رواية توفيق الختاري عن الأنفال ..1 – صباح كنجي

شهادة توفيق الختاري.. عن الأنفال في غاية الأهمية من عدة جوانب، فهو وإن كان ذلك قد حدث في اللحظة الأخيرة، كما يقول المثل: قد أصبح المسؤول العسكري لقاطع بهدينان بعد دمج الأنصار بالتنظيم المحلي والتي أصبح فيها عضو اللجنة المركزية لبيد عباوي ـ أبو رنا المسؤول السياسي الأول، وهو أيضا أيْ توفيق من بين الذين فقدوا الكثير .. عائلته المكونة من زوجته شيرين وأبناءه وبناته بالإضافة إلى أربعة عائلات أخرى من أقربائه وأبناء عمومته.. علي خليل عيسى وجلال خليل عيسى ومام سليم وعائلة عادل سليم ـ النصير سعيد دوغاتي .

توفيق عاشَ تفاصيل الأحداث في الأنفال من موقعه كمسؤول عسكري أول في مقر مراني، الذي شهد الحصار وفقد الكثير من أنصاره مع العوائل التي حاولت النجاة، لكنها واجهت عدم إمكانية اختراق خطوط الطوق المحكم كنسيج العنكبوت حولها وعادت لشعاب كاره لتواجه مصيرها الذي لم تختاره رغم محنة الحصار وقسوة الوضع، بعد أن حصل ما حصل من نتائج وخيمة نجمت وحصلت بعد تلك اللحظات الصعبة والعصيبة.

كيف اتخذ قرار التخلص من العوائل؟ من اتخذه؟ ولماذا؟.. كل هذا سيأتي في سياق حديث توفيق بتفاصيل محفورة في ذاكرة ما زالت تنضح دماً، كأننا ما زلنا في تلك اللحظة من ساعة الافتراق الأبدي المؤلم .. حينما غادر البعض ليخطو أولى الخطوات نحو حتفهِ تنفيذاً لقرار اتخذ في لحظة التباس واجبر الآخرون على الالتزام به في لحظة صمت قاتلة ..

فتشابكت خيوط وخطوط الموت لتنهي حياة من غادر تلك الشعاب في تلك الواقعة التي عرفت بالأنفال .. الأنفال التي ابتلعت آلاف البشر في لحظة تيهٍ سرمدية، بعد أن تحجرت العقول وغفت الضمائر كي تحجبَ الرؤيا، ويصبح السير نحو الموت الطريق الوحيد لخلاص من جفلت روحه وتشبثَ فزعاً يمسكُ بخيط السلامةِ لينجو بجلده إلى ما وراء الحدود تاركاً خلفه أثار جريمة من بقايا ذكريات لأطفال ونساء وشيوخ، كان من الأولى به أنْ لا يتركهم يندفعون ليطحنوا بين فكي رحى الأنفال.

 

عن الأنفال والعوائل التي فقدت يقول توفيق:

 مرّ على الحدث أكثر من ربع قرن.. من الصعوبة الاعتماد على الذاكرة وحدها في استذكار وتوثيق تلك اللحظات من التاريخ، بما فيها اللقاءات والاجتماعات التي اتخذت فيها قرارات مصيرية.. ليس بمقدوري أن أتحدث بشكل مطلق عن كل ما جرى، بسبب وجود مجاميع تجاوزت الاختراق وانفصلت عنا لتواجه أوضاعا ومصيراً مختلفاً في أماكن أخرى.

