دور الحزب الديمقراطي الكردستاني في التمهيد لانقلاب شباط 1963..3 – صباح كنجي

من جهتهم بادر الانقلابيون الى اصدار بيان باسم المجلس الوطني لقيادة الثورة.. تعهدوا بضمان حقوق الشعب الكردي.. ومن ثم ذهب وفد برئاسة طاهر يحي يرافقه الوزير فؤاد عارف وعلي حيدر سليمان سفير العراق في واشنطن ـ وهو كردي الأصل ايضا ـ الى ( كاني ماران ) وتباحثوا مع البارزاني لثلاث ساعات..

لكن الطرفين لم يتوصلا الى اتفاق عملي .. وبدأت الشكوك توضع امام كل طرف .. خاصة وان الشيوعيين الفارين من الانقلاب بدأوا يتحركون في اكثر من مكان ومحور في كردستان.. واخذوا ينظمون أنفسهم في تشكيلات ومفارز انصارية مسلحة ابتداء من خانقين و دربندخان و كلكا سماق في السوران.. ومناطق سهل نينوى ابتداء من بعشيقة وبحزاني والقوش ودوغات في مقرات ( اشكفتيان ـ كلي باعذرة ) و( القيصرية ـ قرية كابرا ) و ( بسقين ـ خلف جبل القوش ).. بالإضافة الى مجموعة تواجدت بحذر في دير الربان هرمز ـ دير القوش الاعلى .. لمواجهة اي تسلل من قبل سلطة الانقلاب والحرس القومي ..

واخذ العديد من كوادر الحزب الديمقراطي الكردستاني.. يعيدون النظر بموقفهم من نوايا البعثيين وسلطة الانقلاب.. ويسعون لاستعادة اللحمة مع الشيوعيين الذين تواجدوا في كردستان .. وانتبه البارزاني لثقل وأهمية هذا التواجد.. واخذ يفكر بخلق صيغة من العلاقة والتنسيق غير المعلن بين الطرفين واصدر توجيهاته لكوادره واتباعه في كافة وحدات الثورة الكردية.. بإيقاف التعرض للشيوعيين في كردستان والكف عن ملاحقتهم .. التي تباين الموقف منها والالتزام بها من منطقة لأخرى بحكم عقلية رؤساء العشائر وبقية كوادر الحزب والثورة من الشيوعيين  ..

 استقبل حسو ميرخان آمر هيز عقرة والشيخان.. الذي تقدم نحو جبل مقلوب بالقرب من بعشيقة واستقر في دير مار متي.. عددا من الشيوعيين الذين غادروا مدن الموصل وتلعفر وكدبة وشليخان  والقاضية وتمكنوا من الوصول للدير بود واحترام وكان من بينهم عدد من الكوادر ..

وتمكن الطالباني من نقل وتهريب سليم فخري والمقدم سعيد مطر وآخرون بسيارته الى مناطق آمنة في كردستان.. وجرت مناقشة هذه المشكلة الناشئة بين الطرفين.. من جراء الموقف من الشيوعيين في لقاء بين الطالباني وعلي صالح السعدي.. وتبين لاحقاً ان السلطة البعثية تماطل لحين ترتيب امر الاستعدادات العسكرية المرتقبة لمواجهة البارزاني وملاحقة الشيوعيين.. واخذ القادة العسكريون يعدون القوات المسلحة للعمليات المخطط لها.. وبدأوا يمارسون لعبة التخدير مع البارزاني من خلال وفود استطلاعية بحجة مواصلة التفاوض لمشاغلته ابتداء من اوائل آذار 1963 .. وتم اعلان جملة اجراءات للعفو عن الاكراد ومعالجة المشاكل الادارية وايقاف الاوامر المجحفة بحقهم كمواطنين..

من جانبه اعلن البارزاني عن توجهه لعقد مؤتمر شعبي في مدينة كويسنجق من 8 ـ 22 آذار 1963 حضره اكثر من 2000 شخصية من كوادر ومواطنين ورؤساء عشائر ووجهاء.. انتقد فيه بعض ممارسات اعضاء المكتب السياسي لحزبه.. واعلن عن عدم رضاه عنهم.. وقرر تشكيل وفد برئاسة الطالباني للتفاوض.. يحدد اهدافه ومطالبه المجتمعون في كويسنجق..

