حكايات من شنكال- (فقير سينو، صديق الله)- مراد سليمان علو

 

ملأ قرى حوض جبل (شنكال) بسمعة طيبة وسيرة حَسنة في زمانه، فحافظ أيزيديوا المنطقة على طريقته الفريدة في الدروشة بعدما ترك وراءه مبسم الخلود.

لم ينشد الشهرة أبدا، ولو أرادها بحق لركعت عند قدميه، ولكنه كان شجاعا وجريء الفؤاد يسأل عمّا ينفعه في الآخرة حتى آخر أيامه؛ ليفيد الآخرين بما يعلم في دنبتهم وآخرتهم، ففي رأيه ما الدنيا إلا بوّابة تؤدي إلى الآخرة.

كان مطرق الرأس دوما يفكر بما آل إليه حال الإنسان. ذلك العاقل الوحيد الذي وافق على حمل (الأمانة) ـ الموت ـ ذلك القصير العمر. الذي تقدم واثقا، وهو الضعيف الذي لا يقدر على كبح جماح شهواته وغرائزه، ورفض الأمر قبله حتى الحجر والشجر، فهل نجح الإنسان في الاختبار؟

إن نجح فهو الأمين وقد فاز فوزا عظيما! ولكنه بالتأكيد خسر في تجارته بعد أن أقبل عليها بشغف إلا القليل منهم.

وهكذا كان حال الأولين فماذا سيكون مصيرنا الآن يا ترى؟

وكان هذا السؤال بمثابة المفتاح لأسئلة خالدة طرحها على نفسه فحزن بها ولها.

باحث عن الحقيقة أمضى أجمل سنوات شبابه وهو يبحث، وربما وجدها في خلواته، وفي تأملاته. أيام صومه، أو أوقات عباداته. في أحلامه. ويبقى له إنه كان مجتهدا رغم ما يعانيه من صراع داخلي رهيب ممزوج بلذة ومتعة لا توصف في استمرار البحث دون أن يخبر الناس إذا كان قد وجد ضالته فجزء من فلسفته كانت كتم هذا السّر العظيم؛ ليظن الآخرين انه ما زال يبحث.

فقير (سينو) من عشيرة فقراء آل (زرو) توفي في منتصف التسعينات وهو:

(كوجك)، ولكن من طراز خاص ولم يتخذها يوما كمهنة له ليعتاش منها.

ناسك، ويتمنى كلّ النساك سلوك دربه المستقيم.

مجاهد نفس من طينة فريدة، وقد نال بها أرفع المناصب، وهي في نظره أن يبقى مخفيا بين عامة الناس كواحد منهم، وألا يصبح بثرة على ألسنتهم.

(فقير) بحق و (الخرقة) التي على جثمانه بعد موته تشهد له بذلك؛ لأنه لم يرتديها وهو حيّ يرزق؛ لأسباب قلمّا يتوصل إليها عقل إنسان عادي وبخاصة لو كان من طبقة (الفقراء) الذين من حقهم الطبيعي أن يلبسوا (الخرقة) في حياتهم الدنيا ويكون كفنهم عند الموت، ولكن هذا العالم الجليل خالف الجميع، وهذا أمر عجيب يدعو للتأمل حقا.

فقير الحال، ولم يطلب الغنى يوما.

غني النفس، ولم يخشى الفقر أبدا.

حكيم، دائم العطاء، يحفظ الحِكم والأمثال والأقوال؛ ليستعين بها في احاديثه القليلة مع الآخرين.

متعبّد، وقد صام أربعون مربعانية متتالية في حرّ الصيف وقرّ الشتاء.

قوّال، ولم يجاريه أحد من القوالين أبدا.

صبور، وكان يعلم إن الصبر مركب لا يغرق في البحور الداخلية المتلاطمة للنفس البشرية وكان صادقا في ذلك كعادته، فجد لي موضعا لا يكون الصبر فيه جميلا.

كان صادقا مع نفسه ومع الآخرين فأصبحت نفسه في ربيع دائم ومن أراد أن يعيش في ربيع دائم عليه بالصدق دائما.

رجل لا يمكن مقارنته إلا مع القديسين والكواجك أمثال الراحلين البابا جاويش البير (كمال) وسادن لالش الفقير (حجي). هؤلاء وأمثالهم كانوا خير خلف لخير سلف مثل (الكوجك) الخالد (برهيم)، ونتمنى أن يكونوا بدورهم خير سلف لآخرين.

وفقير (سينو) كان شجاعا بمواقفه التي لم تتغير قيد أنملة طوال حياته، فلا فرق عنده بين غني وفقير، أو شيخ ومريد، أو مختار وعطار. لم يقهقه يوما لفرح ولم يبكي يوما لحزن ولكنه كان دائم الابتسام. أكتشف سر الدخول إلى قلوب الناس بابتسامته فما أن يستقبلك حتى يبتسم ويدعوك لسماع ما يجيده من أقوال الشيخ (عدي)؛ لتكون زوادتك للآخرة فتتمنى أن تبقى جالسا في حضرته للأبد.

فماذا يمكن أن نمنح لإنسان كهذا ولأيزيدي مخلص للأيزيدياتي سوى أن نعنون نصوصنا ورواياتنا وكتبنا باسمه ليخلد.

رحمك ربك يا فقير (سينو) ولك كلّ الألقاب يا سيدي، بل لك اللقب الأقرب لقلبك (بابا درويش الباحث أبدا عن صداقة الله).