1
من عادتي مصادقة المجانين، وأحبَهم إلى قلبي هم مجانين سيباى حتى تخيّل لي بأنني مجنون مثلهم، وليس لديّ أدنى فكرة عن سبب انجذابهم نحوي، ربمّا لأنهم مليئين بالحبّ وعقلاء مثلي.
لماذا دائما قافلة أصدقائي توّاقة للموت، ويفرّون من بين أصابعي كفراشات حان وقت هجرتها. برأيكم مَنْ مِنَ الآلهة المجانين لديه الجواب الصحيح؟
المجانين هم الذين أعوّل عليهم في بحثي عن عشبة الخلود، بعد أن قتل صديقي العاشق أنكيدو، و(سالم) هو من ينتظرني في صباحات ثانوية الجزيرة متأبطا عصاه، أقدّم له سيجارة نتكلم قليلا وما أن أودعه حتى يتناول عصاه ويهزّه بعنف قائلا: “أستاذ مراد إن أساء أحد طلابك الأدب أخبرني”. وطلابي لا يسيئون الأدب أبدا فهم مجانين مثلي بحبّ (سيباى) وحبك يا (سالم).
2
في ثمانينات القرن الماضي أيام الحرب كنا نخرج من بيوتنا الطينية لنكوّن جوقة من المتجمهرين بالقرب من عمود الكهرباء الرئيس القريب من منطقتنا للثرثرة وسماع سوالف الهجوم الأخير على قاطع من قواطع الجبهة الشرقية، وعدد شهداء (سيباى).
وبعد أن يترك حديث الجبهة والإجازات الدورية والضباط وطيبة أهل الجنوب آثارها في أرواحنا يحضر الفتى (جردو) متأخرا وهو شاب ضخم ذو بأس شديد بوسعه تناول قدر كبير من البرغل في وجبة الغداء، فيكسر حزن أحاديثنا بالانتقال إلى الطعام.
نكلم (جردو) ونشجعه على الكلام ونشأت بيننا صداقة وكان يبتسم عندما يراني اقترب منه وهذا يساوي عندي الكثير أن اجعل (مجنونا) مثله يبتسم في وجهي ويتكلم معي ويستأنس بوجودي.
وعند هروبنا أثناء غزوة (داعش) الإرهابية وبينما كنت امشي بالقرب من البيوت الشمالية لقرية السكينية العليا وقت العصر ناداني بصوت هادئ وضعيف، جلست بين يديه غير خائف من حباله وزناجيره التي ربطت به نظرت في عينيه ووجدته يقول لي:
“إن كنت ستعبر الجبل فخذ عبوة الماء خاصتي فهي أكبر من تلك التي تحملها، ستحتاج الكثير من الماء أما أنا فقريب منها”. ثم أردف قائلا: انتبه على نفسك، وبعدها ودعته وغادرته.
رغم الجثث التي رأيتها لأناس أعرفهم وأطفال أعرف عوائلهم إلا أن كلمات صديقي المجنون الحكيم لم تبارح ذاكرتي.
تلك لم تكن كلمات مجنون أبدا، فقلة الاهتمام وانعدام الخدمات الطبية المناسبة جعلت من جردو الذي كان يعاني التوحد مجنونا في نظر كلّ من يسكن هذا الوطن المجنون. وبعد ذلك بعدة سنوات سمعت بوفاة صديقي العاقل في احدى المخيمات.
نعم، مجانين سيباى هم الأحبّ إلى قلبي حتى ليخيّل إليّ بأنهم ملائكة في أثواب المجانين، فهم ليسوا ثوريين ليحاولوا جاهدين بيع القضية، ولا يهتم أحد بآخر نكته يرويها مجنون.
لا شك إن الموسيقى تزيل آثار الزعيق، ولكن علينا أن نكون حذرين في اختيار قطعة الموسيقى فداعش غزتنا على أنغام (غريبو).
3
تحية جميلة لتلك الأيام الرائعة التي قضيناها رافضين تصديق وقوف المستقبل بالباب، فقد حضر أسرع مما كنا نعتقد، ووحدها زهرة الشمس تشهد للأرامل واليتامى الأيزيديين تسليم وجوههم الكالحة أينما أدارت الشمس بوجهها.
ومن يتبع الشمس غيرنا يا صديق طفولتي (حطا) فلم نسأل عن الجاذبية يوما ولا رجونا ظروفنا السيئة أن تتحسن يوما فقد كنا مطمئنين بأن أحدهم لابد أن يسير على أرض الحقيقة ذات عيد ويحكي للأطفال خروجك من البيت صباحا، وكراع يهمه لملمة خرافه الضالة كنت تدور على بيوت أصدقاءك ليخرجوا بعد أنذار ووعيد وصراخ وزعيق.
كلّ صبي يقف (حطا) ببابه كان عليه أن يخرج ليلبي نداءه فقد حان موعد التجمع واللعب ولا شيء آخر يهم، وكان الكبار أحيانا يحثون صغارهم لمرافقة هذا (المجنون) الذي يحب أصدقاءه واللعب معهم.
لا أزال احفظ تقاسيم وجهه وشكل فمه وأسنانه ونوع ضحكته وأنواع السباب والشتائم في قاموسه وهو يمطر بها من يتدخل من الكبار بينه وبين أصدقاءه وكذلك تعنيفه وضربه للذي لا يطيعه.
مات صغيرا، مات محبوبا لأنه كان مختلفا، لأنه كان يحب اللعب وكان يجمع الأصدقاء في الصباح الباكر من أجل اللعب والضحك فقط.
