في أمسية خريفية هادئة ولطيفة، وبينما أسير في كورنيش العشّار سمعت السيّاب وهو يهمس قائلا:
“أغفر لهم أيها القائد، فإنهم لا يعلمون ما يفعلون. أغفر لهم اقتلاعهم تمثالك الشامخ، فذكراك ستبقى حيّة في قلوب جنودك العراقيين المخلصين.
نعم، لا يهم إن أزاحوا تمثالا لك من البصرة فلسنا بحاجة لجماد حتى نتذكرك؛ لأنك حيّ دائما في ضمائرنا، وفي قلوب الآلاف من جنودك البواسل. كنت تدخل القلوب بدون استئذان بقامتك الفارعة، وشواربك الجميلة التي تستحق التبجيل، ولا شك إن كلّ شعرة منها الآن قد اتحدت مع باقة شقائق، واستحالت كحلا في أجنحة الفراشات الزاهية، وهي ترفرف وتنثره على القبور حواليك مثلما كنت توزع حبك على مرؤوسيك في زمن الحبّ. ومثلما كنت محل تقدير من رؤسائك رغما عنهم حين كان التقدير نادرا. نعم، كنت تدخل القلوب في زمن الحرب ـ زمانك ـ بابتسامتك بضحكتك بكلامك الموزون بأوامرك الشبيهة بمشرط الجرّاح في أزالته للجزء الفاسد من الجسد. هكذا كانت أوامرك عند الإغارة على العدو، أو صدّ هجماته، فكلنا نتذكر صولاتك وجولاتك من (كردمند) إلى شرق البصرة، وكنت تدخل القلوب برجولتك وشجاعتك الفائقة وشهامتك النابعة من شهامة أجدادك العظام. كنت في قلوب الأبطال وهم مشروع استشهاد دائم من أجلك قبل الوطن؛ لأنك تساوي الوطن في نظرهم. كنت لهم الوطن والإنسان. تستأنس بك القلوب وأبت أن تفارقك فبايعتك في ساحات الوغى، فكنت باشا الباشا دون منازع.
أصبحت البطل المفضّل لقصصنا عن حرب الثمان سنوات في ليالي شتاءاتنا الطويلة. نتناقل مآثرك. نردد أقوالك. نؤثر أيامك ونترحم عليك. كنا نظن أن استشهادك. فقدانك.. خسارتك.. أكبر من أمجاد انتصاراتك، ولكنك أبيت ألا أن تتوج ذلك النصر العظيم والحبّ العظيم بالشهادة والخلود. كنت تعي معناها مبكرا وبحثت عنها وكأنها عشبة الخلود كما كلكامش، ووجدتها وهو لا يزال يبحث عنها.
لا تزال نجومك ونسورك ونياشينك وأنواطك وأوسمتك تفوح منها رائحة قبلاتنا وهي ممتزجة برائحتك الطيبة فكيف سننساك بمجرد زوال تمثال لك يا أبا ناصر”.
*******