حسون سالم بتي.. مثل غيره من الظرفاء في هذا الكون .. لا يذكرهم الناس الا بحدود ظرافتهم.. والتاريخ يحدثنا عن الكثير من امثاله.. جمعوا بين العبث والصعلكة.. وتندروا بحكمة في اصعب المواقف والاوقات و استهزأوا بلا تردد و دون خوف بما لا يمكن الاستهزاء به امام الجبابرة ومن اعتقدوا انهم عظماء بسلطتهم الجائرة التي كانوا يتحامون بها في زمن الحرب والطغيان..
وحسون كغيره من هؤلاء ايضا .. تمكن من اجتياز الممانع والممرات الخطرة دون ان يطرف له جفن.. وان كان الناس و اصدقائه قد ذكروا الكثير من سجاياه وصفاته الظريفة واعادوا صقلها وترتيب حكاياتها ليكون لهم نصيب بها في هذا الاستذكار المؤلم .. مع الذكرى العاشرة لرحيله ..
لكن ليس من حقي ان اطمر صفحات من التاريخ الجاد.. الذي لعب فيه الراحل الظريف حسون.. دوره التاريخي بجدية فيه.. وسجل عبر صفحاته الكثير من المواقف.. التي يصعب تذكرها في هذه اللحظات من جهة.. وقد نكون معذورين ان كنا لا نستطيع البوح ببعض صفحاتها الأخرى.. في هذا الوقت الملتبس.. لكن اقول بداية..
حسون هو الشقيق الثاني.. في سلسلة شقيقات للعائلة المعروفة.. وكانت معرفتي بشقيقاته بحكم السن والزمالة الدراسية افضل.. تبدأ بالكبيرة آسيا التي كانت تكبرنا وتسبقنا في الدراسة بثلاث مراحل دراسية.. ومن ثم ماهي و نادية زميلتي في الصف.. وشقيقتها الأصغر الدكتورة انتصار.. وسعد الذي كان له عالمه الخاص ..
اما بقية السلسلة من الاشقاء والشقيقات.. فلا اذكر منهم الا الصغير حسون.. وهو يتنقل في فناء دارهم بين براميل الزيتون و الطرشي أو عربة الأستيشن التي كانت تستخدم لنقل المسافرين والبضاعة.. وفقاً للحاجة قبل ان يصبح لأبيهم اكثر من عربة وسيارة للنقل والحركة ..
اما اخوالهم.. فكانوا من المقربين لنا.. وجمعتني بهم علاقات قوية بدأت بالتعليم حينما كان الاستاذ جميل معلمنا في الابتدائية ..واستمرت مع غانم وجلال و جمال بحكم ميولنا الفكرية .. والأوثق منها كانت مع جمال بحكم تقارب السن.. الذي كان يشاركني الجلوس عادة.. امام دار سالم بتي بين الحين والآخر..
في هذه المرحلة لم يتشكل لحسون موقعاً مهماً فيها.. وبقيت صورته العالقة في ذهني لا تتعدى ملامح الطفولة ..
وفي سنوات الكفاح المسلح والعمل الانصاري.. التقيت بأبيه وامه مرتين في مناطق سهل نينوى.. كان الحديث يجرنا الى حسون وشقاوته.. و صعوبة السيطرة على تصريحاته وتعليقاته .. كنت استمع لوالديه وهم يروون شيئاً من ممارساته الظريفة.. بطريقة تبعث على الخوف والقلق.. في ذلك الزمن الملتبس .. ما عداها كانت المفاجأة ..
حين طلبت من احد الرفاق العاملين في التنظيم السري.. ان يذكر لي اسم شاب شجاع يمكن الاعتماد عليه.. لا يجلب الانتباه.. ولا توجد عليه شبهة سياسية.. ويفضل ان يكون له سيارة .. او يستطيع ان يقود سيارة عند الضرورة ..
قال لي: .. هناك الكثير من هؤلاء.. عدد اربعة اسماء ثلاثة منهم.. من اولاد الاغنياء.. والرابع لا يجلب اي اهتمام يذكر بحكم فقر عائلته المدقع لكنه واع وكتوم .. وكان من بين الاسماء التي ذكرت حسون.. فقررت اللقاء به ليلا .. ومعرفة درجة استعداده.. واختباره ان كان سيستجيب لندائنا عند الحاجة له ام سيتردد ..