لا يمكن أن اعتمد على القصص والروايات مما تناقلها الأنصار والرفاق فقط وسردهم لما واجهوه في حينها، لكن استطيع أن أتحدث بما يتعلق بي وبدوري في تلك الفترة العصيبة، بالرغم من أن الحديث عن المجاميع يتطلب ذكر الأسماء والتواريخ ومن شخص للقيادة، هذا أمر صعب للغاية بعد هذا الزمن الطويل، لكن هناك الكثير مما كتب عن حصار الفوج الأول في مراني بالأخص الرفيق ناظم وأبو ناتاشا وأبو ندى وأبو جميل، بالرغم من عدم وجوده في الأنصار في حينها، الذين عبروا عن وجهة نظرهم ورؤيتهم للأحداث والحقائق من الزاوية التي عايشوها، وهي رؤية تتحمل المناقشة والتصحيح والتعقيب لأنهم أيضا اعتمدوا على الذاكرة فقط . 

 قرأت جميع ما كتب ووجدت هناك تواريخ متعددة لتثبيت يوم بدء الهجوم مثلا كذلك فيما يخص توزيع المهام على المجموعات وتشخيص قياداتها، لأجل ذلك سأثبت ما أنا موقن منه و اعتقد انه صحيح 100% وسأترك البقية لمن يكتب لاحقاً عن الموضوع، حتماً هناك أنصار آخرين سجلوا ما مرّ بنا لكن لم ينشروه لحد الآن.

مثلا وجدت فيما كتبه الراحل أبو جميل، عن الأنفال التي كان بعيداً عنها واعتمد على ما نقل له تجنياً على حقائق الوضع في تلك المحنة، خاصة بالنسبة لعدد من الرفاق الأبطال.. الذين تحملوا الجوع والعطش ناهيك عن خطر الموت واخترقوا الحصار وأنقذوا مجاميع المحاصرين، سواء الذين توجهوا نحو الحدود التركية أو الإيرانية، ناهيك عن ما مرّ بنا من أبطال خططوا بالتنسيق مع تنظيم الداخل لمهمة العبور إلى سوريا عبر سنجار، الذي كان يتطلب الدخول الإجباري إلى مدينة الموصل، وهو الانجاز الكبير في تلك المرحلة، واعتقد ان الفقيد أبو جوزيف كما قد كتب في الحلقة 37 وما قبلها من مذكراته، كان قد وقع تحت تأثير الصراعات الحزبية في قيادة الحزب، والموقف من الكفاح المسلح والأنصار، الذي انعكس في ما دونه خاصة وانه كما يقول هو: كان احد المبعدين من كردستان بدون رغبته، ومن الذين لم يشتركوا في اجتماع اللجنة المركزية الأخير، الذي قرر دمج الأنصار والتنظيم المحلي وجلب عدد من الرفاق لقيادة القواطع من خارج كردستان.

هنا يبدو أن أبو جميل فيما كتبه عن الأنفال في بهدينان، بشكل خاص عن حصار مراني والفوج الأول ليسَ إلا انعكاساً لما سمعه من البعض الذي لا يخلو أيضا من تأثيرات الصراع بين القياديين، بما فيها العلاقة الشخصية بينه وبين أبو رنا، واستطيع التأكيد، أن الصراعات الشخصية انعكست على أوضاعنا الحزبية والعسكرية وجلبت الخسائر في مراحل سابقة، لغايات كان الهدف منها خلق أجواء وعراقيل لا تساعد على النجاح والتطور، تدفع للعجز والفشل ومنها هذا الذي كتب من زاوية واحدة للفقيد أبو جوزيف، الذي ركز فيما كتبه على هذا الجانب، وهو في نفس الوقت يشيد بمواقف احد الأنصار ودوره الصغير ويضخمه على حساب دور الآخرين، ممن تصدوا وأبدعوا في تنفيذ ما كلفوا به، رغم ما كان يحيط بنا من غموض وفوضى، خاصة فيما يتعلق باختراق المدن والتوجه إلى سوريا عبر سنجار ومرور أكثر من أربعين نصيراً ونصيرة من محطة واحدة، وما يقارب هذا العدد 35 إلى تركيا ومنها إلى إيران.

