رواية توفيق الختاري عن الأنفال ..4 – صباح كنجي

الانتقال الى سهل نينوى والعبور الى سوريا

وصلنا ختارة .. دخلنا بحذر.. اندهش أقاربنا و أصدقاؤنا من بقائنا أحياء .. وحذرونا من عملاء السلطة ونشاطهم السري .. وسمعنا هناك خبراً حول مقتل مروان الختاري.. الذي كان يعمل سائقاً مع فرعون معاوية في سلك الجحوش.. والمعتقل في الفوج الثالث، حيث كان مقرراً إطلاق سراحه، وقد أوقف بالصدفة أثناء مروره من طريق اسيان ـ باعذرة.. حيث استوقفه كمين لنا قبل الأنفال..

كنت حينها في إيران للعلاج من مشاكل البروستات وكان جمال آطوش والنصير عيدو عبدي ـ أبو حلمي وعدد آخر من الأنصار يعرفونه وطلبوا من المسؤولين في الحزب والانصار إطلاق سراحه.. بحكم العلاقات الاجتماعية .. التي كانت تربطهم بعائلته وأبيه بالذات.. وكانوا ينتظرون عودتي للضغط على قيادة الفوج والحزب من أجل إطلاق سراحه، وانزعجوا من حجزه وتأملوا حضوري للدفاع عنه.

حينما عدت في أيار عام 1988 أعلموني بالموضوع .. كانوا مصرين على إعفائه و إخراجه.. استلمت من الفوج ملف اعترافاته.. التي ورد فيها انه قد دخل دورات أمنية لأعداده للعمل في صفوف الأجهزة القمعية .. كان مكلف بمهام خاصة للتجسس على الأحزاب والمعارضة، وكذلك على آمر سريته في سلك الجحوش فرعون معاوية.

بعد انتهاء الدورة الأخيرة في أمن أربيل، التي اشترك فيها خمسة عملاء بينهم مروان بداية سنة 1987 واستمرت لأربعين يوماً حسب اعترافه، تمت تصفية خمسة معتقلين منتسبين للأحزاب الكردية المعارضة للدكتاتورية، حيث طلب منهم الضابط المشرف بعد انتهاء التدريب، تصفية المعتقلين بإطلاق النار عليهم من مسدس، أي انه كان تدريباً عملياً تسبب في قتل معتقلين أبرياء وتحويل المتدربين في سلك الأمن إلى مجرمين.

عندما اطلعت على الملف طلبت من الحزب تقدير الموقف والعلاقة، خاصة وان أبيه غير معادي ومسالم، وكان قد أبدى عبر أصدقائنا استعداده سابقاً للمساعدة ونقل الأرزاق للأنصار والعوائل بسيارته لأكثر من مرة .. بالإضافة إلى انه ساعدنا في إنقاذ الطفلة بنت النصير أبو حلمي ونقلها إلى الموصل، وساهم في علاجها وتعرض لتهديد من قبل سفر إسماعيل كجل الذي داهم بيته في ختارة باحثاً عن الطفلة المريضة، لكنه كان قد أبعدها من شبح الاعتقال ونقلها في فترة لاحقة إلى المناطق المحررة في كردستان حيث كانت قد هجرت عائلتها.

حاولت بذل جهدي لمعالجة الموقف.. وتم الاتفاق على إطلاق سراحه بعد نقله إلى الفوج الثالث كأي متهم من الجحوش.. الذين كان يطلق سراحهم الحزب في تلك الأيام.. وفق شروط بسيطة الغرض منها عدم عودتهم لممارسة الإجرام .. وتم إرسال خبر لذويه للاستعداد لاستلامه.. أكثر من مرة لكن أبيه كان خائفاً ومتردداً وللأسف حدثت الأنفال.. وكان مروان ما زال في الفوج الثالث في لحظة وصول الجيش.. الى أطراف المقر وبحكم ملابسات الموقف المعقد تم التخلص منه بالخطأ.. في الوقت الذي أطلق سراح عدد آخر من المعتقلين لأسباب إنسانية.. وهذا كان من الحوادث المؤسفة في تلك المرحلة الملتبسة.