وفعلا تمّ تشكيل وفد التفاوض من 11 شخصية علمية وسياسية وعسكرية ومهنية.. وتقرر الذهاب الى بغداد بوفد محمل برؤية مؤتمر كويسنجق في الثلاثين من اذار .. لكنهم وجدوا ان المسؤولين في الدولة منغمسين في المباحثات الخاصة بالوحدة الثلاثية بين العراق ومصر وسوريا .. التي تقرر ان تبدأ في القاهرة بتاريخ 7 نيسان.. وهو نفس يوم تأسيس حزب البعث .. وقد استغلها الطالباني ليوجه مذكرة الى الوفود المشاركة في مباحثات القاهرة ..

اما المفاوضات فقد اقتصرت في بغداد مع ذات الوفد الشعبي الذي زار البارزاني في (كاني ماران) وبعد احتجاج الوفد الكردي انضم اليه الفريق صالح مهدي عماش وزير الدفاع واللواء ناجي طالب وزير الصناعة مع عدد من كبار المسؤولين في وزارة الداخلية ..

هناك في بغداد .. علم الطالباني بوجود مخطط من القوميين العرب.. للإطاحة بسلطة الانقلاب وعرضوا عليه المشاركة فيه .. وحينما سألهم عن اهدافهم قالوا له :التخلص من البعثيين لأنهم لا يريدون الوحدة العربية وغير جادين في الديمقراطية.. وكان الذين التقى بهم الطالباني كل من سلام احمد الامين القطري لحركة القوميين العرب في العراق.. ونايف حواتمة.. وعبدالاله النصراوي..  وكان رد الطالباني نؤيد ازاحة حزب البعث.. لكن ليس لدينا القدرة على الاشتراك.. ولن نقف ضد مَنْ يتحرك لإزاحته من السلطة..

ومع ذلك قدم الوفد الكردي لسلطة البعث.. التي دخلت في قوام دولة الموحدة المعلنة في 17 نيسان بين الدول الثلاث مشروعه المعد .. الذي تم رفضه الانقلابيون واعتبروه مشروعاً للاستقلال وليس للتفاوض..

وفي ذات الوقت صدرت الاوامر من المجلس الوطني لقيادة الثورة.. الى رئاسة اركان الجيش بالاستعداد والتهيؤ لعمل عسكري.. وجرى عقد مؤتمر لهذا الغرض في مقر قيادة الفرقة الاولى في معسكر الغزلاني في الموصل.. حضره ضباط من قيادة قوة الميدان في كركوك.. بينهم العميد سعيد قطان .. والعميد عبدالجبار خليل شنشل.. اضافة الى قائد الفرقة الاولى.. العميد عبدالكريم فرحان والعقيد سعدون حسين رئيس اركان الفرقة.. تقرر فيه وضع الخطة العسكرية واقرار الهجوم على الثوار الاكراد من قبل الفرقة الثانية.. مع اعلان فشل المفاوضات لاستئناف القتال.. لكونها فرقة جبلية تملك سرايا بغالة قادرة على جر وسحب المدفعية.. وكلفت الفرقة الاولى بالدفاع عن المواقع الاستراتيجية وحماية خطوط المواصلات..

وحينما اصبحت اخبار التحشدات والاستعدادات العسكرية منظورة وتناقلها المواطنون.. بادر الطالباني للقاء برئيس الوزراء احمد حسن البكر.. وطاهر يحي رئيس اركان الجيش.. لكنهم نفوا اية نية لشن الهجوم على كردستان.. وما قاله البكر وفقاً لما نقله نوشيروان مصطفى عن الطالباني في مذكرته المطبوعة.. ( اخون عرضي وما اخونكم )..

