أمريكا، الإمبراطورية والحضارة، في موازين الثقة – د. محمود عباس

 

انعدام الثقة بأمريكا، جدلية لها تاريخ طويل، تسبق انسحابها السريع من أفغانستان بعقود، صاحبتها كوارث، ومطبات، غيرت مصير العديد من الشعوب والحكومات والدول. مثلها مثل مسيرة جميع الإمبراطوريات المبنية على الدماء، والحروب، وآلام الناس، حضورها رغم سيادة المفاهيم الإنسانية، وتكوين إداراتها على الأسس الديمقراطية المتطورة والتي تقدر القوانين وتقدس الدساتير، إلا أنها لا تزال على النقيض من الحضارة.

الثقة بالإمبراطوريات، قضية معقدة، لها وجهان، أحدهما تتمسك بها الدول المهزوزة، والشعوب الضعيفة البائسة، والحركات السياسية الساذجة، التي تدعي المظلومية، فتبحث عن قيم الصداقة والثقة لتلوم بها الدول الكبرى، عند التخلي عنها إثناء تعرضها إلى اعتداء. والوجه الأخر، تعكس صفات الحكومات الواعية، والشعوب الواثقة من ذاتها، والمتطورة ثقافيا، والحركات السياسية التي تدرك خفايا الأروقة الدبلوماسية، وتعرف البنية التي تستند عليها سياسات الدول، حيث عدمية الإيمان بالصداقات الدائمة، وبمنطق الثقة، فتتعامل مع الواقع من خلال مصالحها ومصالح الدول المتحالفة معها.

الشعوب والحركات المتكالبة على إثارة عطف الأخرين من منطق الذليل، والباحثة عن الثقة في ثنايا الاتفاقيات المعقودة ضمن ظلمات الأروقة السياسية، تعاني من ضحالة المعرفة، وضعف التمييز بين أسس الإمبراطوريات ومرتكزات الحضارات، ولا تنتبه إلى أنه بينهما مسافات فكرية، وإنسانية، وثقافية. الأولى، مبنية على القوتين الاقتصادية والعسكرية، وخباثة السياسة لتأمين مصالحها وتمرير أجنداتها على حساب الشعوب والجغرافيات. والثانية، ترتكز على التطور الثقافي، والعلاقات الاجتماعية الإنسانية؛ حيث القيم والمبادئ. فيخلطون، من الجهالة السياسية، بين البعدين، بعكس بعض القوى الخبيثة، التي تثير إشكاليات الثقة، وتسخرها لتمرير أجندات خاصة.

ظهرت إمبراطوريات على مر التاريخ، ليس فقط لم تبني حضارة، بل قضت على بعضها، كالإمبراطورية المنغولية، والتي تعد أشرس وأوسع إمبراطورية في التاريخ، ومثلها العثمانية، والصفوية، وقبلهما، الإسلامية في عصر الخلفاء (جدلية هذه الإمبراطورية عميقة التناقضات تجري حولها جدالات لا نهاية لها) وغيرهم. إلى جانب أخرى برزت والحضارة في أحضانها، أو كانت الحضارة من مرتكزاتها، تتوسع على أبعادها، مثل الإمبراطورية الساسانية واليونانية، والرومانية التي دامت قرابة 1600 سنة، فيما لو أضيفت إليها الإمبراطورية البيزنطية. وبالمقابل قامت حضارات في أحضان دول دون إمبراطوريات، وهي من مجموعة 21 حضارة التي ذكرهم أرنولد توينبي في مجلداته قصة الحضارة.

الإنسانية في مرحلتنا الزمنية هذه، تعيش على أبعاد الحضارة الأوروبية، وليدة الإمبراطورية الدموية المترامية الأطراف، المهيمنة مداركها ومعارفها على معظم بقاع العالم، والمتصاعدة سوياتها خلال القرن الماضي، رافقتها جدلية تراجع هيبتها كإمبراطورية، وصعود الإمبراطورية الأميركية، إلى أن حلت مكانها، إلى جانب الإمبراطورية السوفيتية، مع أبعاد حضارية أمريكية دون السوفيتية، لا تخلو من فروقات بينهما من حيث السويات الثقافية والاجتماعية والإنسانية، ولا تعني هذا أننا أمام نظرية صدام الحضارات، رغم ما أقدم عليه دونالد ترمب من خلق صراع بينها وبين أوروبا اقتصاديا دام لسنوات قليلة، بل صدام الإمبراطوريات، ولربما هناك خلط في النظرية المطروحة، فكان الأجدى عرض النظرية على أسس صراع القوى العسكرية والاقتصادية-السياسية، وليست الثقافية – الاجتماعية، فبينهما يوجد صرح الإنسانية.

