كیف تۆثر النصیحة علی نفسیة الشخص؟- د. عبدالباقی مایی، إخصائی فی الطب النفسی للأطفال و المراهقین.

 

 

هنالك مجموعة من الأدوات النفسیإجتماعیة القدیمة للتربیة و التعلیم لازالت سائدة حتی یومنا هذا فی مجتمع كوردستان حیث لازالت تسود القیم والمبادێ القدیمة إلی حد كبیر. بناء” علی هیكلیة النظام الإجتماعی لازال الأسلوب التربوی فی كوردستان یعتمد علی الخائات الثلاث (الخوف و الخجل و الخطیئة). هذه الأركان الثلاث تستعمل فی تربیة الطفل منذ نشوئه و تتبعه حتی یكبر لیصبح رجلا أو إمرأة. فهی قواعد تربویة متلازمة نتجت عن حاجة المجتمع الجماعی ذو التربیة السلطویة و ترسخت بمجئ الإسلام. یتم تطبیق هذا الأسلوب التربوی من الأعلی نحو الأسفل خلال جمیع الهیاكل السلطویة التقلیدیة فی المجتمع سواء” كانت فی العائلة أو فی العشیرة أو فی الحزب أو فی الحكومة…الخ.

 

تربیة الطفل هو الحقل الذی تظهر فیه الصراعات بین القیم بوضوح، خاصة فی المجتمعات الجماعیة المغلقة التی تمر بما یسمی علمیا “التحول الإجتماعی السریع” الذی یحدث فی مرحلة التطور من مجتمع بدائی جماعی مغلق یۆمن بالأساطیر و ماوراء الإدراك البشری الملموس إلی مجتمع متطور فردی منفتح یعتمد علی العلمانیة و الإدراك العقلی وفق العلم الحدیث. كلما كان هذا التحول أسرع تكون النتائج السلبیة لإصطدام الحدیث بالقدیم أكثر وضوحا وتعمیما، كما هو الحال فی أقلیم كوردستان الذی تكون نتیجة تدخل مباشر و فعال من العالم المتحضر فی الوقت الذی كان مجتمع الأقلیم من أكثر المجتمعات تأخرا، فلم یكن ناضجا للتنسیق مع هذا التدخل المباشر و السریع من المجتمعات المتحضرة. نتیجة لهذا الإختلاف الواسع و العمیق بین مستوی التطور فی المجتمعین أصبحت جمیع الوسائل المستعملة فی عملیة التطور فی كوردستان مستوردة من الخارج، و قد تكونت بناء” علی متطلبات و مصالح و شروط المجتمع المنتج و المصدر لها دون إعتبار حاجات أو شروط أو مصالح شعب كوردستان. نتیجة لهذا الإصطدام الواضح بین القدیم والجدید یمر المجتمع فی أقلیم كوردستان منذ نشوء الأقلیم فی سنة ١٩٩١ بأزمات متداخلة تظهر نتائجها الهدامة علی أجهزة التربیة و التعلیم خاصة، و علی جمیع المجالات والمستویات الأخری فی المجتمع بصورة عامة.

 

من ضمن النتائج النفسیإجتماعیة للعوامل المذكورة أعلاه نلاحظ أن معظم المصطلحات التی تستعمل فی أقلیم كوردستان العراق هی مستوردة و لیست من إنتاج محلی أصیل. فالمصطلحات التی خلقها المجتمع الكوردستانی بلغته الأصلیة و بناء” علی حاجاته الیومیة تتعلق أصلا” بالزراعة والتعایش مع الطبیعة. لذلك قلیلا ما تختلف جماهیر الشعب فی إستعمال أو تفسیر أو تطبیق تلك المصطلحات فی محلها الصحیح. أما مایتعلق بالمصطلحات المتطورة فهی مستوردة من الخارج و غریبة عن ثقافة المجتمع المحلی. لذلك یصعب علی أغلبیة الشعب فهمها وإدراكها أو إستعمالها بصورة صحیحة.

