قد تبدو صورة التحول في استخدام الدولة لامتيازاتها السلطوية غير واضحة من خلال المؤسسات الاقتصادية أو المنظمات المهنية، لأنه ليس من السهل أن نعتبر بأن المفهوم تغيَّر بمجرد أن المُشرِّع أخضع قرارات هذه الهيئات لرقابة القضاء الإداري، لكن الصورة تبدو أوضح من خلال سلطات الضبط التي قد تكون أحياناً غير إدارية أو ذات طبيعة مشكوك فيها، ورغم ذلك يصدر عنها قرارات إنفرادية أو تنظيمية ذات طبيعة إدارية.
إن ظهور الأزمة المتعلقة بمفهوم المرفق العام كمعيار لتطبيق القانون الإداري ساهم في ما أصبح يعرف بأزمة نمو القانون الإداري الناشئة عن تحول في المعطيات الجديدة القائمة على وضع البيئة القانونية الجديدة للقانون الإداري الذي أصبح في حالة تغير، فالقانون الإداري تجاوز الإطار الإداري البحت. و هذا بسبب تنامي الهيئات غير العمومية أو أشخاص القانون الخاص التي تتمتع بامتيازات السلطة العامة. هذا التنامي الذي ساهم في تراجع دور الدولة في القيام بالعديد من وظائفها الأساسية الذي كان بفعل معطيات، جانب منها محلي و الجانب الآخر دولي، وذلك بفعل التحولات التي يشهدها العالم في القطاع الاقتصادي وانفتاحه على اقتصاد السوق. فالتحولات الاقتصادية ساهمت بشكل كبير في تنامي الهيئات الخاصة التي تضطلع بمهام ذات مصلحة عامة في مختلف القطاعات، خاصة بعد إصدار قوانين جديدة ذات بعد قطاعي كوسيلة لتمديد نطاق الخصخصة إلى القطاعات غير التنافسية، منها قطاع البريد و المواصلات، الكهرباء، المحروقات، المياه، و غيرها. أن الحالة الانحرافية للأداء الاقتصادي ساهمت بشكل معتبر في إعادة النظر في أسلوب استخدام الدولة لامتيازاتها السلطوية.فالسياسة الجديدة التي جاءت في سياق الخصخصة ,والعولمة تقتضي إعادة النظر في دور الدولة من خلال تكريس مباديء جديدة تتماشى والمعطيات العالمية الحديثة، خاصة فيما يتعلق بإزالة الاحتكارات العمومية وإزالة التنظيم و ذلك كنتيجة للتحرير الاقتصادي التي تقتضي تفكيك القيود التنظيمية. لا يمكن لنا أن نعطي قائمة محددة لامتيازات السلطة العامة كما أن النماذج التي يمكن الاعتماد أو الاستناد عليها في بعض القوانين ليست كثيرة بالقدر الذي هو عليه في الأنظمة القانونية المقارنة لاسيما النظام القانوني الفرنسي.
ولقد اختلفت الآرا ء الفقهية حول الطبيعة القانونية للنقابات المهنية فالبعض اعتبرها أشخاص معنوية خاصة مكلَّفة بتسيير مرفق عمومي وتتمتع بامتيازات السلطة العامة. ومن بين هؤلاء الفقهاء الأستاذ محمد الأعرج حيث أكد على أن الهيئات المهنية تعد أشخاص معنوية مكلفة بتسيير مرفق عام وتتمتع بامتيازات السلطة العامة ، كما تعد مرافق عامة من نوع جديد نظرا للسمات الخاصة بتلك الهيئات التي تميزها عن المؤسسات العامة فهي من جهة أولى أنشئت بمبادرة من السلطات العامة ومنظمة بقوانين تحدد تشكيلها واختصاصاتها وتسييرها وتقوم بدور مراقبة ممارسة المهنة. والبعض الآخر يعتبرها أشخاصا معنوية عامة, ومن بين هؤلاء الفقهاء الفقيه Eisenmann
ومحمد ماهر أبو العينين(1).وكذلك الأستاذ أبو زيد فهمي حيث اعتبر أن القانون قد أضفى على كافة هيئات التمثيل المهني شخصية معنوية مستقلة وخولها حقوقا من نوع ما تختص به الهيئات الإدارية العامة ، فخولها حق احتكار المهنة وقصرها على أعضائها دون سواهم كما خولها حق فرض رسوم مالية على صورة اشتراكات جبرية تحصل في مواعيد دورية ثم سلطة إصدار قرارات واجبة التنفيذ في شؤون أعضائها وتأديبهم وسلطة تشريع بوضع اللائحة الداخلية ولائحة تقاليد المهنة ، كما يدل على أنها قد جمعت بين مقومات المؤسسة العامة وعناصرها ، ومن ثم فهي شخص إداري من أشخاص القانون العام(2).
