(الفنّ مشكّل قيراني من مطعم الفرات)- مراد سليمان علو

 

لو أرجع بيّ الزمن إلى السبعينيات من القرن الماضي سأختار مدينة الموصل وهي في أوج مجدها، وكنت سأذهب للمرّة الأخيرة إلى مطعم (الفرات) في شارع (حلب) في ساعة الذروة، ربمّا بعد مشاهدة فلم لجوليانو جيما في سينما (النصر) أو أحد أفلام شامي كابور في سينما (السندباد)، وبالتأكيد كنت سأختار طبق (المشكّل)  من بين المأكولات التي سيعددها على مسامعي الشيف، ولا يهم إن كان سعره الغالي الذي يقدر بـ 350 فلس، سبعة دراهم بالتمام والكمال، المهم  وجبتي تحتوي على طعام مطبوخ وفق المقادير والنكهة المصلاوية من كبب وكفته وكباب ومرق وسلاطة وطرشي وصموّن حجري، ومثلما يبقى طعم (المشكّل) عالقا في الفم إلى اليوم التالي، كذلك هو الحال مع أغاني (شنكال) الفلكلورية والتي يمكن تذوّقها كأكلة مصلاوية، ولكن بمجرد دخولها في الذائقة تبقى فيها وتحتفظ بها الذاكرة، ولهذا لانزال ندندن بألحان (عيدوى كتي) ونحكي في مجالسنا اسطورة قيام (خلف قاسكي) و (دهار الأعمى) بشرب بعض من ماء جدول (السكينية) في طفولتهما على جناح خفاش ضل طريقه عندما اشرقت الشمس، فلم يصيبا ب (الكورونا) وتحققت أمنياتهما. صار (خلف قاسكي) يعزف على الطنبورة مع (خدر فقير) و (دهار الأعمى) يؤلف الأغاني الشعبية ويغنيها في المناسبات والأعراس ويسرد قصص الحبّ في ليالي جمرات مدافئ الحطب.

يقول المثل (الحكرشي، القيراني، الكرمانجي):

“مثل العقارب يتبع أحدهم الآخر”. ويضرب هذا المثل للذي يرى عقربا فعليه أن يحترس من آخر؛ لأن هناك دائما من يتبع الأوّل.   

ومن عادة (القيرانيين) أنهم يتبعون خطى مبدعيهم، فنحن نحبّ أغاني (عيدوى كتي)، ونحتفل ب (دخيل أوصمان). ولا نصعد على متن البساط السحري لقصائد جكر خوين فقصائد (حجي قيراني) تفي بالغرض.

وعلى هذ الأثر يمكن عدّ العشرات منهم والذين يستحقون أن يكونوا أعضاء في الفرقة القومية للفنون الشعبية في أيام عزّها.

وقد ترى أحدنا يجيد النقش على الخشب، فهو فنان بالفطرة وينحت الحجر وكذلك يجيد بنّاء البيوت الطينية وفي الوقت ذاته عاشق، ومَثله الأعلى في الحبّ هو مجنون ليلى، ولكنه يشجع نادي برشلونة.

أمنية (القيراني) ـ وكانت هذه أمنيتي ـ وهو صغير أن يتعلم اللغة العربية؛ ليقرأ سحر ألف ليلة وليلة، فنراه يتفوق في الإنكليزية ويتأثر بقصّة أوليفر تويست؛ لأنها تشبه قصته في فقره، فيقرر البحث في عالم تشالز ديكنز وما أن يهاجر إلى ألمانيا حتى يتعلم قبل غيره الألمانية ويحصل على (أوسبيلدونغ) في مجال الصحة، فكبار السن الألمان الأعزاء بحاجة إلى رعاية صحية، وفي المساء يفتش في الكوكل عن أفلام كلاوس كنيسكي القديمة.

