حكايات من شنكال-  (عبر القرى نحو الشرق إلى شنكال)- مراد سليمان علو

 

  بالرغم من الجراح الثخينة، دائما نتلمس الطريق إلى (شنكال) بعكازات بالكاد تحملنا، فالذهاب من القرى إلى (شنكال) تشبه التوجه من مطار (دوسلدوف) إليها فلا تزال تسمّى عند البعض منا ب(السفر شرقا)، وهي مناسبة تدعو للفرح، وربما للاحتفال كما أيام زمان عندما  كانت سيارة( أبو فلاح/حسن حجيكا) البيك آب ـ وهو الرفيق حسن حجي علي من أوائل الشيوعيين في حوض جبل (سنجار) ذو ثقافة تقدمية وعلماني رغم تدني مستوى تعليمه وقد كانت له مواقف شهمة ورجولية ناصر بها عشيرته في أيام كانت مبادئ السلب والنهب هي السائدة في مجتمعاتنا ومما يؤسف له حقا هي حالته الصحية في سنواته الأخيرة فقد أصيب بحالة متقدمة من انفصام الشخصية مما أدى إلى الهذيان شبه المستمر فحرمنا من مجالسته وسماع المزيد من قصصه وحكاياته المشوقة، والأمر الأكثر أسفا هو بقاءه في المنزل أثناء اجتياح (داعش) لقرانا وموته موتا بطيئا ووحيدا.

كان (أبو فلاح) يستخدم  منبّه السيارة (الهورن) ثلاث مرات متتالية فجرا وهي علامة كي يستعد وينتظر على الطريق من يروم الذهاب إلى (شنكال) من أهالي (السكينية العليا) ومن ثم النزول إلى (السكينية السفلى) ولهم نفس العدد من التنبيهات، وكان يحرص على إطلاقها قبل أن يصل للقرية ثم يتجه شرقا وبمحاذاة التلول إلى أن يصل قرية (المجنونية ـ حيالى) فيلتقط من يتواجد على الطريق، وهكذا قرية (الوردية) و (زرافكي) و(قصركي) إلى أن يصل إلى (شنكال) ويقفل راجعا قبل المغيب؛ ليحكي من ذهب في مغامرة اليوم إلى الشرق عمّا شاهد من عجائب وغرائب المدينة .

منذ أيام (حسن حجيكا) و(شيخ ماجو) وطريقنا إلى (شنكال) غير مبلط، وقد كان قبل الترحيل في عام ـ 1975 قريب من الجبل فيه حجر وحصى ولكنه خالي من التراب الذي يتحول إلى عواصف في الصيف وطين في الشتاء.

ثم ربطت (سيباى)  مع اختها بالرضاعة (كرعزير) ربما لأنهما في الهوى سوى ـ  فرمان وكارثة 14/8 2007 مثالا ـ  ربطا بشارع كان يسمّى بـ(شارع الموت) على غرار شارع الموت في (الموصل) و”محد أحسن  من اللاخ” كما يقول المصلاوي،  ولكن الفرق إن الموت في شارعنا يكمن في استدارتين خطيرتين مما تسبّبا في انقلاب العديد من المركبات وكانت الخسائر فادحة في الأرواح إضافة إلى الممتلكات ويقال إن المهندس المشرف على هذا الشارع أقسم بـ(شيشمس) بأن في مناهج الهندسة المدنية لا توجد (لوفات) مثل هذه، ولهذا اقترح هذا المهندس الجهبذ تغييرا فوريا في مناهج كلية الهندسة  بجامعة الموصل وإبقاء الشارع كما هو ليبقى شاهدا على عبقريته وعلامة على كرشه.

يبدو أن طول الطريق المؤدي إلى (شنكال) والذكريات المرتبطة به أخذ حيزا كبيرا من الفكرة التي أردت طرحها وهي عن الذين كانوا يدخلون (شنكال) قادمين من مجمّعاتها وقراها وريفها، فقد تسنّت لي فرصة طيبة لمراقبة دخول السيارات لأسبوع متواصل ورأيت ما رأيت:

في يوم السبت معظم الداخلين إلى المدينة صباحا ومساء يذهبون مباشرة إلى عيادات الأطباء؛ لأن السبت عطلة رسمية وصرنا الآن نشبه المدن الأوربية في عطلاتها الأسبوعية المكونة من يومين متتالين، وعيادات الأطباء تكون مفتوحة على مدار اليوم. ولا يقولن أحد إننا نتشبّه باليهود المساكين فنتعطل في سبوتهم لأننا أكثر مسكنة منهم وبما إن حكومتنا تعيش أوج ديمقراطيتها فمن حقها أن تجعل السبت عطلة خدمة للمصلحة العامة وإذا ما اقتضت الضرورة فربما لحقت الخميس بالجمعة والسبت ولتسمها عطلة (ملحقة). وأكثر المرضى من النساء. ومن أرادت أن تسرع بالعودة إلى بيتها عليها أن تنقد الفرّاش بأكبر نقد كاف، ولا تتبع تعليمات مصلحة نقل الركاب فهي مصلحة لئيمة ولهذا عاقبها الله بمحوها عن الوجود.