السعي لأن تكون لقوانين المنظمات المهنية قوة القانون العام امام القضاء والاجهزة التنفيذية ، وان تضمن السلطة العامة تنفيذ القرارات المتعلقة بها من دون اي تدخل في القرارات القضائية والاجراءات التنفيذية انطلاقـــــــاً من ان ( السلطـــة القضائيــة مستقلــة ) وان ( القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ،ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء او في شؤون العدالة ) كما نصــت على ذلك المـــادتان ( 84 ) والمادة ( 85 ) من دستور جمهورية العراق .
ان موضوع الوظيفة العامة ومقدار انطباقها على موظفي المنظمات المهنية يعد من اكثر موضوعات امتيازات السلطة العامة الممنوحة للمنظمات المهنية ابتعاداً عن التطبيق مع ان قوانين الخدمة المدنية وتعديلاتها وقانون انضباط موظفي الدولة قد تضمنت نصوصاً واضحة بشأن الموظفين في هذه المنظمات ومؤسسات القطاع العام عامةً. وبسبب ذلك فأن اغلب موظفي المنظمات المهنية هم في الاصل اما موظفون في دوائر حكومية ومنسَّبون للعمل في هذه المنظمات،او متعاقدون من دون ضمانات الوظيفة العامة وامتيازاتها فيما يتعلق بالرواتب والدرجات الوظيفية والحقوق التقاعدية وغيرها من تلك الامتيازات، بل انهم احياناً يتعرضون للعقوبات الانضباطية التي تنطبق على الموظف العام في الحكومة ودوائرها ومؤسساتها على الرغم من انهم محرومون من الامتيازات التي يتمتع بها الموظف العمومي .
ومن الامتيازات الادارية الاخرى التي تمنحها السلطة العامة للمنظمات المهنية امتياز احتكار ممارسة المهنة الذي بمقتضاه يكون لعضو المنظمة المهنية وحده حق احتكار ممارسة مهنة المنظمة ، اي لا يجوز لشخص اخر او عضو ينتمي الى منظمة اخرى غيرها ، ممارسة المهنة ذاتها ، فالاعضاء المنتمون للمنظمة المهنية لهم حق ممارسة المهنة وحدهم ولهم حق احتكار هذه الممارسة ، اي قصرها عليهم من دون الاخرين ، وهذا الامتياز يمنح للمنظمة المهنية ليعزز مكانتها ، وبهذا الشكل تكون المنظمة المهنية قادرة اكثر على ضبط نشاطها ، ومعاقبة المخالفين لقوانينها من الاعضاء ، لانه لو مارس اي شخص نشاط المنظمة من دون ان يكون منتمياً لها ، فان ذلك سيؤدي الى بعثرة جهود تلك المنظمة ، وستعجز بالنتيجة عن تنظيم وضبط نشاطها الخاص بالمهنة التي تمثلها. ان امتياز احتكار ممارسة المهنة هو ما يميز نقابات المهن عن النقابات العمالية ، وقد أُنشئت نقابات المهن بقوانين خاصة اوضحت اغراضها ، وبينت احكامها الاساسية ، وحددت الهيئات التي تقوم على ادارتها ، واختصاصات كل منهـا(3). ان احتكار المنظمات المهنية لامتياز ممارسة المهنة يخولها بتمثيل المهنة وتنظيمها ومراقبة القيد في جداولها وتأمين معاشات اعضائها ، اذ ان نقابات المهن تختص بتمثيل المهنة سواءً في مواجهة الدولة والهيئات العامة او الغير ، ولهذا تستطيع ان تطالب تلك السلطات بالاصلاحات التشريعية والادارية التي تراها ضرورية لتحسين سير المهنة والارتقاء بمستواها ، وتقوم ايضاً بتمثيل المصالح الادبية والمادية المتعلقة بالمهنة ، وان لها حق الادعاء المدني لدى القضاء بالنسبة للاضرار التي تصيب المصالح المهنية. وان الانتساب للنقابات المهنية في العراق يعد اختيارياً من حيث المبدأ الا انه ضروري ليتاح للشخص الطبيعي مزاولة المهنة التي تشرف على تنظيمها النقابة المعينة ، وان وجود تلك النقابات تخضع لتشريعات تتولى اجازة تكوينها وتحديد مهامها، وهذه التشريعات جعلت مهمة النقابات تقتصر على تنظيم العلاقة بين اعضائها ودوائر الدولة وحماية الحقوق التي اقرت لهم بموجب القوانين الوظيفية من دون ان تتعدى مهمتها الى المطالبة بمزايا اخرى او زيادة ما لهم من حقوق(4).
