في كردستان وبحكم العلاقات العشائرية للمجتمع.. يلجأ البعض من الفلاحين لتعظيم شأنهم بقدر ما يمتلكون من مال وسطوة.. غالباً ما تكون موروثه.. هكذا نجد في العديد من القرى شيوخ وآغوات وبكوات وغيرها من المسميات التي نشأت في مراحل الاقطاع.. الذي مازال سائداً في الكثير من القرى والمدن الصغيرة التي يمتهن سكانها الزراعة والرعي.. التي يتشارك فيها الملاكون بنسبة من الإنتاج وفقا للأرض الممنوحة للمزارع ـ الأجير..
اما العلاقات الاجتماعية السائدة فلا تخلو من صراعات.. وصلت في بعض الاحياء للتصادم واستخدام السلاح والعنف.. بحكم اختلاف المصالح وتوتر العلاقات بين الأطراف المتنازعة.. بالتوازي مع شدة الاضطهاد ودرجة الاستغلال.. التي افرزت علاقات متباينة مع الدولة..
حيث مال الاغوات والبكوات والشيوخ للتعاون والتنسيق مع الدولة والحكومات المتعاقبة واصبحوا خدماً للسلطات الجائرة.. في حين واجه المستغلون هذه التوجهات وسعوا للتحرر والانعتاق.. دون ان نغفل وجود هذه الشرائح في قيادة الحركات والثورات التي سعت للدفاع عن حق الشعب الكردي وتزعمته في الكثير من الأحيان لكي لا يفلت زمام الأمور من يدها .. وتبقى تتحكم بمصير الناس بشتى الصيغ..
هذا لا ينفي وجود شيوخ وآغوات وبكوات طيبي المعشر يحضون بحب وتقدير الناس.. تركوا ذكريات جميلة وإيجابية في الأوساط الشعبية.. وبينهم من انخرط في أحزاب ثورية وادى دوره في تجارب الكفاح المسلح كأي فلاح بسيط وصادق في كفاحه وطموحه من اجل التحرر والانعتاق ..
وتكاد لا تخلو قرية او عشيرة من هذه النماذج المتناقضة في السلوك الاجتماعي و”السياسي” .. كما يمكن القول ان البعض من العشائر وبسبب هذه الشرائح صنف في خانة الخونة.. بحكم استمرار علاقاتهم مع السلطات المتعاقبة.. وانهم أورثوا الخيانة لأبنائهم ـ كما يقول الناس ـ عنهم ويصنفونهم في هذه الخانة واطلقوا عليهم تسمية الجحوش ..
كذلك تواجدت حالات.. من هذه المجموعات.. صنفت بالتمرد.. كانت تناطح الجيوش والسلطات الحاكمة والتدخلات الإقليمية.. وهو امر معروف ولا يحتاج للمزيد من التفاصيل بحكم تصنيف الشعب الكردي بالشعب الثائر منذ عدة قرون ..
وكنا ـ نحن الأنصار ـ بحكم تجوالنا بين الناس في القرى والبيوت.. التي نلجأ اليها للحصول على مستلزمات الحياة والطعام نتواصل مع هؤلاء.. بهذه الدرجة ام تلك.. ونحدد علاقاتنا معهم وفقاً لموقفهم من السلطة ودرجة تعاونهم مع الثوار في الجبل ..
وغالبا ما يكون مقياسنا لهذه العلاقة بالإضافة الى ما سردناه في الاسطر السابقة درجة احترام هؤلاء للبيشمركة والأنصار.. اثناء الاحتكاك اليومي بهم.. التي كانت تمنحنا الفرصة لتكوين انطباع إيجابي ام سلبي عنهم..
مع هذا ظهرت امامنا حالات متميزة.. تمثلت باندفاع اغوات برواري في قرى براش وجماني وستوكرك وخرابيا للتعاون من الشيوعيين بلا تحفظ.. بحكم العلاقات السابقة بهم ووجود المقرات الانصارية في قراهم بعد انقلاب شباط 1963 ..
