عدم احترام الحكّام العقد المعنوي الذي أبرموه مع شعوبهم وغلق كل أبواب الحوار والإعتراض وقمع المعارضة السلمية بالطرق المشروعة هو الذي يفجر الأوضاع ويحوّل الهدوء والاستقرار إلى بركان سياسي عنيف، والخروج على السلطة يعتبره البعض تمردًا وعصيانا لا يمكن أن تنصّ عليه الدساتير ولا أن تؤيّده الأنظمة القائمة رغم أنه هو الأمر الواقع الذي لا يغفل عن دراسته المنظرون والمفكرون وهم في ذلك بين مؤيد ومعارض, وفساد الحكام والحكومات هو مبرر الثورة والخروج عن الطاعة قصد التغيير بعنف. عادت شرعية الثورة والمقاومة ضد الحكام الطغاة في الفكر الأوروبي، بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية و إشراف الكنيسة على مراقبة الأمراء وإمكانية خلع السلطة من الحاكم إذا تعسَّف، وبهذا تطورت فكرة المقاومة للحكام في الفكر الكنسي من تحريمها مطلقاً أيام الحكم الاستبدادي الثيوقراطي إلى جواز مراقبة الكنيسة للحكام إذا أساءوا استعمال السلطة وخالفوا تعاليمها، وهكذا أصبح للبابا حق مراقبة ومقاومة وتزكية الأمراء وله كذلك أن يحلل الأفراد من واجب الولاء للأمراء فيجيز لهم العصيان والتمرد. والدساتير المعاصرة على قاعدة واحدة مطردة وهي إغفال النص على حق الشعوب في المقاومة ولم يشذ منها إلاّ دساتير أمريكا الشمالية التي نصت في ديباجتها على أن الحكومات إذا انحرفت كان للشعب أن يعدلها ويلغيها ويقيم حكومة جديدة، وكذلك إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي أقرَّته الجمعية الوطنية في 27 أغسطس 1789 م إثر الثورة الفرنسية فنصت المادة الثالثة على أن حق المقاومة يعتبر أحد الحقوق الطبيعية للإنسان والتي يتحتم على الحكومات صيانتها له، ولكن هذا النص على حق المقاومة في الدساتير سرعان ما حذف من الدساتير الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية. كان المجرم السياسي في المجتمعات القديمة ينظر إليه على أنه أخطر المجرمين ،وكانت عقوبته غاية في القسوة حتى يكون عبرة لغيره لأنهم كانوا يصورونه على أنه عدو الشعب والدولة وكان عقابه (في روما القديمة مثلا ) الموت بحرمانه من الماء أولا ثم إحراقه بالنار ، وطبعا بعد مصادرة كل أمواله ولصق العار بأسرته إلى الأبد. وفي العصور الوسطى كان الإجرام السياسي معاقبا عليه بشراسة وهمجية عجيبة ، والسبب في ذلك ، أن الدكتاتور وطبيعته الاستبدادية لا تمكنه أن يتحمل فكرة أن هناك من ينازعه السلطان أو يعترض على طريقة حكمه أو يطالب بتغييرها أو تغييره.. فالجريمة بشكل عام موجودة على صعيد الواقع الإجتماعي عبر تاريخ البشرية ، وقلَّما يخلو مجتمع من وجود جرائم مختلفة تتباين فيها الأهداف والنوايا ، وقد تطورت أساليب المجرمين عبر العصور البشرية حتى غدت الجريمة فنَّاً متقناً يستطيع المجرم أن يحقق غايته من خلالها ، وقد أفضى تطور الأعمال الجرمية إلى تطور العقوبات التي تفرض عليها وتدرجت العقوبات قسوة وشدة وأصبح العذاب لمن يقومون بهذه الجرائم يختلف حسب نوع الجريمة وحسب ماهيتها , غير أن أهمية تقسيم الجرائم إلى سياسية وعادية تكمن بالأساس من حيث الامتيازات التي ينفرد بها المجرم السياسي في القانون الجنائي الحديث عن المجرم العادي، باعتبار هذا الأخير “المجرم السياسي” ليس كغيره من المجرمين تدفعه الأنانية والأثرة إلى ارتكاب الجريمة، أو تحركه المنافع الشخصية فتدفعه إلى الإجرام بل إنه في الغالب شخص ذو عقيدة. الجريمة السياسية قديمة قدم التنظيمات السياسية، ولكن تحديد مفهومها صعب جدا ومازال محل جدال طويل بين السياسة و الفقه والقضاء وصعوبة التحديد هذه تكمن في علاقة هذه الجريمة بالسياسة والحكم، وإضفاء الصبغة السياسية عليها . وبما أن السياسة مصالح وآراء وهذه المصالح والآراء تختلف من حاكم الى آخر فمفهوم الإجرام السياسي كذلك يختلف من نظام سياسي الى اخر. ويترتب على تحديد مفهوم الجريمة السياسية نتائج وأحكام خطيرة في تعامل السلطة والقضاء مع المجرم السياسي. إن وصف الإجرام بالسياسي غير متفق عليه بل يختلف اختلافا كبيرا بحسب الظروف المكانية والزمانية والشعوب والنظم السياسية التي تحكمها . وأشهر ما قيل في تعريف الجريمة السياسية أنها الفعل الذي يرتكب ضد الدولة بدافع سياسي. فالجريمة السياسية إذن هي التي تقع انتاهاكا للنظام السياسي للدولة كشكل الدولة ونظامها السياسي والحقوق السياسية للأفراد. أو هي الجرائم التي تكون موجهة مباشرة ضد الدولة باعتبارها هيئة سياسية وبعبارة أخرى هي الجرائم التي تكون موجهة ضد التنظيم السياسي للدولة. تتميز الجريمة السياسية بأن الباعث على ارتكابها باعث سياسي, والغرض من اقترافها أيضًا سياسي. الجريمة السياسية كذلك الحق المعتدى عليه فيها أيضا سياسي, والجرائم السياسية تقع على الحقوق السياسية العامة أو الفردية.
