يتضح إن المفكر الجزائري مالك بن نبي ( 1905 – 1973 ) قد ألف كتابه المعروف ( شروط النهضة ) بعد الحرب العالمية الثانية ( 1939 – 1945 ) . طبعا بآستثناء موضوع ( الفكرة الدينية ) الذي أضافه عليه في مقدمة الطبعة العربية المترجمة التي كتبها عام ( 1960 ) من القرن العشرين المنصرم .
في مقدمته الهامة للطبعة الفرنسية على كتاب ( شروط النهضة ) ذكر الدكتور عبدالعزيز الخالدي عبارة قيمة في غاية الأهمية ، هي : [ إن الإستعمار ليس مجرَّد عارض ، بل هو نتيجة حتمية لإنحطاطنا ] ، وهذا ما يدور عليه كتاب ( شروط النهضة .
في الباب الأول من كتاب ( شروط النهضة ) لمالك بن نبي تحدث في موضوع ( الحاضر والتاريخ ) ، حيث بدء كلامه بأنشودة رمزية ، قائلا لصديقه : ( لقد حانت الساعة التي ينساب فيها شعاع الفجر الشاحب بين نجوم الشرق ) ، ويختمها بأن ( شمس المثالية ستتابع سيرها دون تراجع ، وستعلن قريبا إنتصار الفكرة وآنهيار الأصنام ) ! ، ينظر كتاب ( شروط النهضة ) ، ص 20 ، مع تأكيده بأن الأساس لجميع الحضارات ، هو الفكرة والثقافة الدينية .
ثم يأتي بعدها إبن نبي الى ( دور الأبطال ) ليبدء خلاله تحليله في نضالات الشعوب المسلمة ذات الطابع البطولي أمام الزحف الاستعماري ، واصفا إياها بأنها كانت – أي النضالات المذكورة – ذا بعد بطولي محض ، لأنه لم يكن بإمكان تلكم النضالات البطولية من تقديم الحلول للمشاكل ( التي مهدت للاستعمار وتغلغله داخل البلاد ) المصدر المذكور ، ص 21 . فمالك بن نبي يعتقد بأن الدور البطولي والعسكري والميداني ليس كافيا أبدا ما لم تكن هناك عملية وعي وفهم لبناء أسس النهضة .
يعتقد مالك بن نبي إن أيَّ مشكلة كانت ، هي في أصلها وجوهرها مشكلة حضارية ، ( هي مشكلة حضارته ) . إذ ليس بوسع شعب أن يستوعب ، أو يقدِّم الحلول لمشكلته ( ما لم يرتفع بفكرته الى الأحداث الانسانية ) ، ثم ( ما لم يتعمَّق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها ) نفس المصدر ، ص 21 .
بعدها يتحدث إبن نبي عن فلسفة التاريخ التي لا تلتفت ولا تبالي بأمم قد غطت في نوم عميق ، فيقول ( ومن عادة التاريخ ألاّ يلتفت للأمم التي تغط في نومها ، وإنما يتركها لأحلامها التي تطربها حينا وتزعجها حينا آخر : تطربها إذ ترى في منامها أبطالها الخالدين وقد أدوا رسالتهم ، وتزعجها حينما تدخل صاغرة في سلطة جبار عنيد ) نفس المصدر ، ص 22 .
في كتابه هذا يركز مالك بن نبي على على دور الفكرة الكبير أولاً ، لا السياسة في عملية النهضة ، وفي إيجاد النهضة . في ذلك يستشهد بجمال الدين الأفغاني ( 1838 – 1897 ) ، كما يشير الى زعماء الإصلاح وقادته الجزائريين ، مثل صالح بن مهنا ( 1840 – 1910 ) ، وعبدالقادر المجاوي ( 1848 – 1914 ) ، وعبدالحميد بن باديس ( 1889 – 1940 ) وأدوارهم وفعالياتهم القيمة في عملية النهضة والنضال بالجزائرضد الاحتلال الفرنسي لها يومها . بعدها يصل الى نتيجة مفادها : ( كانت حركة الاصلاح التي قام بها العلماء الجزائريون أقرب هذه الحركات الى النفوس وأدخلها في القلوب ؛ إذ كان أساس منهاجهم الأكمل قوله تعالى { إن الله لا يُغيِّر ُ ما بقوم حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم } الرعد / 11 ، نفس المصدر ، ص 27
هذه الحركة النهضوية – العلمائية للاصلاحيين الجزائريين كانت الأساس والمنطلق في تكوين النهضة والنضال بالجزائر لا المذاهب والحركات الوهابية ، أو الكمالية ، أو المتصوفة ، أو المغتربين ، أو الإنتهازيين .
كما ينتقد مالك بن نبي الصوفية والمتصوفة في الجزائر وأدوارهم السلبية يومذاك على المستوى الديني والاجتماعي والسياسي ، وكيف إن الاحتلال الفرنسي إستغل الصوفية في الاستمرار في إحتلاله ، وفي تخدير الشعب الجزائري وبث روح العزلة والإنهزامية بينه .