سوف أتحدث عن تفاصيل تلك المجاميع والمهام ودور الرفاق الذين أبدعوا في الوصول إلى ما وراء الحدود مخترقين حواجز الموت، بالرغم من الجوع والتعب ومرور وقت طويل على الحصار حسبما ذكره أبو ندا فيما كتب إذ تحدث عن تحركهم من كاره بتاريخ 30 /10/1988 ومن المحتمل أن يكون التاريخ الذي ثبته غير دقيق ويحتاج للتأكيد، لأنه وحسب معلوماتي المؤكدة التي أنا واثق منها إذ خرجتُ مع أبو داود خديدا حسين الختاري بتاريخ 22/10/1988 وكنا آخر نصيرين، عدا صباح كنجي الذي كان من الصعب الاتصال به في حينها، وسعيد دوغاتي وهيثم من تللسقف الذين أبقيناهم لمتابعة الموقف من باب الاحتياط وفعلا وصلوا هم أيضا بعد فترة قصيرة وبقي صباح لأكثر من سنة وحده لغاية 15/9/ 1989 ..

 لأنه وللحقيقة بالرغم من فشل المسؤول الأول الذي تناولهُ أبو جوزيف بالنقد فأنّ بقية الرفاق والأنصار قد خاضوا كفاحاً بطولياً من أجل أن لا يقعوا فريسة لقوات السلطة، التي كانت تحكم الطوق عليهم، وأيضا الصراع مع من لم يكن جديراً بقيادة الأنصار في هذه المحنة، بسبب تردده وقلقه وانعدام مؤهلاته العسكرية، وسوف افصل في هذا الموضع مع سردي لبقية تفاصيل الحدث مما مر بنا في ذلك الوقت لحظة بعد أخرى حسب ما تسعفني به الذاكرة. 

لأجل الحديث الدقيق عن الأنفال، لا بدّ من التحدث بشيء من التركيز عن بدء نشاطنا في الكفاح المسلح وتطور حركة الأنصار خلال عقد من الزمن، إذ شهدت الحركة حالات مد وجزر في أجواء مختلفة، قبل وبعد الحرب التي رافقها صراعات دموية بين فصائل المعارضة، بما فيها تحول الحركة الأنصارية إلى قوة فاعلة وتوسعها في جميع مناطق كردستان نتيجة الإلتحاقات الواسعة فيها والتي شملت مختلف الفصائل والأحزاب، بالأخص الديمقراطي الكردستاني والحزب الشيوعي والاتحاد الوطني والتفاف الجماهير حولها، واضطرار السلطة لسحب قطاعاتها العسكرية المهمة من كردستان إلى جبهات الحرب مع إيران.

لقد انتعشت الحركة المسلحة وتمكنت من اقتحام مقرات أفواج الجيش النظامي وكذلك مقرات الجحوش واحتلال الربايا وتطهير مناطق واسعة من القرى والمدن في كردستان والدخول إلى المدن واقتحامها كما حدث في نوچول و مانكيش ومطار بامرني وفوج دير ألوك والعديد من الفعاليات الكبيرة بتنسيق فاعل واشتراك قوات الحزب الشيوعي العراقي مع قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني، حيث أصبحت مناطق واسعة تحت سيطرة الأنصار والپيشمركة امتدت إلى أطراف الموصل .

