إمارة بوطان..جوهرة الإمارات الكردية – د. قبات شيخ نواف الجافي

 

تمتلك إمارة بوطان/بوتان ميزة تاريخية خاصة من بين جميع الإمارات الكردية في نقطتين هامتين: الأولى قدمها التاريخي, والثاني عمرها الزمني الممتد ولو بشكل متقطع وعلى هيئات وكيانات مختلفة من عصور ما قبل الميلاد الى بدايات القرن العشرين. و بالتالي, تكون قد عاشت حقب التاريخ المختلفة من قديم  و وسيط وحديث ومعاصر. لقد كانت آخر إمارة كردية تسقط بيد العثمانين كحال سقوط مملكة غرناطة على يد ممالك الشمال في السياق الأندلسي. وهي بهذا الميزة, تعتبر بحق مختبرحقل تجارب وأكتشاف براهين بنفس الوقت عن مجريات التاريخ الكردي بشكل عام وعلى مر العصور والأزمنة المتتالية.

الجغرافيا

أمتدت إمارة بوطان على مسافة جغرافية واسعة أمتدت من الموصل الى بحيرة وان, ومن هكاري الى ديار بكر, حيث شملت ضمنها على مناطق جبلية ذات طبيعة خلابة وخاصة في ما يسمى بمنطقة الزوزان. والزوزان هي عبارة عن مناطق جبلية باردة مليئة بالمصايف والمشاتل والمرابع, ويقصدها عادة القبائل الكردية العريقة (الكوجر الميران), بأستمرار في فصل الصيف لرعي المواشي. وكانت هذا المناطق تضم العديد من القلاع و الحصون عائدة لأمراء الأمارة و لعل أشهرها هي قلعة كوركيل/حزدقيل القريبة من جبال الجودي الشهيرة و الذائعة الصيت في الأديان الأبراهيمية. وتعد مدينة الجزيرة, (بالكردي بقردي أو جزيرا بوطا- جزيرة ابن عمر في المصادرالأسلامية), قابعة على ضفاف نهر دجلة الذي يقسم المدينة الى شطرين. وعلى ضفاف هذا النهر الكبيرهناك قلعة برجا بلك (البرج الغامق نسبة الى لون حجارتها والتي كانت مقرسكن أمير (مير بالكردية), الإمارة. إمارة بوطان, بكل تأكيد, إمارة جميلة وخلابة من حيث طبيعة سهولها وجبالها, حقولها وبساتينها, مياهها العذبة وهوائها النقي, وكيف لا, أصوات طيورها الشجية الشادية أيضا. هذا التحفة الفنية الطبيعية كانت محل أعجاب الكثير من الشعراء. فقال أحدهم عن بلدة جزيرا بوطا/بقردي:  بقردي وزوزان مصيف ومربع*****وعذب يحاكي السلسبيل برود

التاريخ

ينتمي أبناء إمارة بوطان الى قبيلة بهتي-بختي الذين كان لهم مقاطعة شبه مستقلة خاصة بهم أيام الدولة الأخمينية (بحدود العام 450 قبل الميلاد), ضمن الساتراب (ولاية رقم 13), حسب ما ورد عن مؤسس التاريخ اليوناني هيرودوتس (484-425 ق.م). كذلك هنالك رواية نقلها شرفخان البدليسي (1543- 1603 م. الأب المؤسس للتاريخ الكردي), في كتابه القيم شرفنامه (ج2 ص320), مفادها أن “الشعوب الكردية كلها من نسل قبيلة بختي-بوطاني” وهذا دليل على سبقهم التاريخي وجغرافيتهم المتجذرة. وتذكر شرفنامه أيضا بأن قبائل بوطان من أشهرالقبائل الكردية في الشجاعة والمثابرة والأقدام ويتمتعون بالريادة في المهارات العسكرية وفنون الفروسية عن الآخرين. وللمؤرخ الكردي المعاصر, العلامة المفضال محمد أمين زكي (1880-1958), في كتابه الهام المهم خلاصة تاريخ الكرد وكردستان “من المحتمل جدا أن تكون عشائر الجزيرة وحواليها منحدرة من الشعب الكلدي التاريخي القديم الذين أستولوا على أورارتو”. خلاصة تاريخ الكرد وكردستان (ج2 ص364 ). والشعب الكلدي هي جماعة أوراراتية (نسبة لجبل آرآرات), عاشت على ضفاف بحيرة فان في شرق الأناضول، وذلك نسبة للرب الذي عبدوه (كلدي). في حين يؤكد المستشرق الروسي الكبير (السوفييتي في ذلك الحين), مينورسكي (1877-1966), على عن الميديين هم أساس الشعب الكردي الحالي وأن مناطق إمارة بوطان هي موطنهم الأصلي. هنا يجب أن نعترف ونقر بجهود وفضل الأستشراق الروسي بشكل عام في تطويرالمعارف في حقل الدراسات الكردية أو كما يطلق عليه حاليا الكوردولوجي.