الأبعاد بين القوتين متفاوتة أو أصبحت، فعلى حساب التراجع الأوروبي كإمبراطورية وتصاعد الهيمنة الأمريكية، تنامت الحضارة الأوروبية، وبالتالي يقال إن الموازين ما بينهما متناقضة، أوربا الحضارة سَمت على الإمبراطورية، أما في الولايات المتحدة الأمريكية فحضارتها لا تزال بعضها سجينة إدارات الإمبراطورية، ويعتقد أن هذا الخلل هو ما يؤدي إلى ظهور الأزمات العالمية، الاقتصادية والسياسية، وغيرها.

فإسقاطات البون الواسع ما بين أوروبا كمنظومة رأسمالية والولايات المتحدة كإمبريالية عالمية، أثرت بشكل واسع، أحيانا شبه كارثي، على المنظمات الحضارية، كثيرا ما لا تزال تلجمها وتحد من نشاطاتها، وهو ما يؤدي إلى الأحكام الخاطئة، كغياب الصداقات الدائمة، وعدمية الثقة بأمريكا، بدون الانتباه على أنه لكلا القوتين وجهين متناقضين، أحدهما الباحثة عن الهيمنة، تتعامل مع الدول والقوى السياسية من خلالها. والثانية، الإنسانية، بمنظماتها ومؤسساتها المتعاملة مع الشعوب والمجتمعات من البعد الأخلاقي والقيم، وكثيرا ما يحصل بينها وبين إدارات الإمبراطورية صدامات عنيفة، نشاهدها من خلال المسيرات والاحتجاجات المؤدية إلى استخدام العنف، وعليه فمن الخطأ انتقاد كل الكيان الأوروبي أو الأمريكي بدون التمييز بين الكفتين، وهو ما يحصل الأن على خلفية الانسحاب الأمريكي كإمبراطورية من أفغانستان.

فمن السذاجة، التهجم على المنظمات الإنسانية، التي تقدم المساعدات عند الكوارث أو للمجتمعات المعانية من الأوبئة والمجاعات، وفي ويلات الحروب، فهي من مرتكزات الحضارتين، كثيرا ما رضخت لهم كرهاً إدارات الإمبراطورية، رغم التناقض في توجهاتهما وبرامجهما، فالمؤسسات الحضارية تعمل لخدمة الشعوب وتطويرها، ومساعدة الإنسانية، والأخرى تعمل لتصغيرها وتسخيرها لأجنداتها.

نحن هنا لم نأتي على ذكر القطب السوفيتي سابقا، والتي كانت على أبواب تكوين حضارة خارج جغرافيتها السوفيتية، والتي بنيت على أنقاض الإمبراطورية الروسية، لكنها فشلت في التكوين الحضاري، مقارنة بما بلغته من التوسع السياسي الجغرافي، رغم ترويجها لإيديولوجية عالمية، لكنها لم تبلغ المدى المخطط له، وظلت في الأبعاد النظرية، وتأكلت داخلياً، طوال عقود توسعها العسكري -السياسي. لذلك من غير المنطقي إدراجها في المجال الحضاري، رغم وجود منظمات إنسانية خدمت الشعوب لكن جلها لأجندات خاصة بالإمبراطورية وأيديولوجيتها، ولهذا انحصرت مسألة الثقة بها في مدى تمسك الدول بأيديولوجيتها، أو التخلي عنها، وحدث أن تراجعت عن مساعدة شعوب من أجل مصالحها أو كما يقال عندما تعرضت الإيديولوجية إلى الطعن، ومثال مساعدتها للحكومات العراقية البعثية وأخرها لصدام حسين في حروبهم ضد الكورد.

أي في مقارنة ما يمكن القول أن الإمبراطورية السوفيتية مشابهة للإمبراطورية الإسلامية، رغم الاختلاف ما بين النظرية والعقيدة، فكلاهما كانت تنقصهما مقومات الحضارة، حملوا بها لكنها أجهضت، وربما على خلفية الهيمنة العسكرية وثقافة ومفاهيم القطب الواحد الرافض للروافد الفكرية من الثقافات الأخرى، وكما نعلم الإنسانية مبنية على تراكم الثقافات ومخلفات الحضارات السابقة، والتي تكمل وتستند على رواسب بعضها.