كان لقائي الاول به في بستان الزيتون.. وسط الاشجار.. اخترت موقعاً مناسباً للقاء عند اول شجرة زيتون.. من الجهة الغربية للمدينة.. التي تنفتح على مساحة جغرافية.. ملامسة لحدود برية.. تمتد لعدة كيلومترات ..
في هذا اللقاء عرفت من حسون.. ان ابيه قد استلم اول سيارة بيك آب.. دبل قمارة من مجموع 12 سيارة وصلت للعراق قبل ايام .. وقال .. سأضعها تحت تصرفك في اية مهمة تريد.. لأنها لا تجلب النظر ولا يجري تفتيشها في السيطرات وتم توزيعها للمقربين من النظام وتمكن ابي من خلال علاقاته الحصول على احداها.. وقال لي.. اي حاجة تحتاجها انا جاهر و في الخدمة .. وقبل ان اودعه واعود لمخبئي تفاجأت به يقول مستنكراً..
ـ هذا كل ما تريده.. حسبت انك ستقوم بمهمة عسكرية.. وتهاجم موقعاً للسلطة والحكومة البعثية.. واخذ يضحك .. و ضحكنا معه.. انا والذي دبر اللقاء الأول بحسون ..
بعدها.. ومع السنين تتالت اللقاءات به .. تعرفت عليه.. فهمت جوهره الانساني.. وسبب اندفاعه للقاء بنا .. كنت اسعى لشحنه بالحذر وعدم الحاجة للتشهير العلني بالسلطة.. من خلال الطرائف والظرائف التي يطلقها دون حساب ..
وحدثني عن نكتة طالت عزة الدوري.. رواها لضابط الأمن الذي كان في ضيافة والده…. حينما علق عليه الضابط محذراً: اياك ان تجيب طاري الاكبر من عزة .. فعلق عليه حسون.. لا انا افهم اللعبة.. ولا يمكن المزح مع الاكبر من عزة .. حدودي هي عند عزة.. و لست غبياً كي اصعد الدرجة الأخرى ..
بهذه الروح.. كان حسون يخلط الجد والهزل .. لم يكن يمارس الهزل الا لادراكه الجاد.. أن الوضع كله مسخرة ومهزلة.. لذلك اختار السخرية وسيلة للتعبير عمّا يجول في ذهنه.. واحيانا كان يسعى ليكون لسانا ناطقاً باسم الآخرين ..
وفي موقف آخر أصعب.. عصر يوم لن انساه.. فاجأني بلا موعد.. الذي كان واسطة الربط بيني وبين حسون.. دخل الوكر قائلا: حسون يريد ان يراك اليوم.. مع اول دفقة ظلام لأمر مستعجل وخطير.. ورفض ان يعطيني اية معلومة اخرى.. فقط يريد ان يراك فوراً مع اول ساعة ظلام..
يا ستار ما الأمر .. بدأت اتحسب واضع الاحتمالات.. ضربت اخماس في اسداس بلا نتيجة .. كانت الدقائق تمر واتعجل حضور الليل .. في اللحظة المناسبة وصل على عجل .. قال: هامساً.. مدير امن نينوى ومساعده سيكونون عندنا في البيت بعد ساعة .. سيحتسون الويسكي مع ابي.. وعادة يأتون بلا حراس.. ويعودون الى الموصل بعد الساعة العاشرة ليلا ..
ـ قلت مستفسر : ما الجديد في الموضوع؟..
ـ قال: سأضع لهم المنوم في الويسكي.. وتعال خذهم بسيارتهم .. وان احتجت لسيارتنا هي تحت تصرفك ايضا.. فقط جهز مَنْ سيساعدك في هذه المهمة.. سأسلمهم لك احياء في سابع نوم وانت تصرف بهم..
قدرت اندفاعه وقناعته وشطحته العسكرية هذه.. لكني لم استخف بتفكيره ومغامرته كي لا يشعر انه مخطأ في التفكير من الأساس .. قلت له: هكذا امور لا يمكن ان تنجح بالصدفة.. ولا يمكن تهيئة من يساعدني في تنفيذ هكذا مهمة كبيرة وخطيرة في وقت ضيق.. وفي مكان خطر للغاية يتطلب نقلهم للمناطق المحررة ساعات وجهود ..