لقد كانت مدينة جزيرا بوطا/بقردي مدينة للتنوع الديني و العرقي, ألا أنه الغلبية العظمى من سكانه هم من الكرد, وهذا ما أكد عليه الرحالة الجغرافي المؤرخ الشهيرأوليا جلبي (1611-1682), في كتابه (الجغروتاريخي المفيد جدا), سياحتنامه. هذا الكتاب يعتبر بنظر بعض المؤرخين بمثابة الكتاب الثاني للتاريخ الكردي في العهود الإسلامية على أساس أن كتاب شرفنامه السابق الذكر هو الأول. أما بخصوص مدلول لفظ كلمة كردستان, فقد عرفت هذه المنطقة باسم كردستان لأول مرة في القرن الثاني عشر الميلادي في عهد السلاجقة، وبالتحديد في عهد السلطان سنجر السلجوقي ( 1117- 1156م), عندما اقتطع هذا القسم من إقليم الجبال, وسماه كردستان وولي عليه ابن أخيه سليمان شاه. حتى أنه شاع بين أوساط بعض المؤرخين والباحثين، بأن المؤرخ والبلداني المعروف حمد الله المستوفي القزويني (1281-1349), بأنه أول من أورد اسم كردستان في كتابه ” نزهة القلوب “. وهكذا يكون المستوفي قد أستوفى مدلول لفظة كردستان حقها التاريخي.

وهكذا, تغدو إمارة بوطان إمارة كردية عريقة ذات تاريخ طويل ومشرق واجهت خلال فترات تاريخه المختلفة صعوبات وتحديات كبيرة كغزوات السلاجقة, حكام الموصل (أيام عماد الدين زنكي), المغول وقبائل الترك قره قوينلو وآلق قوينلو والصفويين حتى سقوطها النهائي بيد العثمانيين عام 1847. يستطيع المرء أذا, أن يعلم الكم الهائل من الأمراء و الحكام الذين حكموا منطقة بوطان التاريخية على مدى القرون الماضيات وما واكب فترات حكمهم من أزدهار و تقدم, و كذلك أنحسار و تدهور. و في هذا االسياق, أن نظرية ابن خلدون (1332-1406), في قيام وسقوط الحضارات و الدول, لها نصيب تطبيقي في حالة إمارة بوطان ولو نسبيا. ولهذا السبب لا نستطيع ذكر الأمراء و الحكام في مقال و احد, بل أن تاريخ إمارة بوطان يحتاج وبكل تأكيد الى كتاب مستقل. ألا أننا سنركز على فترة حكم أميريين أثنيين, ميرعزالدين بن ميرعبد العزيز (1350-1405 ), ومير بدرخان بن مصطفى العزيزي(1802-1870), وذلك لسببين: الفترة الأولى شهدت هجوم المغول على إمارة بوطان بقيادة تيمورلنك (1336-1405), وما أحدثه من أهوال تاريخية وأنقطاع حضاري. والثانية, زمن سقوط آخر إمارة كردية كانت قد دعت لتوحيد الإمارات الكردية, سقوط آخر حبة من عنقود الإمارات الكردية من  كروم أعناب بلادي, وكذلك أنتشارأبناء الأمير بدرخان في قبرص و بلاد الشام ومصر ومحاولاتهم أحياء و أستعادة تراث الأباء و الأجداد.

ميرعزالدين بن ميرعبد العزيز

لسوء حظه وصعوبة قدره, عاصر أميرنا العزيزعزالدين, الفاتح العالمي تيمورلنك الذي كان يطبق سياسية الأرض المحروقة (مغولة البلاد والعباد), في الأوطان التي يدخلها عنوة, الذي لم يسلم منه كل من في البلاد, لا من أنس ولا من طير ولا من حجر وشجر. لقد فطن الأميرعز الدين لهذه السياسة الشديدة القوى, وقبل أن تطأ أقدام جحافل قوات تيمورلنك مدينة جزيرا بوطا, تقدم اليه الأميرعزالدين معلنا الطاعة والولاء ولكن على مضض, بل ذهب اليه فيما بعد الى ماردين لتقديم الهدايا والعطايا ليأتمن شره. و بهذا الحنكة السياسية, ومن مبدأ الضرورات تبيح المحظورات, حمى الأمير إمارته من بطش تيمورلنك وجنوده. وكذلك حافظ الأمير عز الدين على علاقات جيدة وطيبة مع المماليك في مصر أكبر دولة أسلامية في ذلك الوقت, وذلك لتعزيزالجبهة وتوحيد الصفوف ضد الخطر المغولي (ربما ساعد الأرث الأيوبي في مصر على هذا التقارب, ربما).