أما حالة الأغا مصطفى في قرية كابيركي التي أثارت فيّ الكثير من التساؤلات والفضول.. فبدأت من أول يوم دخولنا للقرية.. التي كان يتحكم بها شخص معادي للشيوعيين يدعى علي كابيركي.. تميز بالخبث والمكر.. وكان عميلا للسلطة بالرغم من فقره.. استغل علاقاته العائلية والعشائرية للتغطية على توجهاته.. ولم يكن من السهل اثبات علاقاته بالسلطة بحكم وجود صلة له بأطراف في الثورة الكردية.. وكانت الوسيلة المتبعة في الكثير من الحالات التي نسجت خيوط علاقاتها مع أجهزة القمع..
في حين كان الآغا مصطفى طيب المعشر و ودوداً للغاية .. تبدو عليه ملامح العزة والشهامة والفقر .. آغا وفقير! ..
كان هذا مبعث تساؤل غريب يتطلب الحل.. خاصة بعد ان اصبح صديقي ودعاني لداره وأصبحت اتردد عليه كلما مررنا بقرية كابيركي.. وكنت فرحاً بهذه العلاقة.. وتجعلني اتغافل سيئات علي كابيركي.. ومع تكرار زيارتي للآغا مصطفى والبقاء معه لساعات طويلة.. جعلني أكون صورة أوضح عنه دفعتني “للتحارش” به لفك طلسم حياته .. خاصة وان بقية افراد عائلته كانوا لا يقلون عنه طيبة وانشراحاً ..بالرغم من فقرهم وملامح دارهم المتواضعة.. وما فيها من أثاث بسيطة.. تفصح عن الكثير من هذا الكدح والعوز ..
قلت لمصطفى ونحن نحتسي الشاي معاً كأي عائلة في كردستان تعشق هذا المشروب الساخن.. يا عم مصطفى .. متجاوزاً لقب الآغا الذي لا احبذ استخدامه.. انت انسان طيب وتحترم ضيوفك.. وتقدم لهم ما عندك رغم فقرك .. بحكم ما تمتلكه من خصال وقناعات تجعلك محبوباً منا..
لكن مظهرك ونمط حياتك ومسكنك لا يتفقان مع ما تحمله من لقب للآغا .. أرى الناس تخاطبك بالآغا .. وفي مخالطتي لك لم اكتشف أي مظهر من المظاهر لديك.. كيف يمكن ان تكون آغا وفقير الحال ؟.. أرى في هذا تناقضاً .. ولفت هذا انتباهي من اليوم الأول لدخولي دارك ..
وقبل ان يجيب .. قهقهت زوجته وبنته وتضامن معهم ابنه الشاب .. وظهرت ملامح البسمة عليه وهو يقلب حبات سبحته بين أصابع يده اليمنى .. قال وهو يحدق في وجهي والبسمة ما زالت في محياه.. لهذه قصة طويلة تمتد لأيام الطفولة.. منذ ان كنت في التاسعة من عمري .. جلب انتباهي ما كان يدور بين رجال القرية.. ومخاطبتهم لرجل وقور بينهم بهذه التسمية..
كنت اسمع آغا .. آغا.. وتكرار الكلمة من قبل الرجال وهم يخاطبون هذا الرجل الذي جلب انتباهي .. وبعد ان استفسرت من الذين أكبر مني ..
من هو هذا الرجل؟..
ولماذا تسمونه آغا؟ ..
ومن هو الأغا ؟..
تكونت لدي هواجس ومشاعر غير محددة عن الآغا.. وصعدت لسطح المنزل في لحظة طفولة لا تعي ما تطلب من الجميع.. وأنا أوجه ندائي العتيد محملا بشتيمة لا ادركها في ذلك الوقت.. وانا أقول لجمْع الرجال الذين يحيطون بالآغا في القرية في تلك اللحظات..
ا.. نـ.. يـ .. ك.. أم كل من لا يناديني بالآغا ..
ومن يومها اصبح الناس يخاطبوني بالآغا حرصاً على امهاتهم .. ووجدت نفسي آغا.. لكن على هذه الحال كما ترى..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
صباح كنجي
من حكايا الأنصار والجبل