ان القوانين والانظمة التي أنشئت بموجبها تلك المنظمات قد منحتها جزءاً من امتيازات السلطة العامة بهدف تمكينها من اداء رسالتها وتحقيق اهدافها المهنية ، والعمل على حماية المهنة واعضائها ، وتنظيم علاقاتهم مع الدولة والمجتمـع. واذا كنّا قد لاحظنا تشابهاً يصل الى حد التطابق احياناً بين المواد والفقرات القانونية لمختلف المنظمات المهنية العراقية ومع غيرها من المنظمات العربية ايضاً ولاسيما في المواد المنظمة لامتياز احتكار المهنة فضلا عن الامتيازات الادارية الاخرى فأن ذلك مرده الى تشابه النظريات السياسية المتحكمة في طبيعة انظمة الحكم العربية مع بعض الاستثناءات القليلة في بعض البلدان العربية التي يمنع فيها اصلاً من تكوين او انشاء منظمات ونقابات واتحادات مهنية
امتياز اصدار قرارات ادارية يعد من امتيازات السلطة العامة الذي بمقتضاه تستطيع الادارة بارادتها المنفردة ان تُنشيء حقوقاً ، وان تفرض التزامات على المتعاقد معها ، وتستطيع بارادتها المنفردة تنفيذ الالتزامات. المشترطة او المفروضة لصالحها ، والشخص الذي يتقدم للتعاقد يلتزم بالبقاء على ايجابه حتى يتم ارساء المناقصة ، اما الادارة فلا ترتبط الا بعد اعتماد المناقصة بل قد لا ترتبط ابداً وتبقى حرة حتى بعد قبولها للعرض في العدول عن تنفيذ الاشغال العامة التي قدم العرض بهدف تنفيذها كما في عقد الاسهام في مشروع عام ، هذا الوضع يتضمن ما يسمى بشرط الاسد المحظور في العقود المدنية وذلك لانه يتضمن مبدأ المساواة بين المتعاقدين المقرر بوصفه مبدأ اساسيا من قواعد القانون الخاص لكنه يُعد شرطاً صحيحاً في العقود الادارية . وهذا الامتياز الممنوح للادارة تتمتع به المنظمات المهنية باعتبارها من اشخاص القانون العام ، اذ يتقرر لها سلطة اصدار القرارات التنفيذية التي تعطيها حق تعديل التزامات المتعاقد معها بارادتها المنفردة ويلتزم المتعاقد بالعقد المعدل . وبذلك فان المنظمات المهنية تتمتع بسلطة اصدار قرارات ادارية لها قوة كمواجهة المتعاقدين معها ويكون لها حق التنفيذ المباشر او العدول عنها بارادتها المنفردة . هذه القرارات الادارية ينبغي ان تصب في خدمة الاهداف المهنية العامة للمنظمة المهنية الاقتصادية منها والاجتماعية ، التي حددتها قوانين هذه المنظمة او تلك ، ذلك ان نقابات المهن والغرف المهنية تعتمد اسلوب اللامركزية في الادارة ، وهذا الاسلوب يستمد فاعليته من مبدأ الانتخابات التي ينتج عنها تخويل سلطة الادارة لهيئة منتخبة تعمل على تحقيق اهداف المنظمة المهنية باقصى درجة من الكفاية ، وبأقل تكلفة ممكنة في المواعيد المقررة ، لذلك فان تحقيق تلك الاهداف ، بهذا الاسلوب لابد ان يعتمد ادارة علمية ذات ثقافة مهنية ، وفهما كاملا لقانون المنظمة ، وامتيازاتها المستمدة من امتيازات السلطة العامة .
