ليس بعيداً عن مايجري من احتجاجات شعبية في العراق والتشابه في الكثير من المطالب وهي نتيجة للمحاصصة الفجة التي اغرقت البلاد بالمأسي والاوجاع و تدهور الأوضاع عموما و التي أضعفت أداء مؤسسات الدولة واغدقت عليها بالفساد والشلل النصفي والكلي في الكثير من الاحيان ، كونها ابتعدت عن المعايير الصحيحة في إسناد الوظائف المهمة بالدولة إلى مستحقيها والتي لا يبدو أن العراق قد وصل بعد إلى مرحلة الخروج من جلبابها و طبعت نظامه السياسي عقب الغزو الأميركي عام 2003، على الرغم من أن تلك المحاصصة أدخلت العراق في نفقٍ لا يقود إلا إلى مجهول، فلقد أفقرت أبناء أغنى بلاد الأرض والتي حكمت البلاد والعباد ولتاتي بعدها تظاهرات اخرى في لبنان مشابهة لتشعل الشارع هذه الايام بعد ان قسموا (سنة، شيعة، مسيحيين ،علويون ، دروز ) وكل منهم اخذ حصته ، ” في حين أن الاحتجاجات اللبنانية لم تشهد وقوع ضحايا لحد الآن على الاقل، سوى ضحية واحدة هو الشهيد حسين العطار من بلدة شعث البقاعية، ومن سخرية القدر ان أمّه عراقية و انطلاق التظاهرات في لبنان يؤشر على وجود عامل مشترك مع احتجاجات وتظاهرات العراق والتي كسرت الحواجز ورفعت الثقة من السياسيين “، وهكذا منذ الاربعينات الى الان لم يستطع لبنان التخلص من هذه العملية السياسية، و هناك ترابطا بين التظاهرات فالوضع في البلدين متشابه، وهو قائم على المحاصصة والفساد وزيادة الضرائب العشوائية خلقت طبقة سياسية غنية متخومة ومقابل طبقة فقيرة معدومة.
في ظل ارتفاع الأصوات المتوازنة التي كانت ولازالت تطالب بتنحية منطق المحاصصة وانهائها في تسيير امور البلد لانها “بالاساس ليست عملية سياسية مقرونة ببناء دولة واحزاب وبناء سياسي محكم ومنتج . وأن التوافق على هذا الأساس لا يؤسس لتنمية أو ازدهار في أي بلد.
ان العوامل المشتركة بين العراقيين واللبنانيين كثيرة، أهمها الفساد الذي ينخر الدولتين، وأمراء الطوائف والاستغلال الديني في العملية السياسية والمحاصصة، ذلك أن النظام السياسي الذي يبنى على أساس توافقي ووفق هذه النظم تنتج وضعًا سياسيًا ضعيفًا غير قادر على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية وتستمر الصراعات بين التيارات السياسية المختلفة في ظل وضع سياسي تلعب فيه العديد من الأحزاب دور الغطاء عليه والصراع على النفوذ والمال وهو سبب كل الأزمات التي تضرب العراق الان من شماله إلى جنوبه، بعد مرور أكثر من ستة عشرة سنة من «التغيير»، واختفاء نحو 450 مليار دولار من الأموال العامة، أي أربعة أضعاف ميزانية الدولة، وأكثر من ضعف الناتج المحلي الإجمالي للعراق وأن تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية سببه النظام السياسي وأخطاؤه الكارثية والنزاعات على الحصص التي يدفع ثمنها الشعب العراقي الذي أوقعه قادة النظام السياسي في مستنقع المحاصصة والطائفية والنظرة الضيقة الأفق في معالجة المشكلات و يخطىء من يظن أنه بعيد عن المحاسبة.