وعليه يمكننا القول بأن كل جريمة ترتكب بدافع سياسي أو لغاية سياسية متجرِدة عن الأنانية، تعتبر جريمة سياسية، وتتمثل في التصنيفات: مثل الاعتداء على رجال الدولة، أو أصحاب السلك الدبلوما سي، أو قادة الفكر السياسي، أو أفراد، أو جماعات بسبب ما يحملون من رأي سياسي. ولذلك ، فإن الاتجاه العالمي مستقر على استثناء عقوبة الإعدام في الجرائم السياسية أي عدم تطبيقها على المجرمين السياسيين ، وكذلك عدم تعريضهم للعقوبات التي تترافق مع أشغال شاقة أو الحبس مع الشغل في السجون ، فهم يحبسون فقط دون أن يشتغلوا ، كما أن المجرمين السياسيين يشملهم العفو أكثر من غيرهم ( في الدول الديمقراطية طبعا ) وكذلك فإن أكثر التشريعات تمنع تسليم المجرمين السياسيين. وإذا كانت الدول المتقدمة التي عانت من الإجرام السياسي قديما، وتعاملت معه بقسوة وشدة قد تداركت هذا الخلل السياسي والقانوني منذ النهضة الأوربية، وخصوصا بعد الثورة الفرنسية، حيث اضطر المشرع الأوروبي أمام كثرة الثورات، وبفضل جهود الفلاسفة والفقهاء، فاعترف بوجود الجريمة السياسية، التي تختلف عن الجريمة العادية، فوضع لها نصوصا خاصة وعقوبات متميزة معتبرا أن المجرم السياسي رجل نبيل، وفاضل ذو أخلاق ومبادئ يناضل من أجلها ويضحي بمصلحته الخاصة من اجل مصلحة وطنه وشعبه حتى وإن أخطأ في الوسائل وأحرق المراحل، واستعجل النتائج، فالمجرم السياسي قد يصبح حاكماً في المستقبل، ولعل أغلب المصلحين والمجددين والزعماء والقادة في العالم كانوا مجرمين سياسيين، في نظر الحكم القائم في عهدهم وقد تمكنت الدول الأوروبية من الخروج من هذه المعضلة السياسية والقانونية، بتعديل دساتيرها وقوانينها الوضعية. وعلى العموم فإن الأفعال الجرمية ذات الطبيعة السياسية تبقى في جل دول العالم أفعالاً مخالفة للقانون تستوجب فرض عقوبات على مرتكبيها مهما كانت طبيعة النظام السياسي لكل دولة، وسواءً كانت تشريعاتها الجنائية تفرّق في نصوص قانونها بين الجرائم السياسية والجرائم العادية بصورة صريحة أو تكتفي بالإشارة إليها بصورة عرضية أو تلك التي لا تميز في قوانينها بين الجريمة السياسية والجريمة العادية. ومجمل القول إن رجال السلطة كثيرا ما يتعسّفون في استعمالها ضد شعوبهم، وتجميع السلطة في يد حاكم واحد هو أقرب إلى الاستبداد بينما توزيعها وفق مبدأ الفصل بين السلطات هو أكثر ضمانة للعدل وضمان حرية وحقوق الأفراد. كما أن فسح المجال للتعددية السياسية هو ضمانة أخرى للمعارضة السلمية العلنية فتكون بعض الأحزاب حاكمة بالأغلبية أو بالائتلاف وتبقى الأحزاب الأخرى في المعارضة والرقابة وقد يحدث بينها التداول على السلطة بالانتخابات النزيهة. والمعارضة هي ضمانة ضد إستبداد الحكّام وتجاوز القانون فالمعارضة هي حامية الحقوق العامة والحريات الفردية ضد تسلط الحكومات. وبانسداد الطريق أمام المعارضة السلمية تنفجر الأوضاع إلى إستخدام القوة التي هي وسيلة الدفاع العليا والأخيرة للشعب ضد جور الحكام. غير أننا نلاحظ أن هناك صعوبة وخطورة كبيرة في استخدام العنف ضد ظلم الحكام والثورة عليهم فقد يؤدي ذلك إلى الفوضى أو الحرب الأهلية. وتتمثل صعوبة ذلك بداية بإثبات ظلم الحكام وجورهم فمن هو المسؤول على إثبات ذلك لأنَّ أفرادالشعب قد يختلفون في تقييم تصرفات الحكام. ورغم أن هذا الدور موكول إلى السلطة القضائية إلا أن وقوعها تحت سيطرة الحكام أو عرقلتها بالإجراءات والعراقيل الإدارية والقانونية يكبّلها ويجعلها أداة لتثبيت وإقرار ظلم وتعسف الحكام بأحكام قضائية أكثر جورا. وفي هذه الأحوال قد تتحول المقاومة العنيفة إلى اضطرا بات متواصلة توصل البلاد إلى الدمار وتعرّض البلاد والعباد للمجازر والدماء والتصفيات الجسدية للشخصيات الفاعلة.