فی خضم التغییرات فی القیم و المشاعر و المواقف خلال عملیة التطور الإجتماعی السریع فی العصر الحدیث تعتبر القوی المسیطرة فی العالم المتحضر الذی یهیمن علی جمیع القوانین الدولیة والمۆسسات العالمیة السیاسیة منها و الإنسانیة و العلمیة بأن كل من یحمل السلاح حتی وإن كان ذلك حقا” مشروعا” من أجل الحریة والإستقلال ما هو إلا عنصر إرهابی لایجوز التفاهم معه أو حتی التفاوض مع مندوبیه إلا بعد تركه للسلاح وإن كان حمل السلاح هو الطریق الوحید الذی بقی فی یده للدفاع عن نفسه ضد سلطات الإحتلال أینما كانت، كما هو الحال بالنسبة للحركة التحرریة فی كوردستان. فالتفاوض السلمی مع القوی التحرریة لاتقبل به سلطات الإحتلال قبل أن تسلم تلك القوی سلاحها لهذه السلطات. وبذلك تستمر هذه السلطات فی إضطهاد الأبریاء وإتهامهم بالإرهاب، الأمر الذی یۆدی إلی إستمرار الكفاح المسلح ضد الإحتلال فیتولد حلزون العنف الذی بالنتیجة یضر الشعب المضطهد أكثر من سلطات الإحتلال.
و یحدثنا التأریخ عن بعض الحالات التی نجح فیها المبدأ المسالم فی قیادة الجماهیر نحو الإسقلال والخروج من سیطرة قوات الإحتلال الأجنبی وطردها من بلادها دون إستعمال السلاح، والمثال المشهور علی ذلك هو مبدأ اللاعنف الذی إستعمله “مهاتما غاندی” فی تحریر الهند من الإستعمار البریطانی دون حرب أو ثورة مسلحة (غاندی، ١٩٥٨). هذا ما حصل عشرات السنین قبل إیجاد لقب الإرهاب السئ الصیت من قبل الدول الغربیة المسیطرة علی دفة الحكم فی العالم الحدیث. إلی جانب ذلك أنتج التطور العلمی ظروفا” ملائمة لصالح النضال السلمی لم تكن متوفرة” سابقا”. فقد تواجدت في العقود الأخيرة نتائج ملموسة لنظریات تربویة معاصرة لتكوین شخصیة المقاومة (أوجلان، ٢٠١٧) وهی تلك الشخصیة التی تتسم بفهم الأمور والتمتع بمعانیها و السیطرة علی أمورها كما یصفها ارون أنتونوڤسكی فی نظریته حول منشأ الصحة (أنتونوڤسكی، ١٩٨٧) مما یجهز الفرد بالثقة بالنفس والإعتماد علی الذات والشعور بالمسۆلیة. وكذلك تحتم هذه الظروف والإمكانیات العلمیة والتقنیة الجدیدة مراقبة عالمیة وتواجد دولی آنی و مباشر عندما یحدث أی تعد أو تجاوز لحقوق الإنسان فی العالم. وهذا مایمكن الهیئات العالمیة المعنیة والمۆسسات القانونیة المتعلقة بحقوق الإنسان لتدوین الأحداث وتسجیل تفاصیلها ونشرها بسرعة صوتا” وصورة” یمكن إستعمالها لصالح النضال السلمی والمقاومة السلمیة ضد العنف والتدمیر والإعتداء.
أنا لا أعتبر المفاوضات المۆقتة وإتفاقات وقف إطلاق النار وبیانات الهدنة والمصالحة بین حركات التحرر وسلطات الإحتلال هی وسائل ناجحة لصالح تلك الحركات بل هی عبارة عن حالات هدنة آنیة و فرص تنفیس تتیح للطرفین المجال لتهیئة ظروف الحرب من جدید لیس إلا. لأن هذه الحالات تنتهی عادة لصالح الطرف الأقوی وهی سلطات الإحتلال طبعا. فقد كانت إتفاقیة ١١ آذار سنة ١٩٧٠ التی حصلت بین الحكومة العراقیة والثورة الكوردیة المسلحة خیر دلیل علی ذلك. ولی ذكریات شخصیة موثوقة كمسۆول عن منظمة لإتحاد طلبة كوردستان سرا فی بغداد قبل الإتفاقیة و علنا فی جامعة الموصل خلال سنوات الهدنة (١٩٧٠ – ١٩٧٤) التی أسمیتها بفترة “العصر الذهبی”. تبین هذه الوثائق ،الغیر منشورة لحد الآن، كیف بدأت الهدنة وكیف إنتهت. فلم تكن أطراف الاتفاق جادة فی خطواتها لتنفیذ بنود الإتفاق. بل كان حالها حال جمیع هكذا إتفاقات أنها أتت لكی تساعد الطرفین علی لم شملها وتقویة إستعداداتها للإستمرار فی الحرب ولیس لإنهائها. ولكن السۆال العلمی الذی یفرض نفسه حالیا والذی یحتاج إلی وسائل علمیة للإجابة علیه هو:
- كیف یمكن للحركة التحرریة فی كوردستان الإستفادة من تأریخها القدیم والحدیث لإیجاد وسائل سلمیة لمقاومة الإحتلال والدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الكوردی بأقل خسارة ممكنة؟