هذا التطور دفع بالنظام الدكتاتوري لاحقاً إلى ارتكاب جرائم شنيعة بحق الشعب الكردي وقوات الأنصار باستخدام سلاح جديد وفتاك، شمل لأول مرة في التاريخ السلاح الكيماوي، في ضرب مقرات الأحزاب. كما حدث في مقر قاطع زيوه خلفَ العمادية للحزب الشيوعي العراقي في 5 حزيران عام 1987 الذي أسفر عن إصابة واستشهاد نصيرين هما أبو فؤاد ـ چوقي سعدون و ريبر عجيل ـ أبو رزكار وإصابة أكثر من 120 نصيراً بجروح من جراء السلاح الكيماوي لأول مرة وقد كتب النصير سلام إبراهيم ـ أبو الطيب رواية عن الحدث بعنوان في باطن الجحيم، كذلك كتب النصير صباح كنجي شهادة قدمها إلى محكمة هولندية فيها تفاصيل وأسماء المصابين والمتواجدين في المقر في ذلك اليوم، وأيضا شاهد العراقيون النصيرة سعاد – الدكتورة كاترين ميخائيل- وهي تقدم شهادتها في محكمة الدكتاتور عن ضرب المقر بالكيماوي.. كما هناك صور وفيلم فيديو موثق ساهم في إعداده النصير المصور كاردو كامو الذي كان متواجداً في المقر أثناء القصف بالتعاون مع إعلام الحزب الديمقراطي الكردستاني، ولا أرى ضرورة للتفصيل وإعادة ما دون من قبلهم في توثيقهم للحدث.  وهناك كتابات اخرى وفيها توثيق لما حصل ومنها ايضا كتابات فيصل الفؤادي ـ ابو رضية وعلي محمد ابو سعد  الخ ..

سوف أعود للحديث عن الأنفال من خلال التطرق إلى هذه الحوادث المهمة التي سبقتها وتصاعد وتيرة الدمار من قبل السلطة، الذي ترافق مع اعتقالات عشوائية وتكرار هجماتها على المقرات في سوران و بهدينان، كما حدث في عام 1987 في شباط أثناء التقدم والهجوم الواسع النطاق على مقرات مراني وسيدرا من قبل قوات الفيلق الأول بقيادة الفريق أياد سعيد ثابت الذي نفذ الهجوم مع أفواج الجحوش وتقدم من محاور متعددة، والذي جرى التصدي له لأكثر من عشرة أيام متتالية تم فيها سحب العوائل إلى مقر الإقليم في كافيه وسوف أتحدث عن هذا وما سببه وجود العوائل من عبء كبير وعرقلة مهمة التصدي الفاعل للجيش كتجربة سبقت الأنفال، التي استخلصنا منها درساً تطلب التفكير بإبعاد العوائل ونقلهم إلى مناطق آمنة، وهو ما فعلناه بتقديم مقترحات إلى قيادة الأنصار والحزب وتكليفهم بدراسة الموضوع واتخاذ قرار ملائم وسوف أسرد تفاصيل مقترحاتنا حول نقلهم عبر رحلتي للعلاج إلى إيران وحديثي المباشر مع قيادة الحزب في فقرة لاحقة تخص العوائل في مرحلة الأنفال.

كانت السلطة تبذل المستحيل للحد من تحركات الأنصار وتسعى للتخلص من المعارضة المسلحة بشتى السبل ومارست كافة أشكال الانتقام من الجماهير التي تتعاطف مع المعارضة وتعترض على الحرب.. وشمل ذلك تخريب وتهجير عدة قرى، كذلك قصف البعض منها بالكيماوي كما حدث في حلبچة        وباليسان وشيخ وسان وتفاصيل جريمة حلبچة معروفة للجميع، وتهجير وإبادة البارزانيين وطرد عوائل الأنصار وترحليهم إلى مناطق كردستان وتهديم وحرق سلسلة قرى جديدة في مناطق العمق في أطراف دهوك والموصل، التي ترافقت مع تقدم القوات العراقية وتحقيقها لتفوق عسكري وانتصارات في جبهات الحرب مع إيران، وتوجه بقصف العديد من المدن الإيرانية بالصواريخ بعيدة المدى وإعادة الأراضي العراقية المحتلة الذي انعكس سلباً على الأوضاع في كردستان بحكم إمكانية زج قوات اكبر وتوجيها إلى مناطق تواجد الأنصار، وفي وقت لاحق قبل توقف الحرب مع إيران، باشرت القوات العسكرية العراقية بعمليات سحق وإبادة للقوات المعارضة العراقية في كردستان، وبدأت المراحل الأولى من عمليات الأنفال في مناطق كركوك و كرميان والسليمانية، ومن ثم زحفت نحو مناطق أربيل و خواكورك.

