متی وكیف نفهم ثورة الشباب؟!- د. عبدالباقی مایی

 

فی جمیع المجتمعات البشریة عبر التأریخ، و بالرغم من إختلاف الأعراق والأدیان والعادات والتقالید، فإن مرحلة عمر الفرد ما بین الطفولة والبلوغ تتسم بثورة الفرد علی كل ما مر به من تربیة وعلاقة وقیم وثقافة. هذا التطور الطبیعی فی نمو الفرد لیس بغرض العداء أو الإنتقام ضد أیة جهة أو شخص و لا تنفیذا لمآرب أو برامج أو مخططات معینة، وإنما لكی یكمل الفرد شخصیته المستقلة ویحصل علی حریته فی إختیار القرار و تحمل المسۆلیات بعد أن كان معتمدا كلیا علی ولی أمره فی جمیع أمور المعیشة و الحیاة و إتكالیا فی التعبیر عن المبادێ والمعتقدات و مترددا فی إتخاذ المواقف والقرارات وذلك طاعة للكبار من ذوی الأمر وإحتراما لما قدموا له من عنایة ورعایة. یجرب الفرد فی هذه المرحلة المهمة من عمره جمیع ما تعلمه خلال فترة نموه فیطبقها عملیا بالتصادم المتعمد مع الأقرباء قبل الغرباء من أجل الحصول علی ردود الفعل الإیجابیة من متفهم و داعم بناء إلی معارض أو مضاد أو معاكس. یتدرب الفرد من خلال هذا الإصطدام علی مهارات جدیدة و وسائل متعددة لإجراء عملیة التغییر فی جمیع ما ذكرناه من الخصائص الموروثة من الوالدین والمكتسبة من التربیة والتعلیم. جوهر هذه الثورة رغم إختلاف أشكالها ینحصر فی المطالبة السلمیة بالتحرر من سلطة الوالدین ضمن الأطر والحدود والبیئة التی ینمو فیه الشخص طفلا ویمر بفترة المراهقة التی تكاد تنعدم ظاهرا فی المجتمعات الجماعیة و قد تطول لتشمل أطول وأنعم فترة للعمر فی المجتمعات المتطورة نحو الفردیة.

لكی نفهم ثورة الشباب بشكلها الصحیح علینا التعرف علی خصائص هذه المرحلة من عمر الفرد والتعامل الإیجابی مع المراهق المرتد والغاضب والثائر والعاصی، والكف عن التهجم والإتهام والتشكك والتسییس التی جمیعها وجهات نظر الكبار حسب خرائطهم الفكریة وواقعهم السیاسی، وهی بعیدة عن مطالب ووجهات النظر للشباب الثائر. قد یحدث سوء تفاهم بین وجهتی النظر المختلفتین غالبا والمعاكستین بطبیعتها إذا لم یتخذ الكبار موقفا مسالما و محایدا ومسامحا تجاه الشباب الثائر، وذلك لكون الشاب الثائر هو فی مرحلة النضوج ولم یبلغه بعد. فبالرغم من دعوته للتحرر والإستقلال ألا أنه لایملك الإدراك الكامل لهذه المصطلحات وتطبیقاتها العملیة لكونه یفتقر إلی الخبرة أولا ولأنه عازم علی التحرر والإنفصال للتمتع بإیجابیاتها لا أن یواجه فی خطواته الأولی عداء” وإتهامات بعیدة عن عالمه وإستیعابه. فهو مجهز نظریا بالمعلومة الجدیدة أكثر من والدیه أو الكبار حوله ولكنه لایعرف العواقب لكونه لم یمارسها بمسۆلیة شخصیة. لذلك یحتاج الفرد الثائر فی فترة شبابه إلی تفهم وتقبل ودعم من الكبار حوله، خاصة أصحاب الثقة والإحترام لدیه وذلك لكی یتفاعل الفرد مع كبار البالغین ویحصل منهم علی الخبرة العملیة لتطبیق نظریات التحرر الذی من حقه أن یتمتع بها ویجربها بهدوء و سلام. وإن حدث العكس، أی إذا إستقبل الكبار من ولی الأمر وأصحاب السلطة والجاه ممن یكن لهم الشاب الإحترام و ینظر إلیهم بإستلهام، أقول إذا إستقبلهم هۆلاء الكبار بالرفض والتهجم والإتهام والردع والتسییس، یصبح الشاب الثائر حینذاك فی حیرة من أمره فلایستطیع فهم أو إستیعاب مایجری و لا یستطیع بلورة الرد الواعی الحكیم المناسب لهذا التصادم، فیجد نفسه فی مأزق لا یستطیع الخروج منه لعدم وجود الخبرة الضروریة ولا توفر الدعم الناضج الذی یحتاجه. حینذاك قد یلجأ الشاب الثائر إلی قرارات غیر ناضجة أو سلوك غیر مناسب فی نظر أصحاب العلاقة من الكبار فی محیطه.