مير بدرخان بن مصطفى العزيزي

يعتبرمير بدرخان آخر أمير كردي لآخر إمارة كردية بالمفهوم القانوني للإمارة. كان الأمير بدرخان شخصية قيادية من الطراز الأول, أذ جمع بين خصال السياسي المخضرم والمحارب الشجاع, حيث قال عنه الدبلوماسي البريطاني-الأرمني أرشاك أرسيان, بأنه من ” من أشجع المحاربين و من أكثر رجال السلطة حكمة وبصيرة”. قام المير بدرخان بالكثير من الأمور والأصلاحات الأقتصادية و العسكرية و الأدارية  لتقوية وتثبيت أركان إمارته, و كان معجبا بتجربة محمد علي باشا في مصر في تنظيم أمور الحكم. لقد عمل جاهدا على بلورة مشروع سياسي كردي مستقل يشمل أكبر عدد ممكن من الزعمات الكردية. قام الأميرالأخير, بتأسيس مصنع للذخيرة في مدينة جزيرا بوطا, و كذلك دارا لصناعة السفن في بحيرة وان للحصول على أستقلالية أكثر؛ كذلك بعث الطلبة الأكراد الى أوروبا ضمن بعثات علمية لتطوير الأمارة من كافة النواحي. و في المجال السياسي, رفض الأميرالأنضمام للقوات العثمانية خلال فترة الحرب الروسية -العثمانية (1828-1829), كما رفض الولاء للسلطان العثماني آنذاك. على أية حال, الخوض في تاريخ الحركة البدرخانية التحررية (1842-1847), طويل وشيق, ولا تسع صفحات هذا المقال لتفاصيل أكثر. أغلب الظن أن الأمير بدرخان كان مطلعا على كتاب الأمير لمكيافيلي (1469-1527), وكتاب شاهنامه (سيرة الملوك), للفردوسي ( 932-1020), ليتسنى له معرفة أكثر بخبايا وخفايا السياسة و أمور الحكم.

ولكن الأمير بعد حروبه المتتالية مع العثمانيين, أستسلم لقائد القوات العثمانية وأرسل الى أستبول فأستقبلة السلطان بحفاوة و في النهاية سمح له ولعائلته و أتباعة بالسفر و الأستقرار في قبرص. وفي قبرص كان للأمير بدرخان دورهام في أنهاء التمرد القبرصي المدعوم من قبل اليونان وبريطانيا ضد السلطات العثمانية فأكرمه السلطان بلقب أمير الأمراء (مير ميران), في عام 1866, وبعد ذلك سمح له ولعائلتة وأتباعه بالسفرالى الشام/دمشق- أقدم مدينة مأهولة في العالم. دمشق, حيث جبل قاسيون الأشم يحتضنها, والغوطة الخضراء تعانقها, وبردى بروافده يرويها وأريج ياسميناها الشامي تفوح عبقا في كل حد وصوب. وظل أميرنا العزيز في دمشق الشام الى أن أنتقل الى جوار ربه عام 1870, ودفن في مقبرة الصالحية, حيث يرقد بطل حطين, وصانع أمجاد التاريخ الإسلامي, صلاح الدين الأيوبي. وكذلك بجوارالعلامة محمد سعيد رمضان البوطي (الذي يرجع نسبه الى جزيرا بوطا), خيرة علماء الديار الشامية. وهكذا تكون مقبرة الصالحية, مقبرة عزيزة على القلوب, غنية عن التعريف, تتجلى على عتباتها معاني الأيمان والأجلال والحب الحقيقي.

 

 

جوانب حضارية لأمارة الجزيرة

حتما, إمارة ممتدة على مدى قرون, لابد أن يكون لها انتاج حضاري. ولا نستطيع الألمام بجميع الجوانب الحضارية للإمارة, ولكننا سنقتصر بانها كانت موطن العلامة المؤرخ ابن الأثيرالجزري (1160-1233), صاحب كتاب الكامل في التاريخ الذي يعد من أمهات الكتب في التاريخ الإسلامي العام. وكذلك الأديب والشاعر الكردي الكبيرالملا أحمد الجزري (1570-1640), صاحب الملحمة الأدبية الشهيرة مم وزين, وكذالك من معالمها الحضارية العمرانية المدرسة القرمزية (مدرسا صور-مدرسة دينية) التي يعود بنائها للعام 1350 ميلادية تقريبا.