وقد ينام أولاد (سيباى) ويستيقظون على حكاية من حكايات (علي حربا) ولكن هو نفسه لم يستيقظ بعد أن قاربت الحكاية نهايتها وترك سرّ كشكول السهرات إلى أولاده فألتقطه (مراد وحسن) أما صديقي (بركات) فقد التحق بقافلة شهداء العميد (باشا). ومراد بدوره ينصح أبنه (خيري) بتتبع خطاه لأنه على طريق والده ويعشق لياليه، فيستل (خيري) طنبورة كانت مخبأه في مصباح علاء الدين السحري ويعيد مجد البسته الكرمانجية بأنامل تشبه أنامل نصير شمّة ويتساءل بين لحن وآخر عن مصير آخر حكواتي قيراني، بعد تهديد اللون الأزرق في الفيسبوك لجميع العروش؟ وينضم (خيري) إلى عائلة شقيقته، ويبثون الفرح على سماء كردستان، فيعلن مقدم برنامج (شيدا) الغنائي فوز (حماد) ويليه في المركز الثاني الملاك (دلوفان) في موسم 2017 بعد ثلاث سنوات من الفرمان والنزوح فينسى أهل مخيم (جم مشكو) لليلة بأنهم نازحون من فرحة فوز ابنيهما، وتمتد السهرة والتقاط صور الذكرى إلى صباح اليوم التالي.

في أيام الحرب مع إيران وما أن يعلن عن هجوم في الجبهة وتصل جثة شهيد ملفوفة بالعلم العراقي إلى (سيباى) برفقة دمعات المأمور الساكن في احدى أهوار الجنوب المعجونة بحزن الحسين حتى يسود الصمت الديوان. وإن وقعت ابرة من بين أصابع فتاة عشرينية تطرّز رموز الحبّ على منديل حريري، لحبيبها في الجيش وقد تأخرت اجازته الدورية، فسيسمع رنينها قبل رنين خلخالها وهي تبتعد خجلا من صوت مام (خلف مجو) وهو يحكي بصوته الجهوري الذي يشبه صوت الأسطورة مورغان فريمان قصّة تغريبه من تغريبات بني هلال، فالشهيد يستحق أن يحتفى به كبطل في حرب الثمان سنوات التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل، فقط صنعنا كما غيرنا العديد من الأبطال والشهداء والكثير من حكايات الحبّ المنسية على السواتر بصوت (قبال)، فمن يحفظ اسماء الشهداء في عشيرة (القيران) ويعرف قصص عشقهم غير حجول جبل (شنكال) والعمّ (ألياس قولو).

وما بين شتاءات (السكينية) وتموين عبد الكريم قاسم وصيّف (سيباى) وطحين الحصار الذي لم يكن يصلح للاستخدام البشري نحتفظ في ذاكرتنا بموقع اذاعة بيريفان وشجن أغنية (لاوك).

ولكن أستاذنا العظيم سقراط لا يتركنا وشأننا ولا يدعنا ننعم بهذه السعادة المؤقتة التي صنعناها بأناملنا لأنفسنا فهو يقول بما معناه:

إن الخير فضيلة وهي الحكمة، والحكمة هي المعرفة كما لا يخفى أي إن الأنسان عليه أن يعرف الخير والشر ليعمل الخير ويتجنب الشر، وهو بهذا الكلام يزرع بذرة الشكّ الأولى في نفوسنا، ويجعل ذلك الرجل الذي ينوي أعطاء المتسول الواقف على بابه ألف دينار أن يتردّد ويقول مع نفسه: هل من الأفضل أن أعطيه نقودا أم أذهب إلى (المسؤول) وأقول له إن في قريتك متسولين فجد لهم عملا يعتاشون منه؟

أما نيتشه العزيز فله رأي ثاني ولكن هذا موضوع آخر يمكن تناوله ومناقشته عندما يرجع (حسن حجيكا) من سفرته إلى (شنكال) بسيارته الشيفروليه البيك آب، وحتى ذلك الحين ينّظم عازف المطبك (قاسم رفو) دبكة للشباب.

ويوم فرغت (السكينية) من البشر كان (قاسم رفو) يخرج الزمارّة تلو الأخرى من جيبة يجرب الواحدة منها بنفختين متتاليتين ليتأكد بأنها لا تزال تستجيب لشفتيه، ثم يرجعها لمكانها حزينا وهو يربت عليها قائلا في نفسه: “لقد طال مكوثك في جيبي”.

مرّت سنوات حتى استعادت الدبكة عافيتها وصار هناك العشرات من أمثال (أبو فلاح) السائق لنقل الناس إلى مختلف المدن البعيدة ومنها الموصل وبغداد لعرض تحف عمّي (خدر عيشانا) وبيع قلائد تين (قادا سور).