4
ليس من حقك أن تطلق اسم (فرمان) على أول طفل أيزيدي ولد أثناء الفرمان، سمّه (الخضر) ذلك الذي لا يموت ولا يمل من سرد حكايا الفرمانات للأنبياء والرسل والأولياء والصالحين وطبعا للمجانين من أمثالي وأمثال صديقي (حطيط).
(حطيط) يا أخي في البلاء والفرمان والحرمان.
الشيء الوحيد الذي يمتلكه ويفتخر به هي مفرداته الشعبية الساحرة يطعمها بجمل لا تتوقعها فتبقى معلقا بين الدهشة والابتسامة لكلامه (الحكرشي) المغموس بالسخرية.
صديقي هذا طفل كبير، لو كلمته عليك مخاطبته بلغة الأطفال بمفردات مباشرة فقد يسخر منك كما يسخر من الشمس في آب أو من رجال الدين في الأعياد.
نشأت وكبرت على وجود (حطيط) في نفس المكان، أشتاق لكلماته ولسخريته من كل شيء.
وكم سعدت عندما قدمت إلى ألمانيا عرفت بوجوده أيضا والتقيته ولكنني رأيت الحزن في عينيه فقد ابعدوه عن (سيباى) وعن (السكينية) وعن الجبل.
لا أحد له الحق أن يقترب من فرمان صديقي (حطيط) مالم يتحول أولا إلى طفل يحب السخرية من الكبار.
5
توقع اللا متوقع بوّابة حكرشية ـ قيرانية تتكون من أربعة وسبعون كلمة يتكون منها سرّ الليل لدخول الضابط الخفر في عالم المجانين، أسألوني عن هذا الأمر أنا الشارب من كأس (شيخادي) حد الثمالة.
قد يثمل المجنون وهو يتأمل غديرا للمواعيد فيصبح بومة حكيمة، ويتحول العقلاء إلى ضفادع لا يجيدون النقيق ونتوسل بالآلهة أن يسقط المطر لتمتلئ الغدران بالمجانين ويأتي (حسن حجيكا) بسيارته ليأخذهم خارج المكان.
و(أبو فلاح) هو أوّل عاقل حاجج نوح في طوفانه وهو أول شيوعي من قرية لا تجيد سوى النوم وأول سائق محترف ما بين الموصل وبغداد يسمع (خدر فقير) في الطريق.
وهو أول الواصلين ليبدأ بحكاية ملونة من المدن الغافية على دجلة وحكايات المسافرين إليها.
عرفته منذ صغري ورافقته عشرات المرات بسيارته من (السكينية) إلى (شنكال) ولا تزال لوحات الجبل والتلال والقرى والمزارع على الطريق معلقة في ذاكرتي.
وبعد بناء سيباى عمل نجارا والمسيح نفسه كان سيحسده على فنه الراقي لو استمر به كان عبقريا في التصميم والتنفيذ ويشبه نيتشه في الكلام.
ثم، أصيب (بالشيزوفرينيا) الفصام وابتعد عن الجميع شيئا فشيئا وقل تفاعله معنا يوما بعد آخر وانتقلت عبقريته إلى إخراج مفردات وجمل غريبة وعجيبة من السباب والشتم ومناداة شخصيات وهمية، وربما كانت هلوسته وكلامه العجيب أساس وقوعي في غرام السريالية.
كان العمّ حسن يحبني وفي أيام جنونه كنت أزوره أحيانا، افتح موضوعا للمناقشة، ينتبه لدقائق يتكلم وكأنه حكيم زمانه وما أن يمر الوقت حتى يرجع إلى هلوسته ومخاطبة السماء.
أثناء غزوة (داعش) القذرة بقي في الدار ومات وحيدا في غرفته، حتى في موته لم يكن مثل الناس، فقد كان دائما يسخر منهم ويعايرهم.
6
يمكن للحظة أن تدوم إلى الأبد وتستمر الحكاية دون نهاية، ويمكن لاستكان الشاي ألا يبرد ويستمر دخان السيجارة بالصعود ليختلط بالحكايات، حكايات العقلاء والحكماء من (كرو) الذي يشبه البهلول في هيئته وحمله لعصاه الغليظة والتمائم والحجابات التي تتراقص على صدره وجنبه وهو يتخذ من مقولة “حتى الساعة العاطلة تشير إلى الوقت الصحيح مرتين في اليوم” بداية تصحيح لثرثرتنا ويقول عنها لم تكن واقفة يوما بل أخطائنا عديدة لا تحصى.
7
تأسيسا على حكمة أصدقائي أطالب أمرائنا الجدد مصادقة المجانين أمثال هؤلاء فربما تعلموا منهم الحكمة والضحكة والابتسامة والتواضع والطيبة وحبّ الناس.
ومتى ما فعلوا ذلك فسيتركون كراسيهم ويهربون من الإمارة وهم يقهقهون، سيغوصون بهلاوس لم تكن يوما أمنيتهم في الحياة سيتراءى لهم برج بابل عندما يحملون عنقود عنب بيد وينظرون لشكله المخروطي وحباته الممتلئة كبرج بابل المليء بالمتعة والأسرار.
هؤلاء الأمراء الصغار عليهم أن يجربوا الألم، ويدخلوا مملكة الألم لتمتزج الرغبة في الحكم بالألم حتى يختفي الخوف الذي يمشي أمامهم في كلّ مشوار.
عندما يتصاعد الألم ويستمر بالفوران ينهار على نفسه ويصبح ثقبا دوديا ومن هذا الشكل الجديد والتحوّل المفاجئ يمكنهم طلب السماح والغفران من مجانيننا.
إن أراد هؤلاء ـ وأنا أشك بذلك كثيرا ـ إعادة ميلاد الأيزيدياتي عليهم أن يهربوا إلى واقع المجانين الذين لا يخافون ولا يجاملون.
*******