اذكر هذا للتاريخ ليس إلا .. وأعود لموضوع دخولنا إلى ختارة مع ملابسات هذا الحادث في أيام المحنة في الأنفال .. ومن ختارة اتصلنا بواسطة الصديق الشيوعي الشهم (ملحم معجون) بالرفيق خليل سنجاري وحملناه رسالة خاصة فيها كلمة سر للقاء في مكان منعزل.. كان الغرض إعلام خليل بوجودنا وحاجتنا له وكلفنا ملحم أيضا بجلب خبز وطعام مع ملابس وأحذية دون أن يعلم بها أحداً.. عاد بعد أن أوصل الرسالة وكان قد وضع بقية احتياجاتنا في الكند في المكان المتفق عليه.. استلمناها واستفدنا منها كثيراً، وهكذا في المرات اللاحقة حيث أبدى استعداده لتنفيذ ما يطلب منه ببطولة وصمت .. كان بطلا مجهولا من الأبطال الذين ساهموا في إنقاذنا من تلك المحنة.

أما خليل السنجاري فقد وصل في اليوم التالي إلى الموعد ليلا والتقينا به أنا وناظم وأبو داود.. وفي اللقاء تم وضع الخطوط الأولية للتحرك نحو سوريا .. عبره من محطة سنجار .. وأبدى استعداده الكامل لتحمل المسؤولية في استقبال الواصلين إليه وإيصالهم إلى سوريا بأمان، هكذا بدأنا نضع أولى الخطوات لإنقاذ المجموعة المحاصرة.. من خلال التنظيم المحلي.. وبالذات عبر خليل السنجاري الذي استقبل أول مجموعة مكونة من الدكتور حجي .. الذي كان قد عاش ودرس في سنجار و ماموستا كوران مع ناظم والسائق الفقيد شمو حجي من رفاق منظمة ختارة.. الذي أوصلهم إلى الموصل ومن هناك اخذوا تكسي نقلتهم إلى سنجار ووصلوا بأمان وعاد ناظم في اليوم التالي محملا بالكباب      واللحم المشوي حينما التقينا به في الكند.

خلال هذه المدة كان أبو سربست قد التقى بعائد سفو ابن شهيد للحزب، وكان شاباً جريئاً ومندفعاً للعمل بلا تردد .. له سيارة وضعها تحت تصرف المجموعة المحاصرة، وتعهد بإيصالهم إلى أي مكان، كان لا يبالي بالمخاطر طلبنا منه نقل أبو أمل وأبو ظاهر بوجود ناظم أيضا .. الذي اعترض على تكرار وجوده.. كي لا ينكشف من قبل نقاط التفتيش و السيطرات، لكننا ضغطنا عليه ورضخ لمرافقتهم لتكون آخر مرة على أمل أن يعود وحده.. بعد إيصالهم لنستفيد منه في المنطقة بحكم عمله مع منظمات الداخل. 

تحركنا من موقع ختارة إلى كند دوغات .. لكي تنطلق منها مجموعة أخرى وأعلن أبو أمل وأبو ظاهر استعدادهم للانطلاق.. وتم ضبط الموعد مع السائق من خلال أبو سربست.. وكان كفاح كنجي يهيئ لهم الوثائق المزورة وفق حاجتهم.. حيث عمل لأبي ظاهر هوية مهندس.. ولأبي أمل هوية طالب جامعة ولناظم وثيقة أخرى.. وكان كفاح يجيد ترتيب الوثائق رغم صعوبة الوضع وقد استفاد من بعض الأختام السابقة وكانت قدرته على تزوير الخط جيدة.. وقد ساعدنا رفاق المنظمات في الحصول على نماذج لهويات مختلفة وضعت تحت تصرفه.

انطلق عائد بأول مجموعة وقد كتب عنها ناظم تفاصيل صادفتهم في الطريق إلى سنجار حيث اعترضهم جندي في السيطرة الأخيرة واخذ هويتاهم وحجزها قائلا: عندما تعودون سأعطيها لكم.. يبدو أنه قد شك بأمرهم.. خاصة وإنها السيطرة الأخيرة.. ومن بعدها تأتي الحدود السورية.. لهذا بقي ناظم معهم..  وغادر هو الآخر عابراً إلى سوريا مع مجموعة دكتور حجي .. وحدث خلل في الاتفاق بيننا.. ولم يتمكن عائد من إعلامنا بسلامة وصولهم.. وقلقنا من عدم رجوع ناظم.. وتصورنا أنهم قد اعتقلوا.. أو تعرضوا لمكروه .. انعكس هذا علينا.. وبدأنا نتحسب للكثير من الاحتمالات.

