كتاب يعيد تصوراتنا عن تاريخ وجذور الديانة الإيزيدية – مصطفى معي

كتاب (الإيزيدية محاولة للبحث عن الجذور) الذي حمل عنوانا فرعياً مكملاً ـ رحلة في أعماق التاريخ ـ للباحث صباح كنجي، الذي صدر مؤخراً عن دار طهران، وتم توزيعه في العراق وأوربا، بتسع فصول و400 صفحة من القطع الكبير، مدعوماً بالصور والوثائق الأركيولوجية، يمكن اعتباره من أهم الكتب الحديثة، التي تناولت الديانة الايزيدية، بهذا العمق التاريخي، وبأسلوب سلس وشيق، كما عودنا الكاتب من خلال أسلوبه في الكتابة..

لما فيه من معلومات مهمة ونادرة جرى رصدها، من خلال المكتشفات الأثرية في العراق وسوريا، لم يجري الانتباه اليها من قبل الكتاب والباحثين والمؤرخين بدقة، وجرى اهمالها ولم تلقي الاهتمام المطلوب لعدة أسباب ومبررات كما يوضح الباحث في متن كتابه.

الا انها استوقفته، وبدأ يتابع الكثير من تفاصيلها، على امتداد ربع قرن من الزمن، من خلال متابعة المكتشفات والتنقيبات، التي تحصل هنا وهناك، التي جلبت انتباهه ودفعته ليبحث في شأن هذه الديانة التي كتب عنها الكثير من المغالطات، وجرى تشويه معالمها، ومطاردة اتباعها في عصور مختلفة.

 بالإضافة الى توقفه عند حدود اللغة والعادات والطقوس، وامتدادها التاريخي الى العهد السومري.. كما يوضح بالأدلة من خلال اكتشاف (8) معابد للإيزيد او إيزيدا في بابل وايساكيلا ونينوى وآشور والنمرود والحضر وخورسيباد.

مع وجود هذه المعابد لليوم في عدة قرى ومدن ايزيدية، في سهل نينوى وسنجار وباعذرة ودوغات وختارة وبوزان والنفيرية وخوشابا. بالإضافة الى معبدهم الرئيسي في لالش وكذلك في بلدان أخرى كـ أرمينيا وجورجيا.

التي تشكل معلماً من معالم التاريخ المغيب، الذي يدفعنا كقراء ومتابعين لتاريخ الأديان في العراق، لإعادة النظر بجذور هذا الدين وامتداده في تربة الرافدين، وهو امر ينبغي ان يلتفت اليه المنقبون والمؤرخون ليعيدوا حساباتهم في هذا المجال.

خاصة وان الباحث لم يكتفي بهذا القدر من المعلومات، وواصل في بقية فصوله من خلال علم الفيولوجيا تتبع المفردات والكلمات المشتركة، بما فيها المفردات الميثولوجية، كاسم الإله (الباتشا) في عدة أديان ولغات لشعوب وقبائل في بلاد الرافدين والعالم.

كما انه توقف عند المرادفات والتسميات، التي كانت متداولة في الحضر واستمرار وجودها في لغة بحزاني وبعشيقة، التي نقل عنها وفقاً لما جاء في كتاب الدكتور نائل حنون (حقيقة السومريين) انها كانت محافظة في العهود السابقة للميلاد.

بالإضافة الى ما دونه عن سنجار وتاريخها المغيب، وما مرّ بها من احداث ومعارك بحكم تحولها الى ساحة حرب وقتال تتنازع عليها الامبراطورية الرومانية والامبراطورية الفارسية، واسفرت عن اسر وسبي العديد من أبناء سنجار وابعادهم الى بلاد فارس، ومن ثم عودتهم بعد حين من الزمن.

هذه العودة المحملة بالمفردات الفارسية في لغة اهل سنجار من الايزيديين المعاصرين، التي رصدها الباحث بانتباه، وتعتبر مكملة لجهده الذي لم يتوقف عند هذه الحدود، وقدم لنا من خلال كتابه ما يمكن وصفه بلا تردد المزيد من (المفاجآت البحثية) المهمة، حينما ترجم من الأدب الشفاهي الايزيدي اسطورة (مير مح) وقارنها بملحمة كلكامش، بأسلوب مشوق ولغة فلسفة تبحث عن المصير والخلود، تتقفى وقائع الموت والفناء، من خلال أسئلة وحوار دار بين المير مح واقرانه، وجولته للبحث عن الخلود كما فعل كلكامش ومن ثم عودته.

