(الشيخ خدر رئيس عشيرة القيران الأخير)- مراد سليمان علو

ونسمّيه (شيخدّرى) لعدم وجود (ال) التعريف في اللغة الكردية، وكذلك لسهولة النطق، وسمّيت قرية (سيباى ـ مجمّع الجزيرة) باسمه (سيباية شيخ خدر)، و(سيبايّه) تعني بئر ارتوازي، وتسمّى أيضا (سيبا شيخدرى) باللهجة الكرمانجية الدارجة وهي أخفّ على اللسان، ويرجع سبب تسمية المجمّع باسمه؛ لوجود قرية (سيباى) القديمة فيها والتي يسكنها البعض من أبناء الشيخ خدر وأحفاده وأبناء أحفاده.

قدم والد الشيخ (خدر)، الشيخ (عطو الأول) إلى حوض جبل (شنكال) بسبب خلاف عشائري، ثم استقر في قرية (السكينية) موطن عشيرة (القيران) الكبيرة والمشهورة، والشيخ (عطو) من سلالة الشيخ (فخر الدين) وهم الشيوخ الذين يكون منهم الرئيس الروحي للأيزيدية الـ (بابا شيخ) عادة.

ولد شيخ (خدر) في عام 1909 وأصبح وحيد والديه بعد أن قتل شقيقه في حادث أطلاق نار غير مقصود، ثم أصبح محط اهتمام العشيرة ليكون جزء منها بل ليقودها لاحقا ويصبح رئيسها الأوحد؛ لصفات قيادية بارزة تواجدت في شخصيته وكان آخر رئيس عشيرة للقيرانيين، فبعد رحيله دبّ الانشقاق والتفرقة وانشطرت العشيرة إلى أفخاذ عدّة يقود كلّ منها مختار.

بعد أن تجمّع حوله رجال عشيرة (القيران) وعلا نجمه قيل غار من نجاحه بعض شيوخ عشائر (شنكال) فدبروا له مكيدة عند الإنكليز وبين ليلة وضحاها أصبح مطاردا من قبلهم، أحدهم تبرعا خبثا وحسدا بتزويد الحكومة بقائمة من الأكاذيب، وللتنكيل بالعشيرة التي آوته وأكرمته وباتت تتبعه، تم قصف (السكينية) بطائرة انكليزية في حادثة مشهورة ومعروفة، وبعد أن أتهم من قبل الإنكليز تردّدت العشائر المتمثلة برؤسائها في أن تؤويه خوفا على سلامة رجالها من بطش الحكومة فذهب إلى عرب الجزيرة ليقضي هناك أوقاتا عصيبة بعيدا عن الأهل.

وبما إنه كان صيادا ماهر، والصيد هوايته المفضلة في البراري فقد رأى يوما قافلة قادمة من الشام عندما كان خارجا للصيد، وبطريقة ما استولى عليها وكانت محمّلة بالكثير من الزبيب والتمر والدقيق ـ السلب والنهب وسرقة الأغنياء  والاستيلاء على القوافل كانت من علامات الشجاعة والرجولة آنذاك ـ وبعد أن وثق بحدسه الذي لم يخذله يوما رجع بالغنيمة إلى (السكينية) ورجع لأحضان عشيرته التي نبذته لأسباب خارجة عن أرادتها، فالتفّ حوله الجائعون ثانية وهو كان حال أغلب الأيزيدية، وبمرور الأيام علمت الحكومة بقدومه، وفي غفلة من الجميع القي القبض عليه هذه المرة وأحتجز، ثم ذهب به إلى مدينة الموصل مخفورا، ولكنه تمكن من الفرار ثانية على ظهر حصانه المشهور  المسمّى (حيزا) عندما جلبها له حينئذ (علي شرو) وهو أحد أتباعه المخلصين وهذه المرّة أجتاز الجزيرة وعبر إلى الأراضي السورية.

وبذكر حصان الشيخ (خدر) هناك نبتة برّية تسمى (السوسيج (باللهجة العربية الدارجة في أطراف شنكال وبالكرمانجية نسمّيها (بيفوك (PEVOK يؤكل رأسها الذي ينبت في الأرض نيئا أو مطبوخا بعد أن ينزع القشر الشبكي الأحمر وهو أي الرأس أكبر من حبّة الحمص عادة ولونه أبيض أما ساق النبتة فيتفرع منه عدّة أوراق طويلة خضراء في وسطها خط أبيض ومغلفة بقشر رقيق. تسحب الأوراق بهدوء وروية من قبل الفتيان الذين يلتقطون النبتة أثناء رعيهم للخراف في فصل الربيع ويرددون ويتساءلون أثناء ذلك بصوت مسموع: “حصان شيخ خدر ذكر أم أنثى”؟ فان كان عدد الأوراق المنسولة من قشرة النبتة عددا فرديا يصرخون قائلين: “ذكر.. أنه ذكر.. حصان شيخ خدرى ذكر”، والعكس بالعكس.

كان الشيخ (خدر) حكيما وكريما وشجاعا فقد نشب مرّة خلاف بسيط بينه وبين البعض من رجال عشيرة (القيران) فابتكر طريقة طريفة ليتصالح معهم حيث دعاهم لوليمة من المفترض إنها لرجالات الإنكليز والحكومة في قضاء شنكال، وبعد أن اجتمع القوم وحان وقت الغداء ـ وطبعا لم يحضر أحد من الإنكليز أو من الحكومة المحلية ـ خاطب ضيوفه قائلا: “فلنأكل نحن، فمن يدري ربما الحكومة مشغولة بأمر أهم من الطعام وسيأتون في يوم آخر”، ففهم الناس أنه من طيبة قلبه وحكمته أفتعل ذلك ليصالحهم.