لهذا عدنا إلى الجبل لا نعرف ماذا نقول لمن يستفسر عن المهمة وكيفية وصول الرفاق إلى المحطة .. شعرنا بالقلق الكبير الذي انتاب أبو سالار ..الذي طلب من أبو سربست الاتصال بعائد لمعرفة مصير المجموعة.. وشكل عدم رجوع ناظم مشكلة لنا في كيفية التعامل مع عائد ومدى إمكانية الوثوق بما يقوله.. لأنه كان غير معروفاً لدينا .. ونعتمد على تزكيته ومعرفته من قبل كه سر وأبو سربست.. بعد ثلاثة أو أربعة أيام تمكنا من إعادة الصلة بعائد.. الذي طمأننا على وصول الرفاق بسلام رغم الإشكال الذي حدث في السيطرة .. وأستعد لنقل الآخرين.. هنا ينبغي التأكيد أن أبو سالار قد توجس وأخذ يتحسب للمزيد من الأخطاء والاحتمالات السيئة .. التي قد تؤدي إلى كشف الطريق والمحطة، لهذا فكر بالخروج السريع غير أبهٍ ببقية الرفاق في كاره والدشت.. واعتبر خروجه أمراً مهماً لصالح المحاصرين.. الذين مازالوا يواجهون خطر الموت والاعتقال، وأثناء عودتنا أنا و أبو داود للجبل لتشخيص مجموعة أخرى للعبور عند الحديث معه عصر اليوم التالي قال لي:

ـ لدي حديث خاص معك .. كنا محشورين في الكهف ولا يستطيع أن يتحدث بحرية ويتحسب لبقية الرفاق.. انتظر حلول الظلام لنخرج وحدنا.. حيث صارحني بما يجول في داخله قائلا:

ـ رفيق توفيق أنت تدرك أن هناك مجموعة محاصرة في كاره.. ونحن أيضا محاصرون .. لكن السلطة وجهاز الأمن يتابعنا و يركز علينا نحن الاثنين .. أنا و أنت.. والأمر يتطلب وصولي إلى سوريا كي اتابع أوضاعكم بشكل جدي.. واساهم بفاعلية في إنقاذكم، ونوه إلى أن أبو جوزيف المتواجد في القامشلي لا يرغب.. أو يود.. أن ننجح في الخلاص من الطوق والحصار..

وأكد: على ضرورة أن يكون هو من بين المغادرين في الوجبة القادمة.. و أكون أنا في الوجبة الثانية اللاحقة وقال: سوف اطرح هذا على الرفاق في الاجتماع هذه الليلة.. وعليك أن تعاضدني وتقف مع ما اطرحه.. قلت له:

ـ لا يجوز أن تفكر بالخروج قبل الآخرين.. مع هذا العدد الكبير من الحاصرين.. الذين يواجهون الموت والمطلوب أن نبقى آخر المنسحبين.. حاولت إقناعه بعدم طرح هذه المسائل أمام الرفاق ، لكنه أصرّ على موقفه..

لست ادري من أين استقى معلوماته حول متابعة جهاز الأمن والمخابرات لنا نحن الاثنين بالذات!! ونحن مقطوعين عن أية صلة بالعالم الخارجي والناس، وكذلك منظماتنا الحزبية أيضا ، وهو بالذات كان معزولا ولا يملك أية صلة شخصية أو فردية إلا من خلالنا !!!!..

فقال: يبدو انك لا تستوعب ما اطرحه .. كنتُ في أعماقي رغم المأساة التي نمر بها.. اضحك من موقفه الضحل.. ومسعاه لمغادرة الساحة تاركاً خلفه المناضلين المحاصرين.. مع هذا كبت الكثير فيما كنت أود أن أقوله في نفسي .. وعدنا إلى الكهف غير متفقين .. كان الانزعاج قد بدى على ملامحه ودخلنا الكهف بصمت.. في الوقت الذي لاحقتنا نظرات بقية الرفاق من الكوادر لتستفسر بلغة العيون عمّا دار في نقاشنا، من المحتمل كانوا ينتظرون أن نقدم لهم حلولا سريعة لإنقاذهم من المحنة التي كانت تحيط بنا .. كان أبو داود واحداً منهم يلاحقني بنظراته المستفسرة.. فتجاهلته لبعض الوقت.. كي لا ينتبه الآخرون لما أقول ..