وأصبح السفر صيفا إلى المدن الكبيرة للعمل عادة متأصلة بين الشباب؛ ليعودوا إلى حبيباتهم بعلب (النيفيا) والكرات الملوّنة للأطفال. أما عازفو المطبك فلم يجرؤ أحدهم على دق الطبل أو نفخ الزرناية يوما فهذا من شيم الغجر وحدهم وهي مهنتهم ولا يحق لنا أن ننافسهم عليها،

والفرق أنه في أيام (السكينية) كان الشباب يذهبون إلى الجدول حيث الماء بدرجة حرارة الأرض ليزيلوا العرق والتعب من أجسادهم، وفي أيام (سيباى) كانوا يستخدمون (الطشت)، أما في المخيمات وعلى الجبل ضيّعنا المشيتين فجميع نصائح وحكم أبي لنا ذهبت سدى.

في أيام الموت والحزن تلغى الدبكة الجماعية، ولكن العزف كان يأخذ منحى آخر في السهرات الخاصة ويصاحب ذلك غناء المواويل ومداعبة الطنبورة ونكات وقفشات (فارس ملحم) إلى أن سلّم الراية للعشرات من مريديه وتتحول السهرة إلى محاضرة للمبتدئين في دنيا الفن الشعبي، واليوم الجميع يحاولون أن يكونوا ظرفاء في منصات التواصل أكثر من (بابى طيار) نفسه.

وأمثال العزيز (حمّاد إسماعيل القيراني) و (سمير شاقولي) و(شكر القيراني) لا يكتفون بأن يقال عنهم يجيدون الغناء وأصواتهم جميلة بل يجيدون العزف على المزامير والنقر على الطبلة ومداعبة الأورغ ويؤلفون القصائد ويلحنوها ولا ينسون تقبيل الطنبورة قبل ضبط أوتارها والعزف عليها، فمفهوم الإبداع عند شبابنا اليوم هو (سبع صنائع والبخت ضائع) وبالتأكيد هو (مشكّل) يشبه ذلك الذي كنا نذهب من أجله إلى مطعم (الفرات).

بعد قدوم بول بريمر ببسطاله المضحك على دبابته أخذت الفنون والآداب حظها من التحليق والتبجح وكثرت بيوتات الثقافة والمراكز الثقافية والجرائد والمجلات وأصبح الخادم (المراسل) وبائع الطرشي يرعيان الثقافة، وفي (سيباى) بقي الحال كما هو لا جريدة ولا بيت ثقافي ولا فخفخة ولا نفخة زائدة لأننا كنا نعلم إن أي لقاء ثقافي أو مهرجان أو مؤتمر أو مناسبة في حوض الجبل كله لن يكون له طعم ما لم يتم دعوة بعض المبدعين (القيرانيين) إليه وعندها سيكمل المشكّل الثقافي الأيزيدي ويكون له طعمه الخاص.  

والآن العولمة وعالم ما بعد الحداثة يحتم علينا أن نتفوق في تحصيل العلم ونحرص على تتعدد مواهبنا؛ لنواكب التمدّن الحاصل في برلين من أكواخنا الطينية في (شنكال).   

*******

2 Comments on “(الفنّ مشكّل قيراني من مطعم الفرات)- مراد سليمان علو”

  1. الموهبة والإلهام والقدرات العاليه من وسع خيال الإنسان غير متاحه لكل الناس وتتعلق بالمسائل الجينيه والوراثيه والذي يدرس العلوم الهندسيه يستطيع أن يوسع من قدره خياله في الرسم والتخطيط بدراسته شيءا من الهندسه الوصفيه desicripive geomtry والا كيف في الأدب والكتابه . ويا ليتني كنت اعرفها حتى كنت اعبر بمدى حبي واعتزازي بكتاباتك استاذنا الجليل مراد .. وكنت اتمنى ان تترجم كل نتاجاتك الادبيه الى اللغه الكرديه والفارسيه والانكليزيه ليتعرف العالم على وجود قدرات عاليه في هذا المجتمع الصغير المسالم .. والحقيقه القارىء يتلذذ بالالم وفي نفس الوقت بالامل عندما يقرا هكذا النوعيه من الكتابات التي فيها طعم خاص ..واتمنى لكم العمر المديد الاستاذ العزيز مراد والعلو والموفقيه لصوت كردستان

    1. شكرا لوجودك أخي الكريم (خدر) للمرة الثانية وتقديرك لكتاباتبي أرجو لك قاءة ممتعة دائما وأن يرى هذا العمل (حكايات من شنكال) النور في احدى دور النشر .. إلى الملتقى في الحكاية القادمة.
      مراد سليمان علو

Comments are closed.