على رغم ذلك يرى إبن نبي بأن الحركة الاصلاحية أيضا في عام (1936) قد حادت عن مسيرتها ، يقول في هذا الشأن : ( وهنا يظهر السبب الذي دعا العلماء الى أن يسيروا عام 1936 في القافلة السياسية التي ذهبت الى باريس ، كأكبر سبب جَر َّ الحركة الاصلاحية الجزائرية الى أول إنحرافها . فبأي ِّ غنيمة أرادوا أن يرجعوا من هناك ، وهم يعلمون أن مفتاح القضية في روح الأمة لا في مكان آخر ؟ ) نفس المصدر ، ص 29
ثم يختم موضوعه بن نبي بقوله ( ومن المحزن حقا أن العالم الاسلامي – إبان هذه الحقبة – قد آستسلم لرقاد طويل ، فلم يفطن لساعات التاريخ الفاصلة ، ولم يحاول إنتهاز فرصتها السانحة ليتخلص من الاستعمار ) نفس المصدر والصفحة .
في موضوع ( دور الوثنية ) ينتقد ثانية مالك بن نبي المتصوفة وزواياها ، وذلك لأدوارهم السلبية والتخديرية والانحرافية بالجزائر ، حتى إنه شبهها بمثابة الأوثان بالجزائر وقتذاك ، يقول : ( ومن سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم ، والعكس صحيح أحيانا ) نفس المصدر ، ص 30 . لكن بإزاء ذلك ينبغي القول أيضا بأنه كان للمتصوفة دورا إيجابيا في حركات المقاومة والنضال ، مثل ثورة الشيخ الكردي سعيد بيران (1865– 1925 ) في كوردستان ضد الطاغية كمال أتاتورك عام ( 1925 ) ، بحيث كان الشيخ الشهيد سعيد بيران رائد الطريقة الصوفية النقشبندية في كوردستان وقتها ، هكذا نرى مثل هذه الحالة الإيجابية في تاريخ السودان الحديث أيضا .
ثم يسترسل بن نبي في توضيح معادلة هامة ، هي إن ( الشرط الجوهري لكل تحول إجتماعي رشيد ) هو إجراء التغيير من الداخل ، من الذات ، من النفس . ينظر نفس المصدر ، ص 32 . يقول بن نبي بتوضيح أكثر في هذا الصدد : ( وليس ينجو شعب من الاستعمار وأجناده ، إلاّ اذا نجت نفسه من أن تتبع لذل مستعمر ، وتخلصت من تلك الروح التي تؤهله للاستعمار .
ولا يذهب كابوسه عن الشعب – كما يتصور بعضهم – بكلمات أدبية ، أو خطابية وإنما بتحول نفسي ، يصبح معه الفرد شيئا قادرا على القيام بوظيفته الاجتماعية ، جديرا بأن تُحترم كرامته ؛ وحينذاك يرتفع عنه طابع < القابلية للإستعمار > وبالتالي لن يقبل حكومة إستعمارية تنهب ماله وتمتص دمه ، فكأنه بتغيير نفسه قد غير وضع حاكميه تلقائيا الى الوضع الذي يرتضيه ) نفس المصدر ، ص 33 ، ثم يصدع إبن نبي بعبارة إجتماعية قيمة وهامة للغاية ، هي ( وإنها لشِرْعة السماء ؛ غيِّر ْ نفسك تُغيِّر التاريخ ) !
في موضوع ( من التكديس الى البناء ) ، يقول إبن نبي ( لقد ظل العالم الاسلامي خارج التاريخ دهرا طويلا كأن لم يكن له هدف ، إستسلم المريض للمرض ، وفقد شعوره بالألم حتى كأنه يؤلف جزءا من كيانه . وقبيل ميلاد هذا القرن سمع من يُذكِّره بمرضه ، ومن يحدثه عن العناية الإلهية التي آستقرت على وسادته ؛ فلم يلبث بأن خرج من سباته العميق ولديه الشعور بالألم . وبهذه الصحوة الخافتة تبدأ بالنسبة للعالم الاسلامي حقبة تاريخية جديدة يطلق عليها : النهضة . ولكن ما مدلول هذه الصحوة ؟ إن من الواجب أن نضع نصب أعيننا [ المرض ] بالمصطلح الطبي لكي تكون لدينا عنه فكرة سليمة ، فإن الحديث عن المرض أو الشعور به لا يعني بداهة [ الدواء ] . نفس المصدر ، ص 44
بعدها يضيف مالك بن نبي بأن : ( نقطة الإنطلاق هي أن الخمسين عاماً الماضية تفسر لنا الحالة الراهنة التي يوجد فيها العالم الإسلامي اليوم ، والتي يمكن أن تفسر بطريقتين متعارضتين : فهي من ناحية ؛ النتيجة الموافقة للجهود المبذولة طوال نصف قرن من الزمان من أجل النهضة . وهي من ناحية أخرى ؛ النتيجة الخائبة لتطور آستمر خلال هذه الحقبة ، دون أن تشترك الآراء في تحديد أهدافه أو إتجاهاته .) ينظر نفس المصدر والمؤلف والصفحة .