بعد مرور نصف ساعة.. تحدثتُ معه بالكردية .. قلت له منبها: .. (هفالي ما ادفيد برفت) .. وترْجَمُتها .. أن صاحبنا أبو سالار (ينوي الهروب وترك رفاقه). استغرب أبو داود وتفاجأ وهو بطبعه يكره المواقف الضعيفة.. فقال معقباً بصيغة النفي الساخرة: .. (نا).. أي( لا).. للتعبير عن استغرابه. فقلت له: سترى اليوم وتسمع ماذا سيطرح في الاجتماع المنوي عقده هذه الليلة.

بعد ساعات تحركنا نحو قمة جبل خورزان حيث موعد اللقاء مع الرفاق من بقية المجموعات بالقرب دارا شيت وحضر اللقاء .. أبو سالار / توفيق / أبو داود / أبو امجد / أبو سربست / أبو جواد .. أخذ أبو سالار يسهب  في الحديث عن الوضع السياسي والمعاناة والرفاق المحصورين في كاره و الدشت، كان يهيئ الجو لما ينوي طرحه.. أخذ يتحدث عن القامشلي وقيادة الحزب مبيناً أنهم لا يشعرون بمخاطر ما نحن فيه ولا يتحركون بفاعلية لإنقاذنا.. لذلك يتطلب الأمر أن يتوجه هو إلى هناك بأسرع وقت لترتيب أمر إخراج المحاصرين.. وطرح بشكل صريح رغبته في الخروج.. مع أول مجموعة.. في الموعد القادم.. و أن يلحق به توفيق في المجموعة اللاحقة.. على ان يتكفل أحد الكوادر بمهمة متابعة خروج الآخرين، ونوه إلى انه يرغب من خلال هذا الخروج.. الإسراع في مساعدة المحاصرين للخروج الآمن بأقصر وقت ممكن.

وحال انتهائه من حديثة .. استمع إلى مجموعة ردود رافضة لطرحه .. و مسببات ومسوغات خروجه.. تعبر بانفعال وغضب مستوعبة ما يجول في أعماقه ودواخله وافتضاح رغبته في الخلاص قبل الآخرين.. وهي سمة لا تعكس إلا حالة هلع وخوف عميقة نمت في أعماقه .. يحاول كبتها كإنسان منخور.. لكنها تخرج بالرغم من محاولاته لإخفائها.. في طرح ملتوي ومخادع.. كما حدث في إسهابه لتعليلاته التي سردها على الرفاق..  وواجهت ردوداً وتعليقات.. أتذكر منها رغم هذا البعد الزمني .. أبو امجد الذي عقب مؤكداً:

ـ لست مستعداً لتحمل أية مسؤولية في هذا الظرف المعقد فقط أتحمل مسؤولية نفسي .. أعقبه أبو سربست قائلا:

ـ لا أتحمل هذه المسؤولية ولست مقتنعاً بما تطرحه من رغبة ومبررات للخروج السريع قبل الآخرين.

ـ وبخصوص أبو جواد فلا أتذكر موقفه ولا اذكر ما قاله ..  لكني أعقبته في إبداء رأيي وأوضحت لهم بأني نصحته بعدم طرح هذا الموضوع.. واعتبرته غير صحيحاً ..وسوف يلاقي رفض الرفاق، لكن أبو سالار لم يستجيب لرأيّ وأصر على طرحه في هذا الاجتماع عليكم .

ـ أما أبو داود فقد حسم الموقف كعادته.. بحديث صريح لا يعرف المجاملة والدبلوماسية .. قال في ردٍ حازم وحاسم محركاً أصبعه  : من العار أن يطلب المسؤول الأول المغادرة قبل الآخرين.. هذا لم يحدث ولم اسمعه من قبل .. أن يطرح المسؤول الأول نفسه قبل الآخرين .. وبهذا الرد القاسي من أبي داود حُسم النقاش بالموضوع..

