تختلف المفاهيم التي تعتمدها المجتمعات حول العشيرة والعشائرية، كما تختلف الاراء ووجهات النظر اليها داخل فيئات المجتمع نفسه، ناهيك عن الاختلافات التي تبرز حولها ضمن دوائر اكبر كالدولة والدين والقومية، فالعشيرة هي وحدة قائمة اساسها رابطة الدم، وهي موجودة قديماً قدم المجتمعات، ولاتزال كالاسرة قائمة الى اليوم حتى في اكثر بلدان العالم تقدماً، انها اشبه باسرة كبيرة ممتدة يربطها الدم لانها آتية من اب واحد في المجتمع الابوي، او من أم واحدة في المجتمع الاموي، وذلك ما يخلق تماسكاً وتجانساً نسبياً حول التكاتف والتعاطف بينها، بحيث حين يسعى فرد من افرادها لنيل مكانة يجد عواصر تلك الرابطة تسانده وتدعمه، في حين ان العشائرية هي عقلية او اتجاه سياسي يسعى لتحويل العشيرة الى نوع من الحزب السياسي قي نواجهة العشائر الاخرى، والاحتكام اليها في العلاقات الاجتماعية والسياسية، وبهذه العقلية او التحويلة تصبح العشائرية شكلاً من اشكال الايديولوجية يرجع اليها ويفسر بها كل امر مثل تشكيل الحكومات، والانتخابات البرلمانية والنقابية وغيرها وحتى الوظائف العامة والمدنية والعسكرية والاستثمارات والاعمال، كما يقول ” حسني عايش” ، وبذلك تصبح العشائرية نسق قيمي وسلوكي، سلبي في مجمله، لانه يحاول التدخل في مختلف جوانب الحياة بما فيها الرسمية متجاوزاً القانون والدين والقيم الإنسانية والحضارية ويستعمل العنف والإرهاب والقسر في تنفيذ جزاءاته لتصبح العصا التي تعيق عجلة الحياة المدنية، كما يشير الدكتور حميد الهاشمي الى ذلك، وبذلك تؤثث عوالم العشائرية وفق معطيات مغايرة لاتتوقف عند حدود السعي والدعم والمساندة بغية الوصول لهدف معين لاحد افراد العشيرة، انما تتحول هنا الى آلة فتاكة لفرض الواقع الذي تريده على المؤسساتية الديمقراطية باستخدام كافة الوسائل دون اية اعتبارات وطنية او حزبية معينة ومحددة، لأن الهدف الاساس لديها او الوصول الى غايتها، وبذلك تحول الواقع الى ساحة صراع دائمة، لاحدود لطموحاتها، وقانون يردعها، ولاسلطة يوقفها، فضلاً عن كونها تغير معالم الواقع السائر نحو مواكبة المتحولات والمتغييرات الدولية الى واقع يتراوح بين الهمجية القبلية والتسلط القبلي نفسه على جميع مرافق الحياة، فلاتتأثر دوائر ومؤسسات الدولة فحسب انما تتأثر البنية الاجتماعية ايضاً بذلك، فحتى اختيار المرأة لاي منصب اداري يكون وفق تطلعات العشائرية ونسقها الفوضي، لا على اساس التفوق والكفاءة العلمية او التخصصية.
لايختلف اثنان على ان دور العشائرية لايظهر الا عند غياب الدولة وضعف المؤسسة القانونية فيها، ناهيك عن تدخل الزعامات القبلية في ادارة شؤون الدولة نفسها وذلك بفرض وجودها الاقتصادي والجماهيري، وهذه السمة هي الغالبة في اغلب المجتمعات لاسيماالشرقية منها، ونحن الكورد كأحدى تلك المجتمعات التي تعيش تحت وطأة الاحتلال منذ قرون طويلة مازلنا احدى روافد القوى العشائرية التي نعاني من وطأتها ايضاً فضلاً عن الاحتلال، فالقوة العشائرية في مجتمعنا الكوردي باتت تهدد التطور الحاصل في البنية السياسية والنقلة الاجتماعية الحاصلة بعد زوال النظام الدكتاتوري البائد، بحيث ان الشريحة الواعية من الكورد صارت تصدح بضرورة الوقوف امام هذه الموجة كي نحافظ على المستويات البارزة التي وصلت اليها القضية الكوردية ككل من جهة، والانجازات والمكتسبات الحضارية العمرانية لاسيما في جنوب كوردستان من جهة اخرى.
