة “ج. آی. ز” بهدف تغییر نظام العمل فی مركز الصحة النفسیة للطفل فی دهوك وإصلاحه من بوادر الفساد الذی بدأ یهدد كفائته وخصوصیته كأقدم مركز من نوعه لیس فی دهوك فحسب بل فی العراق بأجمعه (*). وكان المركز قد تأسس بتمویل من منظمة “دیاكونیا” السویدیة وتعلیم من قسم الصحة النفسیة للطفل الذی تأسس فی سنة ٢٠٠١ فی كلیة الطب جامعة دهوك بالتعاون مع جامعة ئوپسالا فی السوید وذلك بعد أن أظهرت نتائج الدراسات الأولیة حول الصحة النفسیة للطفل فی كوردستان خلال ١٩٩١ – ٢٠٠١ بوجود حاجة ماسة للكوادر فی هذا الإختصاص الذی دخل المنطقة لأول مرة فی التأریخ. فتمیز المركز بإستقلالیته حتی إنسحاب منظمة “دیاكونیا” فتحول إلی مركز صحی تابع للمدیریة العامة لصحة دهوك. لذلك أصیب المركز بالأزمات المتتالیة ومن ثم الفساد كأیة دائرة حكومیة أخری فی المنطقة (*).
بدأت المرحلة الأولی من البرنامج بتشخیص مرض الفساد لتقدیم العلاج اللازم. من خلال الإجتماعات الأولی بین هیئة إدراة المشروع و منتسبی المركز ظهرت معارضة متوقعة من المنتسبین اللذین كانوا قد وقعوا ضحیة للفساد دون علمهم بذلك. وفی الوقت نفسه تراجعت المنظمة الممولة للمشروع عن وعودها الأولیة فی تمویل المشروع الإصلاحی وسحبت صلاحیات المستشار، الأمر اللذی أدی إلی خیبة أمل لدی المنتسبین و إنسحاب المستشار بعد أن رفع تقریرا مع كافة إقتراحات وأولیات المشروع إلی المدیر العام لصحة دهوك فی ٢٢\١٢\٢٠١٧، تتضمن إجرائات إصلاحیة تشمل الأدوات التالیة لمعالجة الفساد فی المركز (*).
عندما یكون المنتسب فی دائرة حكومیة معرضا للضغوط التی تتواجد فی عملیة إنتشار مرض الفساد المعرف فی مقالتنا الأولی المنشورة حول هذا الموضوع فی شبكة صوت كوردستان بتأریخ ٢١\١٢\٢٠١٧ :
الفساد مرض نفسی إجتماعی/ د.عبدالباقی مایی
یصبح المنتسب مصابا بعدوی المرض دون أن یشعر بذلك، فیبدأ بتقلید زملائه فی العمل علی إیجاد بدیل مادی إضافة إلی راتبه المخصص فی تعیینه لهذا المنصب. ویصبح الأمر أكثر مقبولا نفسیا وأخلاقیا عندما یفكر المنتسب بقرار السلطة الحاكمة بسحب قسم من الرواتب كحل جزئی للأزمة الإقتصادیة. فیجد المنتسب فی دائرته تشجیعا ضمنیا من قبل مسۆله الذی سبقته عدوی الفساد فی معظم الأحیان. وبذلك یقوم المنتسب بإستلام مبلغ مالی معین من جهتین تعویضا لقیامه بالخدمات فی وقت محدد. هكذا یخالف المنتسب القانون و الأخلاق معا بمبرر عدم كفایة الراتب الشهری المنقوص والمتأخر وكذلك بدعم من مسۆله فی الدائرة عندما یعطی المنتسب موافقة شفهیة علی الغیاب لیوم أو أكثر من دوامه الرسمی لكی یعمل لجهة أخری من أجل الحصول علی مورد مادی إما بالعمل مع منظمة غیرحكومیة أو بعمل خصوصی لكسب مبلغ من المال یسد رمق عائلته فیهدأ ضمیره ولا یبالی بالتحایل الذی یعنیه هذا التصرف وكأنه یداوم دواما كاملا فی دائرته بینما یعمل فی جهة أخری وبراتب آخر دون إجازة رسمیة من منصبه بدون راتب كما هو الواجب وفق القانون (*).