إذ جرى حرق وتدمير القرى وإبادة سكانها أو اعتقالهم ونقلهم إلى معسكرات وقلاع الجيش قبل أنْ يختفوا بشكل نهائي فيما عرف لاحقاً بالمقابر الجماعية والتوثيق السياسي والتاريخي للجريمة يتحدث عن أكثر من 182 ألف مغيب في هذه العمليات الإجرامية، التي اشرف عليها المجرم علي كيماوي، بعد أن نسب للعمل في كردستان بصيغة مسؤول مكتب تنظيمات الشمال لحزب البعث والحاكم العسكري الممنوح صلاحيات رئيس الجمهورية في التصرف، الذي جسدها بحملة إبادة شاملة طالت أبناء الشعب الكردي والمتواجدين في كردستان من بقية الإثنيات ، بالإضافة إلى الأنصار والپيشمركة التي ترافقت مع الأشهر الأخيرة للحرب العراقية الإيرانية وأعقبتها.. إذ توقفت الحرب فعلا بتاريخ 8/8/1988.

حيث استمرت حملات الأنفال في بهدينان وقد أثبتت الوقائع صحة تنبؤات الجماهير وحذرهم من سياسة الحزب التي كانت تطالب بوقف الحرب بدون قيد وشرط، وكانت تحذيراتها في حينها تؤكد إن إيقاف الحرب سيكون كارثة على الشعب والمعارضة معاً بالأخص الأكراد الذين سينتقم منهم.

 

هذا ما حدث فعلا في تلك الأيام وما قبلها ليؤكد.. أن السلطة وسياساتها تشكل خطورة على حياة المواطنين لا تختلف عن خطورة الحرب.. خاصة بعد أن استخدم السلاح الكيماوي ضد المواطنين والمعارضة العراقية، كما أوضحنا بما سبق .. وبخصوص بهدينان فقد حشد النظام قواته حال توقف الحرب، إذ شاهد المواطنون في أطراف الموصل بدء تجمعات الجيش وحركته نحو الشيخان من محور الشلالات وبعشيقة وكذلك محور فلفين دهوك زاخو ومحور عقره الزيبار حيث بدأت الآليات العسكرية المتوجهة في الطرق والشوارع تنتشر على شكل سلسلة طويلة من الآليات بينها الدبابات والدروع والمدفعية وناقلات الجنود  من يوم 9/8/1988.

كانت التطورات السريعة والأحداث الكبيرة تتلاحق ابتداء من جبهات الحرب وفي ساحات كردستان داخل المدن التي شهدت تحركاً سريعاً من قبل النظام الذي استثمر فوراً توقف الحرب مع إيران ليصفي خصومه في الداخل، وكان قد خطط لهذا التوجه الإجرامي بتحشيده للقطعات العسكرية وطيران الجيش والقوة الجوية وقوات الحرس الجمهوري الخاصة بالإضافة إلى تشكيلات الجحوش والاستخبارات والجيش الشعبي وبقية أجهزة القمع ومنظمات حزب البعث، التي سخرت جميعها لهدف تدمير وإنهاء الحركة المسلحة في كردستان العراق.

بالرغم من كل هذه التطورات، فإن قيادة الحزب والمكتب العسكري المركزي لم يحركا ساكناً، وبقوا ينتظرون التطورات بشكل سلبي، ولم يتخذوا أية إجراءات ولم تكن هناك خطة طوارئ لمواجهة حالة ما بعد الحرب، ولم يكن التنسيق فاعلا بين الأطراف المعارضة ولا حتى بين التشكيلات الأنصارية للحزب نفسها والأفظع من ذلك، القرارات غير السليمة التي اتخذت في اجتماع تموز للجنة المركزية، الذي عقد في ظل أجواء الصراعات الحزبية التي تحدث عنها الراحل أبو جوزيف في مذكراته والتي شملت حل قوات الأنصار ودمجها بالتنظيمات المحلية تحت قيادة إقليم كردستان.