لذلك غادر الطالباني الى القاهرة للقاء عبدالناصر.. الذي التقاه في الاول من حزيران كضامن للاتفاق.. لكنه اخبره بأن البعثيين لا يصدقون.. ويبدو انه توصل لهذه الحقيقة في فترة قصيرة من التعامل معهم لهذا قال: انا مستعد ان اضع توقيعي على البيان واعلانه في القاهرة التي تفاجأت بفشل المحاولة الانقلابية للقوميين العرب في بغداد بتاريخ 25/5/1963.. وورود اسم الطالباني في الاعترافات التي ادلاها المعتقلون..

لذلك نصح عبدالناصر الطالباني بمغادرة القاهرة الى بيروت وعقد مؤتمر صحفي فيها لتوضيح موقف الكرد.. وانهم لا يريدون الحرب.. ولن يبادروا الى استئناف القتال.. ويرغبون في حل سلمي .. وانهم لا يعارضون الوحدة العربية ويؤيدونها.. واننا كشعب اصيل يعيش على ارضه.. لا يجوز ان نقارن بإسرائيل..

وتم فتح مكتب للثورة الكردية في القاهرة بإشراف شوكت عقراوي .. ومع ذلك فقد استجاب عبدالناصر لطلب السلطات العراقية بتزويد الجيش العراقي بالعتاد وقذائف المدفعية من معامل وزارة الدفاع المصرية ومدهم بآلاف القطع من رشاشات البور سعيد.. لتأخير وحجز صفقة السلاح المبرمة مع السوفييت من عهد قاسم.. بسبب جرائم حزب البعث بحق الشيوعيين واستئنافهم للقتال في كردستان .. ولم يعلم البارتي بالموقف المزدوج لعبد الناصر .. الا بعد لقاء شوكت عقراوي بطالب شبيب عام 1964 .. الذي كان اول من نقل الخبر الى قيادة حزبه والبارزاني..

وفي الاول من حزيران 1963 .. تم الانتهاء من التصويت في المجلس الوطني لقيادة الثورة في العراق لصالح استئناف العمليات العسكرية للجيش والطيران في كردستان.. واكملت وزارة الدفاع استعدادها لبدء الهجوم وتم الاتصال بتركيا وايران.. عبر الملحقيات العسكرية في بغداد للتنسيق والتعاون .. وقد تشكلت هيئة تنسيق مشتركة (عراقية ـ ايرانية ـ تركية )  برئاسة صبحي عبد الحميد مدير الحركات العسكرية ورعاية مباشرة من صالح مهدي عماش وزير الدفاع ..

وجرى استغلال حادثة سبيلك للجنود الذين وقعوا في الكمين.. وانعكست نتائجه مباشرة على وضع الوفد الكردي في بغداد.. الذي فرّ بعض اعضائه.. وتم نقل الاخرون بطائرة هليكوبتر الى قاعدة كركوك  الجوية بتاريخ 9/6/ 1963 .. ليجدوا انفسهم معتقلين.. بأمر من الفريق صالح مهدي عماش..

واعلن رئيس الجمهورية في 11 حزيران .. انه سيقود العمليات العسكرية بنفسه .. واعطى علي صالح السعدي مهلة للبيشمركة .. ليسلموا انفسهم مع اسلحتهم خلال 24 ساعة فقط.. الى اقرب وحدة عسكرية .. من خلال مؤتمر صحفي .. وبادرت القوات العسكرية بارتكاب جرائمها البشعة ابتداء من مدينة السليمانية.. التي تمت مداهمتها من يوم 9 / حزيران وفرض حظر التجول فيها لثلاثة ايام  بقيادة العميد صديق مصطفى .. وتم اقتياد 4000 مواطن الى الحامية العسكرية.. وتم تنفيذ احكام الاعدام فوراً بالعشرات منهم.. رمياً بالرصاص.. ودفنوا في مقابر جماعية.. خلف الحامية فيما عرف لاحقاً بوادي الموت..

وقد عثر ذوو الضحايا على رفاة اقاربهم.. بعد انتفاضة آذار عام 1991 .. وكان من بين المجرمين المشتركين في هذه المجزرة ( عدنان خيرالله طلفاح ) .. كما اشترك فيها مجموعة من العناصر الذين تطوعوا من ابناء العشائر الكردية من الموالين للسلطة.. من فرسان صلاح الدين وتشكيلات ابن الوليد مع مقاتلين عرب غير نظاميين من عشائر الجبور وشمر.. الذين سجلوا في قوام مفارز تابعة لرؤساء العشائر العربية..