ان اهم ما يثر الجدل بين هذه الاوساط المثقفة والواعية هو عدم اكتفاء الاحزاب السلطوية بالمعطيات الوراثية التي فاقت مفهوم العشيرة نفسها لتحل محلها المفهوم الفوضوي العشائري، وذلك من خلال عدم السماح للعقول النافذة والمتقدة بقيادتها، ومن ثم محاولة رصد المعارضين لها وتصنفيهم وفق رؤية خاصة بهم من عميل وخائن وتابع وارهابي ومن ثم تصفيتهم بشتى الوسائل، فضلاً عن محاولتهم وبشكل غير مبرر ومشين ايضا فرض ايديولوجيتهم العشائرية على الواقع العياني، وذلك من خلال اعطاء ادوار ولو ثانوية لبعض الاشخاص ضمن دائرة العشيرة بروح العشائرية وتفعيل الالة الاعلامية للوقوف على فعالياتهم التي هي في كل احوالها لاتعد سوى حركات مكشوفة لاتسمن ولاتغني من جوع، فالمجتمع يعيش حالة فوبيا رهيبة منذ ما يقارب العقدين ليس فقط من امكانية تحول الصراع الحزبي السياسي الى حرب اهلية بين الاحزاب العشائرية المتنافسة، انما ان تتحول الصراعات داخل الحزب العشائري الواحد ايضاً الى دمار للتجربة السياسية الكوردية، وذلك من خلال قيام طرف منافس لقيادة الحزب على حساب الاخر بتوطيد العلاقات مع الجهات المعادية للكورد وتقديم تنازلات كالتي حدثت بعد الاستفتاء فتكون وبالاً على القضية الكوردية، فضلاً عن استغلال تلك الصراعات الحزبية العشائرية التنافسية لتبرير حالة التلكأ الحاصلة ضمن ادوار الحكومة نفسها والاوساط الحزبية الداعمة لها في دفع مستحقات الشعب وطمس حقوقهم تحت غطاء الظروف الاقتصادية والصراع مع المركز، وليس بخافي على احد ان هذا السوط هو نفس السوط الذي تستخدمه السلطوية لترهيب الشعب من جهة، ولفرض ايديولوجيتها العشائرية من جهة اخرى.
ان العشيرة كرابطة دموية اسرية ليست بعبء على المجتمعات الحضارية، بالعكس تماما فهي تعد البنية الاساس لها، ومن خلالها يتم توطيد العلاقات الاجتماعية وتظهر معالم الاداور القيادية والتي يمكن استنباطها واستغلالها في العمل المؤسساتي، بالطبع ليس على اساس العشيرة واسمها، وانما وفق معطيات الاداء الذي تقوم به بعض الفيئات داخل العشيرة وذلك بعد تقييمها وفق معايير خاصة تخدم المصلحة العامة، ولكن العبء الاساسي الذي تنتجه العشيرة هو حين تتحول اواصرها الى توجهات قبلية ذات حمية عصبية لتصبح بذلك صاحبة تطلعات خارجة عن النطاق التنافسي القانوني، فتحاول فرض نفسها بالقوة، وذلك ما يولد ردة فعل سلبية من عشائر اخرى، فينتج عن ذلك اجمالا قوى تلبس رداء الوطنية وهي في الاساس تقوص العملية التحررية الوطنية وتجعلها تسير وفق مصالحها الخاصة، واهدافها العشائرية المسيسة سواء ضد الاتجاهات العشائرية المنافسة او لجعل مملكتها الحزبية العشائرية محصنة من اية اختراقات قد تضعفها، بالطبع هذا كله على حساب الشعب وعلى حساب القضايا القومية الوطنية الاساسية .
من هذا المنطلق اصبحت الاصوات تصدح بوضوح ضد هذا الاتجاه العشائري داخل المجتمع الكوردستاني، واصبحت تكتب وتثير الجدول حول سلبيات العشائرية والولاء الاعمى لها، وتنادي بضرورة ارساء قواعد اكثر متانة للعمل الديمقراطي في كوردستان، كي نتجنب خرق القوانين واضعافها، ونعطي للحكومة الديمقراطية والبرلمان المنتخب والوزارات الحق في اداء واجباتهم المؤسساتية بعيداً عن التدخلات العشائرية والحزبية ، وكذلك نعطي للحراك الاجتماعي تلك المساحة اللازمة للخق الابداعي، دون اية قيود تفرضها الايديولوجيات العشائرية.