ومن خلال الدراسات العديدة للواقع، تتبين أن احتمالية ظهور القطب المنافس لأمريكا لم تظهر بشكل قوي حتى الأن، رغم ما يقال على أن الإمبراطورية الأمريكية بلغت مرحلة القمة، وقد تكون في بدايات التراجع أمام قوى متصاعدة كالصين، أو النزول عن القمة، لكن بدون المنافس المتوقع ظهوره، وهو ما يتبين من خلال عدم إشراك القوى الكبرى الأخرى في جدلية العتب، أو المحاكمة، باستثناء ردود أفعال على مواقف روسيا وريثة الاتحاد السوفيتي، فلو كانا على سوية المنافسة الكاملة لتوجهت إليهما الأنظار، فمن غير المعقول أن تكون الإمبراطورية حليمة وإنسانية، ولا تخلق الكوارث، حتى تلك التي بنيت على الروحانيات، كالإسلامية، خلفت من المآسي والدمار والجرائم ما يندى لها جبين البشرية.

لا شك مسيرة أمريكا كإمبراطورية محل دراسات وأسئلة متضاربة، منها: هل بلغت القمة، وهل هي في مرحلة النزول؟ وكم ستطول هذه المرحلة، عقود أم قرن من الزمن؟ فيما إذا تم مقارنة هذه المرحلة بمرحلة صعودها والتي بدأت بشكل فعلي بعد الحرب العالمية الثانية، رغم ظهورها بعد الحرب العالمية الأولى، أي عند نهايات هيمنة المرحلة الأوربية، والمنهارة أمام أمريكا والسوفييت على عتبات الحرب العالمية الثانية، وهذه أيضاً ستنكمش كغيرها من الإمبراطوريات، وكما تشتت السوفيتية.

لكنها حتى وهي في مرحلة الصعود، كغيرها من الإمبراطوريات، تعرضت إلى نكسات، وفشل، وخسارات في عدة مواقع، وأخرها أفغانستان، كما وإلى جانب سيطرتها على الجغرافيات، والشعوب والدول، خسرت وانكمشت في مواقع أخرى. وكما نعلم أن أمريكا القرن الماضي، ليست هي ذاتها الأن، مثلما كانت أوربا القرن الماضي لم تكن إمبراطورية القرن التاسع عشر وما قبلها، وعليه فقد بدءا في العقد الأخير بإستراتيجية عصرية مغايرة لماضي الإمبراطوريات، يحاولان تسخير والاستفادة من منظماتها الحضارية لبلوغ مأربهما وتمرير أجنداتهما، والأدهى منهم في هذا المجال، هي الصين، تقوم بذلك بمهنية عالية، وعليه يدرس المحللون النموذج الصيني كإمبراطورية وحضارة قادمة، ومتقدمة، منافسة للأمريكية، بمفاهيم وأساليب مختلفة.

فأسلوب تسخيرهم لمؤسساتهم الحضارية، على خلفية سقوط معادلة الثقة، في العقود الماضية، عن أمريكا بشكل خاص، أدت في العديد من الحالات بعدم قدرة الشعوب الاستفادة من مؤسساتهما الحضارية القادمة عادة مع سيادة الإمبراطورية، وتتبين على أن الصين مدركة تماما لهذه الجدلية، لذلك تعرض خدماتها الإنسانية برفقة الاقتصادية والتعمير وبحنكة سياسية متقدمة، وقد فعلتها مع بعض الدول الإفريقية، وتحدثت مع حكومة طالبان الحالية بشكل استباقي، إلى درجة قدمت مشروعا لبناء سكة الحديد من حدود الصين إلى العمق الأفغاني، والغاية هي السيطرة على ثرواتها الثمينة الخام.

هذه المعادلة المصيرية بالنسبة للجغرافية الكوردستانية، وللشعب الكوردي، فهل سيلحق التواجد الأمريكي كإمبراطورية عسكرية-اقتصادية في المنطقتين الكردستانيتين حضور لمؤسساتها الحضارية؟ وإلى أي مدى سيتمكن الكورد من جذبهم وخلق الثقة بينهما، لتطوير الذات، والاستفادة منهم، وخلق توازن ما بين هيمنتها كإمبراطورية وحضورها كحضارة على الجغرافية المعنية. وهل الحركة الكوردستانية على سوية معرفية لبلوغ هذا الهدف، أم أنها ستندب حظها كالماضي، وستعاتب الأخرين على قطع روابط الصداقة؟

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

20/8/2021م