وشارك ايضا لواء مشاة من الجيش السوري.. مكون  من 4000 ـ 5000 عسكري بين ضابط وضابط صف وجندي بقياده العقيد فهد الشاعر.. الذي ساهم بحرق عدة قرى للإيزيديين في سهل نينوى وقتل 7 مواطنين ابرياء في قرية كابارا .. واحرق العشرات من القرى في سهل نينوى ومحور سينا وشيخ خدر جنوب دهوك..

وفي محور اربيل واصلت الفرقة الثانية تقدمها بقيادة العميد الركن ابراهيم فيصل الانصاري رئيس اركان الجيش لاحقاً الى منطقة ( ميركه سور ) واستمر الوضع الحربي في كردستان لغاية 18 تشرين الثاني 1963 حينما تمكن عبد السلام عارف من ازاحة البعثيين من السلطة..

وحدث تغيير في موقف الحكومة الايرانية من الاوضاع في كردستان.. بعد ازاحة البعثيين من السلطة..  اوقفت التنسيق العسكري مع الجيش.. وسحبت العقيد ( محمد فرزام ) من كركوك.. واوقفت تبادل المعلومات العسكرية مع الجيش العراقي.. وعادت لفتح صفحة جديدة مع الثورة الكردية و تقديم المساعدات العسكرية الى الثوار.. وسمحت للمساعدات الاخرى بالمرور الى كردستان واشعرت ممثل  اسرائيل بهذا التحول في موقفها من الاحداث بالعراق..

وهكذا انتهت العلاقات الودية بين البعث والقوميين العرب المشتركين بانقلاب شباط عام 1963 وقيادة الثورة الكردية والحزب الديمقراطي الكردستاني.. الذي انجرف للمشاركة وتأييد الانقلاب في صفحة هي الأسوء في تاريخ الحزب.. الذي تكررت أخطائه ولم يتعظ منها في ازمنة لاحقة.. مع ذات الجهة والحزب .. الذي ساهم في تدمير كردستان وحرقها بالكيماوي والانفال عام 1988.. في مرحلة ما بعد انتفاضة عام 1991 وما اعقبها من تشكيل ادارة كردية دخل اطرافها في نزاعات ادت الى استقدام الحزب الديمقراطي الكردستاني لقوات نظام صدام حسين وحزب البعث للدخول الى عاصمة اقليم كردستان.. في 31 آب 1996.. من اجل طرد قوات الاتحاد الوطني الكردستاني .. كما شاهدنا وشاهد العالم معنا..

 

ــــــــــــــــ

صباح كنجي

8/6/2019

 

المصادر ..

1ـ  التيارات السياسية في كردستان العراق صلاح الخرسان مؤسسة البلاغ للطباعة والنشر بيروت لبنان 2001

2ـ البارزاني والحركة التحررية الكردية الجزء الثاني الكرد وثورة 14 تموز 1958.. مسعود البارزاني.. كردستان 1990

3ـ وثائق الحزب الشيوعي العراقي

4ـ معلومات من معاصرين للأحداث

5ـ اسرار ثورة 14 تموز صبحي عبد الحميد

6ـ علي كريم سعد ( عراق 8 شباط 1963 – من حوار المفاهيم الى حوار الدم: مراجعات في ذاكرة طالب شبيب) ..

7ـ كتابات تاريخية لعدد من المؤرخين العراقيين

8ـ مذكرات ثابت حبيب العاني

9ـ الحقيقة حول انقلاب 8 شباط الفاشي  .. حامد الحمداني

10ـ جامعة الموصل / كلية الآداب/ قسم الاعلام .. بحث بعنوان موقف الاحزاب العراقية من بعض الاحداث الوطنية والعربية 1963ـ 1968 ..م. م خميس محمود شبيب القيسي و أ.م.د وائل علي أحمد النحاس

11ـ اوراق توما توماس.. كردستان ـ  مطبعة آزادي  2017