 

من عوامل تعقید هذه العملیة التحولیة فی تطور المجتمع الكوردستانی هو عدم وجود لغة علمیة رسمیة متفق علیها، و طغیان ثقافة الإحتلال فی المجتمع. فالمصطلحات المتعلقة بالحیاة الیومیة الأصیلة یتم تداولها بصورة طبیعیة و مفهومة بین جمیع اللهجات فی طبقات المجتمع و شرائحه المختلفة دون صعوبة تذكر فی الفهم و التطبیق العملی. و لكن المصطلحات المستوردة سواء” كانت من اللغة العربیة أو الفارسیة أو التركیة التی یتزاید إستعمالها بتزاید سیطرة و طغیان ثقافة الإحتلال تستعمل بصورة مختلفة و لها إستعمالات و معان مختلفة حسب فهم و إدراك و قناعة الشخص الذی یستعمل المصطلح، ناهیك عن ما قد تختفی من عملیات غسل الدماغ و المحو الثقافی من قبل سلطات الإحتلال. و تصبح المشكلة أعمق عندما یكون المصطلح مترجما من لغة أخری فی المجتمعات المتقدمة.

 

كانت هذه مقدمة مختصرة لابد منها لتحلیل نفسیإجتماعی یحتاج موضوعه إلی كتاب مفصل قد یكلفنی تألیفه و طبعه فترة أطول. أتمنی أن تكفی هذه المقدمة لتسهیل فهم موضوعنا و هو تأثیر النصیحة و مرادفاتها و بدائلها علی نفسیة الشخص المعنی بالنصیحة. أسرد هنا قائمة المصطلحات باللغة العربیة التی تستعمل فی المجتمع الكوردستانی كوسیلة للتربیة والتعلیم فی جمیع الأعمار بصورة عامة، وأمامها أذكر مختصرا” لتعریفاتی المتواضعة و لاأدعی إختصاصا فی اللغة. كما لا أجزم بكونها مفهومة فی المجتمع الكوردستانی بصورة متساویة و ذلك لأنها لیست من إنتاج محلی رصین أو أصیل. فلست أدری إن كان هنالك ما یقابلها باللغة الكوردیة. لذلك أطرح الموضوع مفتوحا للنقد والتمحیص والتعلیق:

 

١نصیحة: أمر غیر إجباری لشخص أصغر سنا أو خبرة أو علما من الناصح و ذلك من أجل مصلحة الشخص حسب وجهة نظر الناصح.

٢وعظ: نصیحة تتخذ صفة الأمر الإجباری فیما یتعلق بأمور دینیة قد تكون فردیة أو جماعیة.

٣إرشاد: بیان الخطوط الرئیسیة لمهنة أو منصب أو مهمة معینة لشخص ینوی التسلق نحو الأعلی فی سلم معین.

٤توجیه: خطوط توضیحیة لأمر رسمی أو قانون جدید یحتاج للتوضیح قبل تطبیقه.

٥إشراف: مسۆلیة مرتبطة بمساعدة شخص ما لتنفیذ برنامج معین.

٦إستشارة: الإجابة علی إستفسارات شخص أو مجموعة فی موضوع معین من ضمن إختصاص الناصح.

٧نقد: تقییم إنتاج عمل ما لغرض رفضه أو تحسینه.

٨تشجیع: دعم مادی أو معنوی لشخص أو مجموعة للقیام بعمل ما.

٩تزكیة: تقییم إیجابی لشخص ما من أجل أن یتسلم منصبا أو وظیفة أو مهمة هو مۆهل لها.

١٠إقتراح: تقدیم مذكرة أو فكرة أو برنامج لشخص أو منظمة أو مجموعة من الناس لتحقیق هدف معین.

١١قدوة: قیام الشخص بسلوك معین لكی یقلده الآخرون.