یمكن الإجابة علی هذا السۆال بعیدا عن السیاسة لكون السیاسة كعلم لیس من إختصاصی وكذلك لعدم ثقتی بسیاسة أحزاب كوردستان لسببین رئیسیین أولهما أن هذه الأحزاب مبنیة علی قواعد وأركان قدیمة و ثانیا لكونها مربوطة بأعداء الكورد وكوردستان. بل من الممكن والمستحسن أن نجاوب علی هدا السۆال بإجراء تحلیل نفسیإجتماعی متكون ببساطة و بإختصار من المعادلة النفسیإجتماعیة التالیة: عندما تتراكم المشاعر والعواطف السلبیة نتیجة للتعرض للتعدی والإضطهاد تصبح النفس “أمارة بالسوء”. وبما أن النفس تتكون من المشاعر والأفكار والسلوك التی ترتبط ببعضها البعض وتتفاعل وتۆثر علی بعضها البعض فتنتج المشاعر السلبیة أفكارا” سلبیة” تۆدی بدورها إلی سلوك سلبی هدام. وهذا ما یولد حلزون العنف عندما یتعرض الفرد للإضطهاد والتعذیب أو التهدید والوعید. یمكن فك هذا الحلزون الهدام إذا تعرف الفرد علی هذه المعادلة و فهم ملابساتها و تمكن من السیطرة علیها لتحویلها إلی معادلة إیجابیة بناءة وذلك بتغییر الأفكار السلبیة إلی أفكار إیجابیة و السلوك الهدام إلی سلوك بناء، خاصة إذا كان الفرد مجهزا بشخصیة سلیمة مبنیة علی الأسس والقواعد التربویة المذكورة أعلاه كما یجری فی بیت متین الصحی (ساخلهمخانا مهتین Saxlemxana Metin) لبناء شخصیة سلیمة للطفل منذ تكوینه حتی بلوغه سن الرشد. وبما أن المجتمع بطبیعته یتكون من الأفراد الذین یقلدون بعضهم البعض، خاصة فی المجتمعات الجماعیة كالمجتمع الكوردستانی، فتكون النتیجة الحتمیة لسلوك الفرد أن المجتمع المحیط به یقتدی بهذا السلوك بصورة عفویة فیقلده فی ذلك. وإذا نظرنا إلی النتائج التی ترتبت علی المجتمع الكوردستانی منذ تعرضه للتقسیم تحت ظل الإحتلال لحد الآن نجد بسهولة كیفیة تولد حلزون العنف كنتیجة طبیعیة لعدوان سلطات الإحتلال. فالكفاح المسلح یبقی أسلوبا تقلیدیا ناتجا عن العنف المفروض من قبل سلطات الإحتلال علی الشعب المضطهد. وعندما یرد الشعب بالعنف علی العنف كرد فعل طبیعی وفق هذه المعادلة النفسیة یتضرر الشعب من نتائج العنف أكثر من سلطات الإحتلال. و تغییر هذا الأسلوب من العنف إلی السلم ممكن وفقا للمعادلة النفسیإجتماعیة المذكورة هنا والتی أثبت مبدأ اللاعنف نجاحها سابقا.
جمیع الحجج التی تستعملها سلطات الإحتلال فی تطبیق العنف ضد الشعب المضطهد تعتمد علی مبرر مكافحة الإرهاب، و لو أنها فی معظم الأحیان عبارة عن مبررات واهیة وتلفیقات كاذبة ولكنها حجج مقبولة من قبل المجتمع الدولی وفق قوانین مكافحة الإرهاب وحق الدول فی الدفاع عن أمنها القومی. فعملیة حمل السلاح للدفاع عن النفس تحمل شرعیتها سلطات الإحتلال و لا تشمل الحركات التحرریة مهما كان ذلك حقا مشروعا لها وفق قوانین حریة الفرد و حقوق الإنسان، وذلك بسبب تمسك سلطات الإحتلال بزمام الأمور فی دولة الإحتلال بینما لا یحصد منها الشعب غیر الكوارث والتدمیر. وبعكس ذلك ینال الشعب المسالم عادة التعاطف والتضامن من المجتمع الدولی إذا لزم بالمقاومة السلمیة ضد الإحتلال دون إستعمال العنف، بالإضافة إلی تجنب الخسائر فی الأرواح والممتلكات التی هی فی الأصل ثروة الشعب ولیست ملكا لسلطات الإحتلال. كما أن المقاومة السلمیة التی تعبر عن إستنكارها للعدوان، عن طریق المظاهرات والإعتصامات والإضراب والعصیان المدنی…الخ، تجرد سلطات الإحتلال من جبروتها و قوتها المتفوقة علی الإمكانیات الشعبیة، فلا یمكن لسلطات الإحتلال أن تستعمل ماكنتها القتالیة ضد أشخاص مسالمین دون أن تثیر إشمئزاز العالم و تجلب نقمته علیها، فی الوقت الذی یمیل العالم إلی التعرف علی ظروف الإحتلال و تأیید حقوق الشعب ضد عدوان الإحتلال فیحصل الشعب علی حریاته وإستقلاله وجمیع حقوقه بأقل خسارة وبأسرع وقت.
المصادر:
١- غاندی م. تجربتی مع الحقیقة (مجموعة أعمال مهاتما غاندی باللغة الإنگلیزیة). وزارة الإعلام . نیودلهی. ١٩٥٨.
٢- أوجلان ع. مسألة الشخصیة فی كوردستان (ترجمة باللغة العربیة). دار شلير للنشر والطباعة. قامشلو ٢٠١٧.
٣- أنتونوڤسكی أ. الكشف عن لغز الصحة (باللغة الإنگلیزیة). یوسی – باس إنك. سان فرانسیسكو ١٩٨٧.