الذي شهد تشكيل لجنة جديدة لأول مرة من غير العاملين في الإقليم في فترة حرجة تداخلت مع وقف الحرب وبدء الهجوم الشامل على كردستان، الذي كان يتطلب من قيادة الحزب دراسة الوضع الناشئ بعد توقف الحرب واتخاذ الإجراءات العسكرية المطلوبة لتفادي هجمات السلطة وتخفيف عبء حركة الأنصار وجعلها قادرة على مواكبة التطورات المحتملة لعودة الجيش إلى مواقعه في كردستان، بحكم التفوق العسكري، بعد أن هدأت جبهة الحرب وتوقفت.

إن عدم اتخاذ الإجراءات الفاعلة والمطلوبة في هذا الظرف الدقيق جاء بسبب عدم مقدرة القيادة على اتخاذ قرار جماعي لانشغالها في صراعات جانبية عكست خلافات في وجهات النظر حول الموقف من الحرب والكفاح المسلح.. التي عرقلت أية محاولة لتطوير حركة الأنصار، خاصة بعد تشكيل المكتب العسكري من شخصيات غير مؤهلة وهو السبب الوجيه، وهناك سبب آخر كان يتعلق بمحاولة البعض من قادة الحزب التخلص من الأنصار ونبذ الكفاح المسلح، وهو أمر تحقق في هذه المحاولة من الدمج التي جاءت في وقت غير مناسب، عكست تأثيرها على التطورات اللاحقة في الأنفال، والخسائر الفادحة التي قدمت من جراء عدم أهلية من تصدى للمهمة القيادية الأولى في بهدينان مثلا، ولا اعتقد إن وضع سوران كان أفضلا، لكن قرب الحدود الإيرانية ساعد على عدم إعطاء خسائر كما حدث في مراني للعوائل والفوج الأول.

والدليل على هذا.. إن المهمة انيطت بالتنظيم المحلي ووضع كوادر غير مؤهلة للقيادة العسكرية في اللحظة المناسبة والحرجة.. ما حل بالعوائل وأنصار الفوج الأول الذي سأتحدث عن تفاصيلها في الفقرات اللاحقة، بحكم اطلاعي ومعرفتي بدقائق الأمور، لكوني كنت المسؤول العسكري الذي يتحكم به المسؤول السياسي ذي الصلاحيات الكبيرة بحكم مركزه الحزبي كعضو في اللجنة المركزية ومكتب الإقليم وفرضه ليكون المسؤول الأول عسكرياً أيضا !..

بدأت معالم التحشدات العسكرية الضخمة تتوارد إلينا والى بقية الأحزاب بشكل يومي من تاريخ 12 آب وما بعدها، حيث تناقل الناس وتنظيمات المعارضة أنباء مؤكدة عن وصول الجيش وتمركزه في أطراف الشيخان، وقبلها كنا قد عقدنا لقاءً خاصاً مع ممثلي الحزب الديمقراطي الكردستاني في مراني لتنسيق الموقف ومتابعة الوضع بشكل مشترك على ضوء التطورات و التحشدات التي سمعنا عنها.. حضر اللقاء معي أبو سربست أيضا ومن حدك الفقيد علي خنسي وتداولنا الموضوع بشكل تفصيلي، وأكد الأصدقاء في حدك عن استعدادهم للمقاومة وعبروا عن ثقتهم بإمكانية مواجهة قوات الجيش في حالة هجومه وكانوا يمتلكون ذخيرة وتعاطف جماهيري، جعلهم يستنتجون أن الجماهير ستتصدى أيضا للزحف العسكري، خاصة مع وجود مجاميع من رافضي الحرب المسلحين في كافة القرى.