تزوج شيخ (خدر) من أربع نساء وأصبح له من زيجاته ثمانية أولاد (لا يزال أحدهم وهو الشيخ (الياس) على قيد الحياة ويسكن في أوربا حاليا مع أبنائه وأحفاده، وكذلك له ست بنات وعدد من الأحفاد وأبناء أحفاد بل أحفاد للأحفاد وهم الآن منتشرون في العراق وأوربا.

أورث أبنائه واحفاده صفاته النبيلة ولو عاشرت بعض أحفاده اليوم لا غرابة إن وجدت فيهم هذه الصفات الحميدة. وأشهر أولاده كان الشيخ (عطو الثاني) فقد كان رجلا مباركا وتقيا في حياته يعرف العديد من الأدعية التي كان يعالج بها المرضى وكان يدعّي معرفته بحيواته السابقة من خلال تناسخ روحه (كراس كورين) ويزار قبره الآن للتبرك في مقبرة (كرى كور) في (السكينية)، والشيخ (عطو) كان كريما جدا كما أبوه ومعروف عنه إنه كان يقدم لكل ضيف رأس ذبيحة على صينية خاصة وفي يوم ما وعندما كان في (سوريا) بلغ عدد ضيوفه حوالي الأربعين ضيف فما كان منه إلا أن ذبح لكل ضيف ذبيحة إكراما له.

وقد عرفتُ شخصيا معظم آل شيخ (خدر) صغارا وكبارا والبعض منهم أصدقاء مخلصون لي نتواصل معا في مختلف المناسبات الدينية والاجتماعية مثل: الشيخ (مراد عطو خدر) والشيخ (نواف جلال اسماعيل خدر) والشيخ (حسين شمو مراد خدر).

وكان الشيخ (خيري مراد الشيخ خدر) صديقي الأقرب وكنت أزوره في بيته وديوانه، وآخر مرّة رأيته فيها عندما قضيت معه اسبوعنا الأول في الجبل بعد فرمان (داعش) وقد ذكرت تفاصيل هذا الأسبوع والعلاقة الفريدة بيننا في كتابي الموسوم (وجها لوجه مع داعش) وهو سرد خاص وشخصي عن الفرمان، وأتمنى أن يجد الكتاب طريقه إلى النشر ليقرأه من يرغب في الاطلاع على تفاصيل فريدة من وجهة نظر شخصية.

صديقي وشيخي المحارب الأسطورة استشهد في معارك التصدي ل (داعش) في 22/10/2014 بعد أن سطر بطولات قلت نظيرها ودفن في لالش تقديرا لبطولاته وجعل من تاريخ استشهاده مناسبة ليوم الشهيد الأيزيدي.

مضى أكثر من قرن على ولادة الشيخ (خدر)، ومنذ استشهاد حفيده (خيري) فقدت الأمل في أن تكون للعشيرة شيخ جديد، ولكنني أضعه في أحلامي لأهزم به آلامي، وليضع يده على رأس اليتامى والأرامل في عشيرتي المنكوبة التي تفرقت في البلدان.

مرّة كنت في زيارة للعمّ (درويش) أطال الرّب في عمره، وهو أفضل من يمكن أن يصنع ويخيط معطفا أو صديرية (يلك) من فرو الحملان فالرجل (كركجي) ماهر، وكان عادة ينقل لي حكايات وحوادث أيام زمان فحدثني يومها قائلا: في فترة الشباب زرنا انا وشقيقي  ـ شقيقه هو والد صديقي الشهيد قاسو كلي ـ الشيخ خدر في ديوانه وكان الوقت لا يزال صباحا فقال: سأصنع لكما شايا يا أولادي، ولم نكن نعرف ما هو طعم الشاي، سمعنا عن الشاي ولم نتناوله بعد، رأيته يضع مقلاة فيها ماء على النار وبعد أن غلي الماء وضع فيه شيء من الشاي وأخذ يقلبه والشاي يفور، وأخذ ذلك وقتا أطول من الذي نمضيه هذه الأيام في تخديره، ثم قدم لنا الشاي بنفسه وشربناه مرّا فلم يكن هناك شيء اسمه سكر.

وأنا شخصيا عرفت طعم الشاي المرّ مؤخرا عندما منعني الطبيب من تناول السكر فهو لا يختلف كثيرا عن القهوة في احتوائه للكافيين ولكن له طعم مختلف.

من أراد أن يكون شيخ عشيرة حقيقي ورجلا يهابه العدو ويحترمه الصديق فليكن كما كان الشيخ (خدر) رحمه الله مقداما يتقدم عشيرته في الملمات والشدائد ممدود اليد في الخير للفقير وساعة اللقاء للعدو.

لا يزال يقسم بعض القيران بقبر الشيخ خدر إن تطلب موقف ما القسم، وكلما لفظ اسمه سرت في الأبدان قشعريرة وحنين إلى عصره الذهبي لعشيرة (القيران) إلى جانب العظماء من رؤسائها من قبله.

الذاهب إلى قرية (السكينية) العليا وما أن يعبرها شمال شرقا باتجاه مقبرة (كرى كور) سيلاقي قبر الشيخ (عطو الثاني) أولا وكأنه حارس المقبرة الأمين وراعيها وفي وسط القبور بين أهله وعشيرته هناك قبر الشيخ (خدر) ولاتزال جدائل الفتيات القيرانيات معلقة على قبره، موتى القيران مجتمعين حواليه وكأنه في مجلسه يتهيأ لتقديم القهوة لهم؛ ليسرد حكاية شنكالية من حكاياته.  

*******