اليوم لاجديد يذكر في معالجة اوضاع العراق ومعاناته في ظل حكومة عبد المهدي وفي سباق مع الزمن في إطلاق حزم باتت تعرف بـ”الحزم الإصلاحية”، وتنحصر غالبيتها بقرارات تتعلق بالمتظاهرين، مثل الوظائف والقروض الميسرة وتمويل المشاريع المتوسطة والصغيرة، وتوزيع أراضٍ سكنية، وتأهيل مصانع متوقفة، وإطلاق منح مالية للعاطلين عن العمل، ومراجعة القضاء لقضايا فساد في الدولة وفي حين هناك من يحاول للتملص من المسؤولية التاريخية تنطلق دعاوى التمويه تحت عباءة المفهوم الجديد للمعارضة التي ابتدعها على اساس ” المعارضة التقويمية والدستورية “وتخفي ورائها ممارسة الضغط لاعادة توزيع غنائم السلطة، فعادل عبد المهدي لم يأتي من كوكب آخر بل أتت به القوى غير الراضية عنه اليوم والتي تروم معارضة حكومته، وجميع القوى التي ستعارضه لم تكن بعيدا عن الفساد وملفاته الشائكة او تقاسم النفوذ من اصغر موظف الى اعلى موظف وهو الوزير وصعودا الى قمة هرم جميع السلطات
ان ماجرى في العراق “ليست سياسة انما مكونات اجتماعية تختلف عن السياسة ، ومحاولة بعض القوى السياسية في داخل البلد التبرير وأن تبقى تدور في الحلقة المفرغة نفسها التي رُسمت له، وأن لا تخرج منها، لأن في ذلك مصلحة لمن شكّل وساهم في تكوين هذه العملية السياسية، وتحديدا القوى الدولية والإقليمية اللاعبة بالبيادق وتتحمل المسؤولية لما وصل له الحال وهم كلهم شركاء ومحاولات استهدافات وتسقيط على قدم وساق خارجياً وداخلياً البعض للاخر، لن تكون المحاولة الأولى ولا الاخيرة ، فالكل مستهدف ،ومع ذلك ان الحسابات السياسية والجغرافية والأمنية والأخلاقية التي تؤمن بها وتراها الاحزاب أكبر من كلّ الانتقادات التي وجهت إليهم أو الحروب الاعلامية على تعدد اشكالها التي تستهدف بعضهم البعض ، والشارع استشعرحجم الخطورة التي ستفرزها الأيام المقبلة على الشارع ،في حال لم تكتمل الاجابة على المطالب والتسويف اذا ما ارادت القوى التي تشارك في الحكومات الالتجاء اليها. في العراق شعبٍ ناقم على ساسته وعمليتهم السياسية العرجاء التي انتجت كل هذه الازمات ، نقمة لم تعد تقتصر على مكونٍ دون آخر، كما أن هذه النقمة بدأت تتجاوز الشخوص السياسية إلى الاحزاب المسيطرة وحتى في بعض الاحيان المرجعية الكريمة على الرغم مما لها من قيم اعتبارية لدى الجزء الاكبر من العراقيين من هنا، ان الامور ليست بسهلةً، وكان لا بد من تغييرٍ يمكن أن يمنح العملية السياسية في العراق عمراً أطول، غير أن واقع الحال ما زال يفيد بأن الأحزاب السياسية التي شكلت العملية السياسية عقب 2003 ترفض أن تغادر مربعها الطائفي الأول، وما زالت مصرّة ومتمسّكة بالتقسيم الطائفي للمسؤوليات والمناصب والوزارات، حتى وإن أظهرت دعمها في اوائل تشكيل الحكومة الحالية ، والدعوات في ان تكون حكومة مهنية تتجاوز، مربع الطائفية . وإذا كان لبنان نموذجاً، فإن على الساسة العراقيين تعلُّم دروسه، وما يزيد من صعوبة هذه المهمة بطبيعة الحال هو حال الانقسام في هذه النخبة، الذي يزداد بدوره أي إن قدرة المحاصصة على الحياة قد تكون لفترة معينة اذاً ستبقى المخاوف المتبادلة والتوترات في محاولات الدفاع عن المكاسب والمصالح وتقاسم الاموال المنهوبة عنواناً للتفرقة والتنافس وسيبقى الوطن والدولة عرضة للانهيار والضياع والمعاناة تعم أرضه ولا تبقي مكانا للفرح في أي زاوية من زواياه..
عبد الخالق الفلاح – باحث واعلامي