واستشهدوا بالمقاومة المشتركة في خواكورك التي دامت مدة شهرين تقريباً التي استطاعت فيها قوات الپيشمركة من الصمود والتصدي للقوات العسكرية الجبارة التي كانت متجحفلة ويسندها الطيران طيلة أيام المعركة، كان الأصدقاء في حدك يعتقدون أنهم قادرون على الصمود لأكثر من شهر. وبينا لهم مخاطر استخدام الكيماوي واحتمالات أن يكون الهجوم كبيراً ومتفوقاً، ومن الخطأ أن نقيس الوضع كما حدث في السابق، لكنهم أصروا على موقفهم، وأكدوا وجود توجيهات بالتصدي والصمود، وعلمنا فيما بعد أن توجيهات قد صدرت لهم من قيادتهم بالتحرك والانسحاب و للأسف لم يعلمونا بذلك.

في هذا الاجتماع تم الاتفاق على تشكيل قوة مشتركة لغرض عقد ندوات وحث المواطنين على الصمود والمقاومة وجمع المعلومات الدقيقة عن تحركات السلطة، والتصدي للحرب النفسية التي بدأ يشنها عملاء النظام ببث الإشاعات بين الأهالي وكانت الدعاية تركز على استخدام السلاح الكيماوي الذي خلق جواً من الذعر والخوف الشديد .

كذلك التنسيق المستمر وتبادل المعلومات السريعة حول مستجدات الوضع العسكري والأمني .. وأيضا الاستعداد للتصدي لأي هجوم لاحق و المقاومة المشتركة.

بعد هذا اللقاء عقدنا اجتماعاً قيادياً للفوج لدراسة الوضع من كافة الجوانب ونتائج الاتفاق مع حدك.. توصلنا إلى اتخاذ توجهات خاصة بنا والتفكير بوضع خطة عمل بدأت بتشكيل مفرزة صغيرة توجهت إلى العمق في بيرموس ومناطق سهل الموصل بقيادة أبو ظاهر ومعه ناظم وأبو ندى وآخرين، كذلك خزن المؤن والسلاح والعتاد الزائد في أماكن متعددة خارج المقر، وتم تنفيذ هذه المهام دون تأخير.. أشرف الإداري أبو حازم على هذه المهمة بالتنسيق معي .. فكرنا بتشخيص مقرات صغيرة في منطقة الدشت ووضعنا فيها مستلزمات مختلفة من مؤن وعتاد في كهوف مام ازدينا وبير موس وهذا ما فادنا لاحقاً.. وتمت مناقشة أوضاع العوائل وتشخيص سبل أبعادهم من الخطر نحو المناطق الحدودية باتجاه تركيا وإيران، ولو جرى الالتزام بنقل العوائل في لحظتها لكنا قد أنقذناهم، لكن القرار لم يتخذ وبقي في حدود المناقشة بالرغم من تأكيد الجميع على ضرورة تحرك العوائل قبل فوات الأوان.

هنا لا بد من التأكيد على طرح نقطتين، من قبل أبو سالار المسؤول الأول للجنة المحلية والقاطع الذي تحول إلى مفصل في خضم هذه الأحداث.

ـ الأولى على شكل سؤال منه .. كيف سيكون موقف الجماهير لو انسحبت عوائل الأنصار الشيوعيين  من الآن؟.. الا يشكل هذا سبباً للقلق لدى جماهير المنطقة ويهبط من عزائمها؟.. بحكم ثقة الجماهير الكبيرة بالشيوعيين.

ـ الثانية من سيرافق العوائل في حالة انسحابهم؟.. خاصة وان غالبية الكوادر من القياديين الذين نعتمد عليهم في هذا الوضع الصعب.. وجميعهم من أبناء المنطقة ولهم عوائل بيننا .. وأذكر منهم الرفاق أبو عمشة أبو سربست وأبو امجد وآخرين بالإضافة إلى وجود أبو سلوان وأبو ناتاشا و كاروان عقراوي.