ويظهر أهمية التمييز مابين أشخاص القانون العام وأشخاص القانون الخاص وفي الحد الأدنى للهيئات التي تقع على هامش الإدارة التقليدية من عدة أوجه أهمها، ما يتعلق بالنظام القانوني الواجب التطبيق، فقواعد التنظيم المتعلقة بالأشخاص المعنوية العامة تخضع أساسا للقانون العام، وأموال المرافق العامة الإدارية تخضع لقواعد المحاسبة والمالية العموميتين ومصدرها (مع الإستثناءات المتعلقة بالمؤسسات العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري) الميزانية، و المستخدمين التابعين لأشخاص القانون(5) العام يخضعون لقواعد القانون العام وتخضع المنازعات المتعلقة بهم للقاضي البات في المواد الإدارية كما أن أشخاص القانون العام من الممكن أن تلجأ إلى التحكيم بعد إن كانت في ظل القانون القديم لا يجوز أما في ظل القانون الساري المفعول فانه يمكن أن تلجأ إلى التحكيم في الحالات الواردة في و في العلاقات الاتفاقيات الدولية الاقتصادية. ومن خلال تنامي ظاهرة تفويض أو تكليف الغير، أي أطراف أخرى غير الأشخاص المعنوية العامة للقيام بمهمة استتباب الأمن والمحافظة على النظام العام والتي تعتبر من الوظائف الأساسية للدولة من الصعب أن لا يفسر ذلك كبداية ، فهي تعتبر من المهام المندمجة اندماجا كليا بالشخصية القانونية للدولة، والتي لا يفترض تفويضها للغير.فمن دون شك أن وظيفة تحقيق الأمن هي من الوظائف الأساسية للدولة و المرتبطة بوجودها، فدور توفير الأمن يعتبر من صميم مهام الدولة التي لا يمكن أن تتخلى عنها. فترتكز سمة سيادة الدولة في احتكارها لاستخدام وسائل الإكراه. فتوفير الأمن من خلال مختلف الآليات سواءً استعمال القوات المسلحة وجهاز الشرطة ينطوي على عنصري الأمر ولإخضاع المطلقين، و ذلك لاستخدام وسائل الإكراه المتمثلة أساسا في حمل و نقل و استعمال الأسلحة إلى جانب التفتيش و إمكانية تكوين القوات المسلحة. إلا أن بروز الشركات الأمنية الخاصة في العديد من الدول التي بدأت تزحف تدريجياً على مجالات نفوذ الدولة التقليدية,من شأنه أن يفسر بعجز القطاع الأمني العام في أداءه لمهامه، ففرضية التعاون والتكامل بين القطاع العام والقطاع الخاص لإستتباب الأمن ليس من السهل قبوله وهذا بالنظر لأهمية وحساسية القطاع الأمني.
—————————————
1-أنظر محمد ماهر أبو العينين “دعوى الإلغاء والطلبات المستعجلة أمام محاكم مجلس الدولة في بداية القرن 21 ” الكتاب الأول شروط قبول دعوى الإلغاء ، بدون دكر المطبعة ، الطبعة السادسة 2004 ص31.
2-مصطفى أبو زيد فهمي ، القضاء الإداري ، الجزء الأول ، قضاء الإلغاء ، دار المطبوعات الجامعية 1998 ص:122
. 3– مصطفى ابو زيد فهمي : القانون الاداري ، الدار الجامعية ، الاسكندرية ، 1988 ، ص226
. 4-غازي فيصل مهدي ، النظام القانوني للترقية في الوظيفة العامة في العراق
محمد أمين بوسماح، المرفق العام في الجزائر، ترجمة رحال مولاي إدريس و رحال بن أعمر، ديوان المطبوعات الجامعية.5–