 

جمیع المصطلحات المذكورة أعلاه تستعمل لأغراض تربویة وذلك لإقناع الآخرین بعمل شئ جید أو مفید أو بناء حسب رأی المصدر. السۆال هو: كیف یتأثر الشخص بكل منها؟

عندما یكون الشخص مستعدا” من الناحیة النفسیة لإستلام هذا التدخل الخارجی لكی یغیر مافی نفسه، لن تكون هناك علی الأغلب مشاكل كبیرة أو عوائق جسیمة فی قبول التدخل، وإن كانت درجة الإقناع تختلف بإختلاف معرفة الشخص المستلم للشخص المتدخل. فكلما كان الشخص المتدخل معروفا ومحل ثقة لدی المستلم یتأثر المستلم إیجابیا بهذا التدخل ویراه من الوجه الإیجابی. ولكن المشكلة الكبری تأتی عندما لا یكون المستلم مستعدا” لإستلام هذا التدخل بل قد یراه تدخلا سافرا إما لكونه لایعرف الشخص أو لایثق به لسبب أو لآخر. بل قد تكون النتیجة معاكسة عندما یشعر المستلم بالنقص وعقدة الدونیة فی الوضع النفسی تجاه الشخص الذی یتدخل، وهذا مایحصل خاصة فی حالة النصیحة. ففی جمیع الحالات الأخری یستطیع الشخص المستلم أن یجد لنفسه مبررات كافیة لیقتنع بأنها فی صالحه ولیس فی ضده علی الأقل. ولكن فی حالة النصیحة كثیرا ما تأتی فی غیر محلها أو فی ظروف غیر مهیأة، فیجد الشخص المستلم تجریحا لكبریائه وتصغیرا لشأنه. یحصل ذلك غالبا فی مرحلة المراهقة أو لدی البالغین دون خبرة طویلة. وكلما كان الشخص المستلم أقل خبرة أو معرفة یكون الشعور بالإهانة أعمق والحاجز النفسی لقبول النصیحة أعلی وأضخم.

 

إذاماهو البدیل؟!

العلم الحدیث یرینا وسائل نفسیة عدیدة یمكن إستخدامها لكی لایشعر الشخص المستلم بالصفات و المشاعر السلبیة التی تسببها النصیحة. معظم هذه الوسائل الفعالة تم إثباتها من خلال الدراسات التجریبیة فی العلاج النفسی، خاصة العلاج الإدراكی. ومنها مانسمیها “الأسئلة السقراطیة”. عندما تسأل شخصا” بأداة سۆال مفتوحة مثل: كیف، ماذا، متی، أین، من…الخ، تجعل الشخص ینتبه إلی معنی السۆال وینشغل بالتفكیر فی إیجاد الجواب. فلا ینتبه إلی المشاعر السلبیة التی تۆدی إلی دفاعات نفسیة بدائیة مباشرة مثل النفی أو الإنكار أو الرفض…الخ، كما یحدث عندما یتعرض الإنسان للنصیحة المباشرة. أما بالنسبة للطفل فمن الأفضل أن تعمل أمام نظر الطفل ماتریده أن یعمل بدلا أن تنصحه بالقیام بذلك. هكذا تصبح قدوة جیدة للطفل للقیام بها بالصورة التی تراها أنت. و هذا یقوی العلاقة النفسإجتماعیة البناءة بینك و بین الطفل، و كذلك یۆدی إلی توفیر الفرص للطفل لكی یأتی بأسئلته و ملاحظاته و تعلیقاته دون خوف أو خجل أو شعور بالذنب أو الخطیئة.

 

لذلك نستطیع الإستنتاج بإعتبار النصیحة من أسوأ الأدوات التربویة لإقناع الآخرین، و من أفضلها هی الأسئلة السقراطیة وكذلك العمل كنموذج أمام الطفل لتصبح قدوة حسنة یقتدی بها.