كلمة للتاريخ

كان لسقوط الإمارة أسباب داخلية وخارجية كباقي التجارب التاريخية الأخرى التي تحدث في بقاع مختلفة من العالم. وهذا الأسباب كما تفسرها المدارس التاريخية الحالية وخاصة الغربية (ألمانية-فرنسية بالدرجة الأولى), ترجع الى عوامل مادية وسياسية وأقتصادية وأجتماعية…الخ و هذا صحيح الى حد بعيد, ويفهم منها كأسباب دنيوية لعوامل القيام والسقوط. ألا أن التفسير الإسلامي لمجرى أحداث التاريخ, بالأضافة للعوامل الدينيوية, تتبع سنن الله في الكون. أن فلسفة التفسير الإسلامي للتاريخ,  تستند الى الآية الكريمة: “وتلك الأيام نداولها بين الناس…”. آل عمران. الآية: 140.

أذا, الأسباب الدنيوية وحدها أذا ما أجتمعت لا تؤدي بالضرورة الى قيم حدث ما. خذ مثلا الثورة الشيوعية في الأتحاد السوفييتي. لقد هيأ ماركس وأنجلس معتمدين على فلسفة هيجل, مجتمع العمال (الطبقة العاملة), في ألمانيا و أنكلترا أبان الثورة الصناعية و ما أحدثته و أوجدته من صعوبات وتحديات لطبقة العمال وصغار الكسبة, للتنظيم العمالي النقابي للمطالبة بالخدمات الأجتماعية والضمان الأجتماعي والمساوة, وبالتالي القيام بثورة مجتمعية لذلك الغرض. ألا أن من قام بالثورة (1917), في حقيقة الأمر,  كانوا الفلاحين السوفييت البسطاء الغير منظمين في أي تنظيم نقابي والذين لم يكن لديهم فكر نقابي منظم كالعمال الألمان والأنكليز. ولو كان ماركس و أنجلس أحياء وقت قيام ثورة المنجلة والحصادة البدائية, لأصيبوا بالدهشة حقا لما آلت اليه الأمور. وهكذا, تهيئة الظروف المناسبة لحدث ما ليس ضمانة بأنه سيقوم وينجح.

قصارى القول, إمارة بوطان وتاريخها العريق المتجزر, تستحق بحق بأن تكون درة مرصعة على تاج الإمارات الكردية, وجوهرة نفيسة تستحق الحفاظ على تاريخها المشرق العابرلأزمنة التاريخ المختلفة من خلال أجراء المزيد من الدراسات المتجددة عنها.

 

 

One Comment on “إمارة بوطان..جوهرة الإمارات الكردية – د. قبات شيخ نواف الجافي”

  1. (…. أكثر رجال السلطة حكمة وبصيرة”. قام المير بدرخان بالكثير من الأمور والأصلاحات الأقتصادية و العسكرية و الأدارية لتقوية وتثبيت أركان إمارته, و كان معجبا بتجربة محمد علي باشا في مصر في تنظيم أمور الحكم. ……)

    وأنا أعتقد العكس.
    ولماذا حارب علي باشا إلى جانب العصمانيين ؟ ولماذا وقف بشدة ضد ميري كورة إلى جانب السلطان وهو يحارب الكورد, هو وغيره من الذيول الكورد ( زعماء العشائر) قدموا عريضة تأييد السلطان مطالبين بإبادة محمد الراوندوزي الذي كان يقود ثورة كوردية أستقلالية مقتدياً بمحمد على , لكن جميع الكورد وقفوا منه بالضد , حتى صب جام غضبه على الئيزديين بسبب فشله لوقوف الكورد ضده
    أما قدم الإمارة منذ عهد الأخمينيين , فذلك كان نظام الحكم الشاهنشاهي ( فيدرالية الممالك ) ملوكي طوائف هكذا كانت الأنظمة الفارسية كلها حتى الغزو الإسلامي ملك الملوك يحكم الملوك الأقليميين وهم بدورهم يحكمون خلال الأختيارات المحلية الذي يسمى الآن بالمختار وشكراً
    بلك يعني الأبقع/ بقع ألوان / ملون

Comments are closed.