عندما طرح هاتين النقطتين كنا ما زلنا في مراني .. وقد أحرج بهذا الطرح الكثير من الرفاق           و الأنصار .. لكننا وجدنا حلا بالتأكيد على أن مرافقيهم سيكونون من الرفاق والأنصار المرضى والتعبانين والمتقدمين في العمر مع عدد من البغال والأنصار .. هكذا وجدنا حلا معقولا ومقبولا للمشكلة الأولى ..

أما الثانية فيما يخص بانعكاس انسحاب عوائل الشيوعيين على معنويات الجماهير.. فلم نجد لها حلا   و مخرجاً بالرغم من عدم قناعتنا بوجود علاقة سببية تربط بين سحب العوائل وأبعادهم ومقاومة الجماهير المحتملة.

هذا أول استنتاج خاطئ وقعنا فيه بسبب طرح المسؤول الأول، الذي أعقبه مقترح آخر منه أيضا بإبعاد العوائل من المقر إلى شعاب الجبل في كاره وإبقائها هناك كحل مؤقت، لحين انجلاء الوضع أو حدوث تغيير في موقف الجماهير وكان هذا هو الاستنتاج الثاني الخاطئ الذي أوقعنا فيه بحجة استهداف المقر بأسلحة فتاكة، لكنه واجه اعتراض كبير من قبل الجميع وأصروا على إيجاد حل جذري يؤمن سلامتهم وعدم إيداعهم في أماكن تعرضهم للتعب والأمراض والموت.

بالإضافة إلى هاتين المسألتين كان المفترض أن نتدارس ثلاثة نقاط أساسية ترتبط بوضع العوائل هي:..

ـ الأولى رؤيتنا لإمكانية إنقاذ العوائل في حالة مقاومة العدو وكيفية التنسيق بين المهمتين، وأيضا لا أنسى انجرارنا لموقف حدك الذي أعلنوه في لقائنا حول استعدادهم للمقاومة.. وخطأ مقارنتهم بما حصل في خواكورك  ـ القريبة من حدود دولتين وسهولة تجاوزها ـ  مع منطقة كاره في العمق التي  تحيطها عدة مدن بين محافظتي دهوك والموصل شكلت نقاط تجمع عسكرية لقوات النظام التي تمكنت من تطويق كاره من عدة جهات أوقعتنا في مأزق حقيقي لأسباب عديدة.

ـ الثانية لم تكن قوات الأنصار و الپيشمركة في خواكورك مقيدة بوجود عوائل كما في مراني وهذا مما جعلها حرة الحركة في مناوراتها أثناء الهجوم والانسحاب ووجود القياديين مع الأنصار و الپیشمركة بينهم مسعود البارزاني وكريم احمد وبقية القياديين وهذا ما جعلهم يقامون لفترة أطول.

ـ الثالثة كان من المفترض علينا كقيادة محلية نينوى وقيادة أنصار أن نلجأ لاتخاذ قرار حازم بخصوص العوائل، خاصة بعد تأكيد منظماتنا بوجود نية لتدمير وحرق كردستان هذه المرة.. وان تجربة خواكورك كانت ما زالت طرية ولم يمر عليها سوى أسابيع، إذ كان من المفترض الاستفادة منها، علماً إننا كنا نرفد قيادة لحزب بالمعلومات الدقيقة عن تحركات و تحشدات النظام العسكرية وقرب هجومه علينا.

إلى جانب هذا كان من الضروري أن نأخذ وجودنا في العمق بنظر الاعتبار وإمكانية تطويقنا ومحاصرتنا من عدة جهات وهو ما حدث فعلا مقارنة بمنطقة خواكورك المنفتحة على الحدود  كما أسلفنا.

 ــــــــــــــــــ 

صباح كنجي

ـ  فصل عن الأنفال.. سينشر على حلقات.. مقتطف من تدوين سيرة ذاتية لـ توفيق الختاري.. أعدها الكاتب في سياق سلسلة لقاءات قبل 5 سنوات بعنوان.. ( توفيق الختاري في يومياته ومذكراته بين الكند والجبل ) ..