یبدأ العلاج بمواجهة المنتسب بهذه الحقیقة المخالفة للقانون والأخلاق فینكرها فی بدایة الأمر. وهذا الإنكار هو عبارة عن دفاع نفسی یستعمله الشخص لكی یبرر عملا مخالفا للقیم والأخلاق التی یلتزم بها الشخص لحمایة شخصیته وإلتزامه بالعادات والتقالید والعلاقات الأجتماعیة الساریة حوله. یختلف الإنكار فی شدته بناء علی الفترة الزمنیة التی تواجد الشخص فیها متخبطا بالفساد، وكذلك علاقة المنتسب بهیكلیة الفساد ونشرها فی الدائرة. وبعد إدراك المنتسب لحقیقة حصوله علی مبلغین للمال للعمل فی وقت واحد، یدخل فی مأزق نفسی یبرره بإتهام الآخرین من قبله، ویبدأ یشكو من وضعه المادی ویبرر فعله هذا بتعلیمات غیر مكتوبة من الحكومة وتعمیمها علی الجمیع. یدخل المنتسب بعد ذلك فی مناقشة حول كیفیة الحل. حینذاك یمكن للمعالج طرح إقتراحات بدیلة قابلة للتطبیق وفق القانون والأخلاق. ومن ضمن هذه الإقتراحات یمكن تطبیق الألیات النفسیإجتماعیة التالیة:
١– إعتبار فترة الغیاب من الدائرة إجازة رسمیة بدون راتب یجعل المنتسب یشعر براحة الضمیر لكونه یتمتع بدعم معنوی من مسۆله المباشر فی الدائرة فلا یحتاج إلی تأنیب الضمیر والشعور بالمسۆلیة تجاه الواجبات التی تتضمنها وظیفته. عملیا یقدم المنتسب طلبا لإجازة رسمیة بدون راتب للوقت الذی یقضیه فی العمل لجهة أخری خارج دائرته.
٢– إعتبار العمل الخارجی دورة تدریبیة بالإتفاق مع مسۆله فی الدائرة الحكومیة یعتبر المنتسب فترة غیابه تدریبا علی كفائات جدیدة تستفید منها الدائرة الحكومیة. فیشعر المنتسب بالفخر والإعتزاز بدلا من التهرب والإنكار ویتحرر من الخوف والخجل من أن یكتشف أمره فیعاقب علیها.
٣– الإستفادة الفعالة من الوقت یجعل المنتسب ملتهیا بعمله خلال فترة الدوام الرسمی، فیشعر بقیمته و دوره المهم فی خدمة المجتمع من خلال عمله، وهذا كفیل بوقایة المنتسب من الإضطرابات النفسیة وتقوی شخصیته فی مقاومة الفساد.
٤– إستقبال المنتسب للمراجعین الراضین من عمله یشجعه معنویا للإستمرار فی عمله والعمل بإخلاص ولو كان براتب أقل. أما فیما یتعلق بالمشتكین فعلی الإدارة تقع مسۆلیة التحقیق فی شكاویهم لإجراء التغییرات النظامیة فی الشكل والممارسة ولیس لمعاقبة المنتسبین دون تحقیق.
٥– إعطاء الصلاحیة للمنتسب أن یقوم بإحالة جمیع الحالات والمشاكل التی یواجهها ضمن عمله فی دائرته إلی جهات أو أشخاص مختصین أو خبراء فیها وذلك بعد الإتفاق مع مسۆله فی الدائرة. بذلك یشعر المنتسب بالراحة والإطمئنان ویركز طاقاته للقیام بالواجبات التی من ضمن صلاحیاته وإمكانیاته، مما یۆدی إلی إرتباطه النفسی بعمله فی دائرته وشعوره بالسیطرة والتحكم فی القضایا التی یعمل فیها ضمن دائرة عمله، وهذا یساعده علی الوقایة من الإضطرابات النفسیة والنفسیإجتماعیة كالفساد مثلا.
٦– ربط المنتسب بفریق عمل یجعله عضوا فی ذلك الفریق فیستعمله عند الحاجة لتقویة ثقته بنفسه وزملائه ویفهم المسائل بشكل صحیح فیشعر بالإنتماء لفریق عمله ویتطور فی شخصیته وعمله ویتعرف بصورة سریعة علی أعراض وصفات مرض الفساد فیتجنبها فی بدایتها قبل أن یصاب بها، أو یسهل علیه المعالجة فی المراحل الأولی للمرض.
عندما یتم تطبیق هذه الألیات لمعالجة مرض الفساد فی أیة دائرة حكومیة یتخلص المنتسب من العدوی ویعود سالما مسلحا بالعلم والإرادة لخدمة دائرته الحكومیة لتقدیم الخدمات للمجتمع حسب وظیفته ومۆهلاته.
(*) یمكن الحصول علی المصادر من المۆلف.