ما یحدث فی مجتمعات الشرق الأوسط من ثورات شعبیة معاصرة ماهی إلا مرحلة متطورة من هذه العملیة التحرریة وتعقیداتها. فتستغلها الأحزاب والحركات المهیمنة فی السلطة حسب مصالحها و تصبح الطاقات الشابة الكامنة فی مهب الریح فتجلب لهم الیأس والإحباط. الأمر الذی یۆدی بهم إلی فقدان الثقة بالكبار وبأنفسهم فیدخل الفرد فی أزمة نفسیة عمیقة تجعله یشعر بالوحشة والحزن والشعور بالذنب والخطئیة فیبحث عن مخرج لیس له إلمام بكیفیة إیجاده ویصبح بذلك فریسة لقوی وجهات معادیة بدءا” بالتسییس والتحزب وإنتهاء” بالإقتتال الداخلی والحروب الطویلة الأمد.

لیس المجتمع الكردستانی إستثناء” من القاعدة الرئیسیة فی هذه العملیة النفسیإجتماعیة المعقدة لدی الشباب الثائر. فبدایتها إحساس من الفرد بالغبن والتهمیش و تفكیر مختلف عما یجری لدی الكبار من حوله فیتحول الأمر تدریجیا إلی فعل معاكس لما یفعله الكبار وسلوك یتسم بالشذود عن المعتاد. فیبدأ الفرد بالبحث عن أشخاص یتفهمون غرائزه وحاجاته ویۆیدون مطالبته بالحقوق وتمتعه بالحریة اللازمة للتطور بصورة سلمیة لبناء شخصیة سلیمة ترضیه وتخدم المجتمع.

فی سلسلة مقالاتی حول التحلیل النفسیإجتماعی لثورة الشباب بعد إندلاع الشرارة الأولی لثورة شباب كردستان فی مدینة السلیمانیة فی شباط ٢٠١١ أتابع التطورات التی تمر بها ثورة الشباب فی أقلیم كردستان وما تقوم به السلطات الرسمیة والأحزاب السیاسة فی المنطقة فی التعامل معها. لازال الشباب الواعی یسیطر علی موقفه السلمی المتحفظ لكی لایستعمل العنف كما عودته السلطات علیها. كلما إنطلقت الإعتراضات و التظاهرات للمطالبة بالحریة والحقوق المشروعة تجاوبها السلطات بوسائلها المعتادة علی التسییس والتشكیك والتهدید والعنف فتجبرها علی التراجع والتقهقر. یستطیع الشباب الثائر فی كردستان أن یدافع عن حریته ومطالبه وحقوقه بإستعمال العنف كما تفعل السلطات وهم أكبر عددا وأقوی طاقة وأكثر علما ومعرفة منها. ولكن شباب كردستان الثائر یبقی ملتزما بوعیه وإدراكه حول الوسائل السلمیة لحل المشاكل والأزمات وفعالیتها المتفوقة علی العنف. لذلك یستمر الشباب الثائر فی كردستان علی إتخاذ الأسالیب السلمیة لكونه لایرید الوقوع فی التسییس المزیف والتحزب الهدام. فعلی السلطات تقع مسۆولیة الحفاظ علی الأمن والنظام بالسعی إلی التفهم الصحیح لهذه الثورة والتعامل السلمی معها لكی لا تتخذ مسارا” هداما” كما یحصل فی دول عدیدة فی الشرق الأوسط الذی نحن جزء منه.

للإطلاع علی تفاصیل التحلیل العلمی لثورة الشباب النفسیإجتماعیة فی أقلیم كردستان العراق یمكنك مراجعة مقالاتی المنشورة سابقا وآخرها بعد إنتفاضة بهدینان فی “شێلادزی” نشرت فی شبكة صوت كردستان تجدها فی هذا الرابط:

١ حزیران ٢٠١٩