هذه الأسطورة التي نبهنا الباحث كنجي اليها، تتطلب من الجامعات والمعاهد المختصة في العراق وكردستان، بذل المزيد من الجهود لتدوينها وترجمتها، لأنها معلم من معالم الأدب الشفاهي الراقي، الذي يعود بنا للبدايات.

بداية الأسئلة.. وبداية الأجوبة الميثولوجية، التي ارتبطت بها المفاهيم الدينية، وعكست ارهاصات التفكير التي شغلت البشر في تلك العهود المبكرة من بناء الحضارة، وانتقال الانسان من مرحلة الصيد والقنص والرعي، التي كانت تفرض عليه الانتقال والحركة، الى مرحلة الزراعة والتشبث بالأرض وتعلم الكتابة والتدوين.

كذلك توقف الكاتب في فصل آخر جميل من البحث، عند الموسيقى في الديانة الإيزيدية، وقارن بينها وبين الموسيقى السومرية من عدة أوجه، بدأت بالمشتركات اللغوية، وتسمية العازفين، وشعائر الدفن. دفن الموتى على أنغام الموسيقى لدى الايزيديين لليوم، وامتداد هذه الطقوس الى العهد السومري، مستشهداً بما ورد في الكتب المتخصصة، منها كتابات وبحوث الدكتور فاضل عبد الواحد في هذا الشأن، وتمكن الباحث كنجي من اقناعنا بهذا التواصل التاريخي، من خلال هذا الفصل المهم عن الموسيقى في الديانة الايزيدية، الذي من الضروري الانتباه له من قبل المعاهد والأكاديميات المتخصصة بالفن والموسيقى وتوسيع نطاق البحث في هذا المجال.

ليس هذا كل ما في الكتاب.

لقد خصص الباحث فصلا مشوقاً بعنوان (التواجد التاريخي للإيزيديين في سوريا)، لا يقل اهمية ومتعة عما ورد في الكتاب من معلومات تاريخية عن بلاد الرافدين، وذكر عدة مواقع ومحافظات تتواجد فيها المعالم الآثارية، بالإضافة الى التواجد الايزيدي فيها، كتسمية قرية الاكراد الداسنية في مناطق حمص وحماه، او مناطق عفرين وجبل ليلون، الذي تم تهجير الايزيديين من قراهم الحدودية، وتحويل معابدهم الى جوامع من قبل الجيش والقوات التركية، التي دعمت الفصائل الإسلامية المتطرفة وسيطرت على هذه المناطق.

اما الوثائق السريانية التي اعتمدها الباحث، فقد منحتنا معلومات جديدة ومهمة عن الايزيدية او الداسنية كما كانت تسمى في اللغة السريانية، ومناطق انتشارهم في العقود الأربعة الأولى بعد الميلاد، من خلال الاحداث التي مرت على المسيحيين، والنزاعات بين الطوائف والكتل المسيحية في مناطق مختلفة وفقاً لمحاضر اجتماعات الجاثليق ـ المجمع المسيحي عن داسن العليا وداسن السفلى، وكذلك عن بحزاني وبعشيقة ودير مار متي، التي شهدت هي الأخرى صفحات صراع وعنف دامي بين المسيحيين المتواجدين بجوار الايزيديين ـ الداسنيين في تلك العهود الدامية.

هناك الكثير مما يمكن قوله عن هذا الإصدار القيم والمهم، الذي أعاد تصوراتنا وتقييمنا عن هذا الدين الذي كتبت عنه وعن اتباعه الكثير من المغالطات. لهذا أتوقع ان يكون هذا البحث منعطفاً في الكتابات التاريخية عن هذه الديانة، التي تمتد جذورها في أعماق التربة العراقية كما يتضح من خلال صفحات الكتاب.

ـــــــــــــــ 

مصطفى معي

28/4/2021