 لكن أبو سالار المنزعج للغاية أوضح: .. إنكم لا تستوعبون ما اطرحه ومضطراً قال:.. سأبقى وانتم تتحملون المسؤولية، لكن ملامحه كانت توحي بعدم قناعته.. وانتهى الاجتماع دون أن يحقق ما كان يجول في ذهنه و ينوي الاقدام عليه ويخطط له بأخذ موافقتهم لمغادرته دائرة الحصار قبل الآخرين .

كان هذا جزءً مما مرّ بنا في تلك الأيام، وما أعقبها كان تجسيداً لما كان يفكر به أبو سالار، حيث تمكن من المناورة على رفاق آخرين.. بعد تداعيات الاجتماع المذكور، إذ تفاجئنا عند عودتنا من الكند بعد أيام بعد مغادرة مجموعة من أنصار القوش.. تكفلوا بالاعتماد على أنفسهم للوصول إلى محطة سنجار وطلبوا منا ( أنا وأبو داود ) التنسيق وإيصالهم إلى الشارع العام فقط .. حيث لم نجد أبو سالار الذي كان قد ترك الموقع.. ونزل إلى الكند دون علمنا وإبلاغنا ..يرافقه كه سر وعماد القوشي مع النصيرة رجاء.. بعد أن ضبط موعداً مع عائد من خلال كه سر.. الذي أجبره على مرافقته ( حسب قول كه سر) إلى سنجار مع عائد .

هكذا اثبت لنا أبو سالار انه كان يفكر بإنقاذ نفسه فقط ، لأنه غادر فوراً إلى الشام للقاء زوجته وأطفاله ليحيي حفل عيد ميلاد ابنه رامز أو بنته رنا.. بطريقة مثيرة للتساؤل.. عكست بذخاً وكرماً على المحتفلين.. كأي برجوازي.. دون أن يبقى في القامشلي يوماً واحداً.. ليتابع وضعنا وما قاله في الاجتماع .

كان هذا تصرفاً غير لائق من ” قائد ” شيوعي ترك رفاقه يواجهون خطراً جدياً.. مقارنة بما كنا نعرفه عن قادة آخرين.. ضحوا بأرواحهم من اجل رفاقهم في لحظات ومواقف مشابهة.. قد تكون اخطر وأفظع.. كان خروج أبو سالار بهذه الطريقة الملتوية.. أشبه بالهروب من وضع ملتبس.. لا يليق بقائد.. ولا حتى بجندي.. في ساحة المعركة .

علمنا فيما بعد من الذين رافقوه أثناء نزوله من جبل خورزان وقبل الوصول إلى شارع بيبان .. انه تمدد على الأرض للراحة.. والتفت إلى الجبل معبراً عن تأففه قائلاً :.. هم زين تخلصنا من هذا الجبل الحقير .. وقد استفز بهذا القول مشاعر النصير ساهر وزي – عماد الألقوشي .. الذي كان شاباً يافعاً في مقتبل العمر فرد عليه باستنكاف .. من يقول انتهينا من الجبل؟!.. وسوف لن نكون بحاجة إليه .. ألاّ يوجد احتمال أن نعود ونرجع؟.. لكن أبو سالار واصل حديثه بنفس المعنى قائلا:  لو الدنيا تنقلب لن ارجع للجبل ثانية..

في الطريق أثناء عبورهم إلى سنجار بعد تجاوزهم للسيطرة.. تعرضت سيارة عائد إلى عطل فني في الطريق الترابي.. مما اضطره للتوقف. ووصف من كان معه لحظتها حالة أبو سالار قائلا : 

ـ كل الألوان قد بانت وظهرت على محياه .. كان الرعب قد دب في نفسه .. واعتقد أن العطب سيكون معرقلا لمسيرته.. وقد يشهد نهايته في هذا المكان.. لم يستطيع السيطرة على نفسه.. أخذ يلح على كه سر بالرغم من أنه ليس سائقاً ولا يفهم بميكانيكية السيارات.. للتدخل لمعالجة وتصليح العطب.. لكن كه سر رده:

ـ أنا لا افهم شيئاً في عطب السيارات .. علينا أن نصبر.. وننتظر جهود السائق.. عائد هو أدرى منا بالمشكلة، وفعلا بعد دقائق تمكن من إعادة تشغيلها ومواصلة السير .. قبل الوصول إلى المحطة بعد أن أعلمته بوصولنا ضرب على كتفي وقال:

ـ كم نعطي للسائق؟.. نظرت إليه بوجل وغضب وتذكرت لحظتها نظرة لينين للبرجوازية ووصفه لها بالعاهرة وقلت له:..