ومن ثم لا تظن انهم جاؤوا الى داركم دون ان يعلموا مراجعهم بوجودهم عندكم .. سيكون ابيك والعائلة هدفهم.. ولن نضحي بكم منْ اجل الخلاص من هكذا كلاب.. سيأتي يوم محاسبتهم.. وهناك امامنا فرص اخرى قادمة ..
شكرته على اندفاعه.. وقلت له افضل شيء تؤديه لنا ولا يعوض ويفوق رؤوس هؤلاء.. انك تؤمن ايصالنا للمناطق الامنة عند الحاجة.. وهذه مهمة ليست سهلة.. ولا يقدم عليها في هذا الزمن الا الشرفاء والابطال.. وانت واحد من هؤلاء.. لن نضحي بك وبعائلتك لقاء هذه الرؤوس العفنة.. دع ذلك للمستقبل .. واذهب تنصت عليهم وافدنا بما يقولون .. هذا ايضا عمل بطولي في هذا الزمن الصعب..
وفي مرة لاحقة ..
كان معي مجموعة من الانصار.. الذين توجهوا لمهمة في الموصل.. بينهم الفقيد ياسين ـ جماهير الخيون ـ وعند رجوعهم.. لم يكن امامي الا توديعهم وشحنهم مع حسون في الدبل قمارة لإيصالهم الى المناطق الآمنة ..
وفي حالة ثالثة..
كان الخيار الاصعب في ايام الشتاء.. التي كانت فيه الاراضي الزراعية تتحول الى طبقات اسفنجية رخوة تغوص بها اقدامنا ويصعب السير فيها .. ومع هذا قلت لحسون: خذنا الى مسافة بالقرب من سايلو و سيطرة الشيخان.. واتركنا لنواصل قطع المسافة المتبقية .. قال:..
ـ لن ادعكم تسيرون تحت المطر الغزير .. سأوصلكم واعبركم السيطرة .. لا تهتم ..
وحينما وصلنا لمسافة 500 متر من السيطرة قلت له: توقف لكنه واصل السياقة.. وماهي الا لحظات وثواني ونحن في السيطرة مع سلاحنا مكشوفين.. نظر حسون للحارس الذي في السيطرة وقال له
ملوحاً بيده: .. ها كلب ..
ـ رده الحارس.. ها حسون اشْ شايل؟..
ـ شيوعين بيشمركة .. الا تشوف؟..
ـ اطلع يا كلب.. وسلمني على اميرك في باعذرة..
وعبرنا ..
قلت: هل انت مجنون؟..
ماذا كنت تتوقع لو شكّ بك الحرس وحدثت بيننا مواجهة؟.. قال: اعرف.. كنا سننطحن جميعاً .. اعرف ذلك .. بس كنت متأكدا من وجود معارفي في السيطرة .. لأني كنت قد مررت بهم عصراً ومعي شابين من بيت الأمير احدهم مسلح مثلك ايضا..
ـ مع ذلك هذا تصرف خاطئ لا يجوز ان تكرره وتغامر بنفسك وبنا .. طالما نحن انصار علينا ان نتحمل التعب ونتجنب المخاطر ..
بعد الانتفاضة كان يزورني في دهوك.. قبل ان تنتقل شقيقته الدكتورة انتصار الى التدريس في كلية الطب .. وبعد سقوط النظام التقيت بحسون في زياراتي للمنطقة .. وكانت آخر صفحات الذكريات بعد مرضه.. والمساعي التي بذلت لأجل اقناعه للعلاج في الخارج ..
لكنه قرر ان يودعنا .. غادرنا حسون بصمت تاركاً ظرائفه و طرائف يتناقلها الاصدقاء والمعارف عنه .. وصفحات مجد غائبة من حياته ليست هذه الأسطر الا الجزء اليسير مما يمكن ان يكتب عن حسون الوفي والشجاع.. صاحب العشرات من المواقف و الحكايا .. التي تستحق ان يدونها اصداقئه و المقربين منه ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صباح كنجي
24/4/2020
ـ مقتطف من حكايا الانصار والجبل