الأحد هو يوم السعد الكبير لأن الجميع يراجعون الدوائر الرسمية وعلى الأغلب لأجل (التعيين) أو في سبيل الحصول على رعاية اجتماعية بطريقة أو بأخرى، أو ترويج معاملة لأحد أركان المربع الذهبي المكوّن من هوية الأحوال المدنية والجنسية العراقية وبطاقة السكن وبطاقة المواد الغذائية، وشعارهم في ذلك عدم الاستسلام لليأس، فلا حياة مع اليأس؛ لأنك قد تحتاج أشهرا لأنهاء معاملة لك وحينئذ تكون من المحظوظين ويحق عليك ذبح ديك الجيران المزعج لعمل وليمة.

الاثنين هو يوم الثلاجات والمجمدات العاطلة وجلبها إلى المصلحين، وإن سألت (أبو حيدر) المصلّح التلعفري الطيب الخلق لماذا تتعطل ثلاجاتنا وهي جديدة فسيقول لك:

“والله قرداش السبب هو من المنشأ فالصناعة التركية والإيرانية سيئة للغاية وبعد أن يأخذ نَفَس من سيجارته سيضيف قائلا أو ربما السبب من الكهرباء فهي ضعيفة وخاصة كهرباء المولّدة الملعونة”.  تقول احدى بناتي إن الأذن اليسرى ل(داود) مشغّل موّلدتنا لا ترتاح من الطنين نتيجة لعناتك ومسبّاتك له عندما يعبث بقاطع الدورة ـ السركت ـ خاصتنا.

والثلاثاء يوم مشئوم للمعيز فقد قارب الصيف من نهايته وجف الحليب من ضروعها لذا حلّ بيعها وإلا ستعلف كلّ شيء دون مقابل وهكذا نتخلى عن معيزنا بعد أن شربنا من حليبها وأكلنا من أجبانها طيلة الأشهر الماضية نبيعها دون أن يرف لنا جفن، نعم كلّ أربع سيارات تجد أحداها تحمل بعض المعيز وهي تنظر للخلف وبدلا من أن تقول:

“.. مااااااء.. تقول مااااال..” أي (البيت) لعلها تريد أن ترجع للبيت بدلا من السوق، ولله في خلقه شؤون.

الأربعاء: لو سئلت طبيبا مختصا بالكسور عن الموسم الذي تكثر فيه الإصابات لأجابك دون تردد فصل الشتاء نظرا للصقيع و(الزحلقة) على الصقيع وخاصة الصغار وكبار السن، ولكن لو أجريت مسحا أو راقبت عيادات الكسور والمستشفيات لرأيت أن النسبة في الصيف هي ضعف الشتاء على الأقل في (شنكال) لثلاثة أسباب: أولها لم نعد نرى الثلوج والصقيع في الشتاء، وثانيا استخدام السيراميك في البيوت الحديثة وفي أماكن ينبغي استخدام الكاشي بدلا عنه فالعملية أشبه بارتداء بذلة ألسموكن صباحا إيغالا في الأناقة لذا نرى الصغار يقعون ما أن يبلل الكبار تلك الأرضية لمسحها، والسبب الثالث يكمن في الملاعب الخماسية ذات الأرضية الاصطناعية والتي لم يعتاد عليها الناس بعد فتراهم يندفعون بكلّ قواهم ويختل توازنهم فتكون النتيجة كسر أو فسخ في أقل تقدير.

الخميس: بما أن اليومين التاليين عطلة فيوم الخميس هو يوم التسوق بكلّ أشكاله وألوانه وأجناسه وطبعا بالآجل (بالديَن) حتى لو كانت الجيوب مليئة بالنقود.

الجمعة: شلل رباعي تام في كلّ مكان.

***

2 Comments on “حكايات من شنكال-  (عبر القرى نحو الشرق إلى شنكال)- مراد سليمان علو”

  1. كل شيء في الماضي كان جميلا رغم بساطته لان الانسان ما كان يفكر يوما أن يصبح مليونيرا أو ثريا فاحشا على حساب الآخرين ولهذا نشتاق الى تلك الايام ونتكلم عنها عند المناسبات وعلى رأي الشاعر…افكر في الماضي فيأتي خياله جميلا امام العين ثم يزول ودمتم سالمين

Comments are closed.