ـ عائد يؤدي هذه المهمة ويخاطر بحياته من أجل إنقاذنا.. وهو لا يفكر بالنقود.. و من اجلنا يتحمل هذه المخاطر.. إذا كنت تريد أن تقدم له مبلغا.. فقدم له شيء محرز.. وإلا فأصمت.. كان موقفه هذا قد حيرني ولا يليق بتصرف قائد حزبي.. و جعلني لا احترمه حتى في بيته لاحقاً.. أثناء زيارتي له في دمشق .. حيث سقط من عيني.. ولم يكن في مقدوري تقديم الاحترام له..

للأسف والأسف الشديد يسترسل توفيق .. ترافق مع خروجه فقداننا لما كان بحوزتنا من مبالغ كانت عوناً لنا في تجاوز محنتنا.. حيث علمنا مع مغادرته بفقدان واختفاء المبلغ.. الذي كان معه.. بعد أن وزعه.. دون علمنا.. على عدد من الرفاق.. في رزم لا يعلمون بمحتواها، وعند وصولهم القامشلي اكتشفوا إن الدولارات فقدت واختفت.. وقد كتب الراحل أبو جوزيف تفاصيل هذه المسألة في أوراقه وأكد اختفاء مبلغ 52 ألف دولار ومبلغ آخر بالدينار العراقي ..

ـــــــــــــــــــــــ 

صباح كنجي

ـ  فصل عن الأنفال.. سينشر على حلقات.. مقتطف من تدوين سيرة ذاتية لـ توفيق الختاري.. أعدها الكاتب في سياق سلسلة لقاءات قبل 5 سنوات بعنوان.. ( توفيق الختاري في يومياته ومذكراته بين الكند والجبل ) ..

ـ  منذ نشر اول الحلقات تتالت تعليقات واتصالات الانصار والرفاق المتابعة لهذه الشهادة التفصيلية عن الأنفال وبلغ عدد قراء كل جزء ما يربو على  6000 قارئ وقارئة .. لهم كل التقدير والاعتزاز وهو ينتظرون بقية التفاصيل في الحلقات المقبلة التي ستصل  لسبعة او ثمانية حلقات ..

ـ كما اتصل عدد آخر من الاصدقاء والانصار لتصحيح بعض المعلومات وتدقيق التواريخ والأسماء ومعالجة النواقص واغناء محتوى التوثيق من بينهم العزيز سالم شقيق او ظافر .. لهم ولغيرهم التقدير والاعتزاز الرفاقي.. وليسامحنا العزيز سالم.. لأننا استخدمنا الصفة التي كان يكنى بها في الانصار تحبباً للدلالة والتفريق.. وليس استصغارا او استهانة ..

ـ واتصل ايضا الصديق.. فاخر محمود سيدو.. من خلال التلفون بصباح كنجي .. واعترض على استخدام تعبير الجحوش .. وأكد ان الفقيد والده.. كان من المتعاونين مع الانصار الشيوعيين والحزب الديمقراطي الكردستاني.. وقدم المساعدات لهم بشكل سري آنذاك.. بالرغم من وجوده على رأس تشكيل تابع للنظام .. وانه كان يغض النظر عن وجود الانصار والمفارز المتواجدة في منطقة سهل نينوى في اكثر من مرة ..

واستكمالا للمعلومات لتوثيق ما جرى في الانفال.. ادعو المتواجدين في صفوف الجيش وبقية الصنوف المرافقة له.. بما فيهم من كانوا في تشكيلات المفارز الخاصة والسرايا والافواج الخفيفة .. للإدلاء بمعلوماتهم ( حتى لو تطلب من خلال اسماء وهمية ) عن جرائم الانفال لاستكمال الصورة  والكشف عن مصير المغيبين في القبور الجماعية..