The Secrete of the White Butterflies
الفصل ( 2 )
الدخان يتصاعد من كل مكان وخاصة على قمم والتلال. كان الاهالي يحتفلون بعيد نوروز، العيد القومي للشعب الكوردي وذلك عن طريق اشعال النار في الأماكن البارزة العالية وسط الاغاني والموسيقى وصوت الطبل والمزمار. الاحتفال واجب قومي حتى في ايام الحرب والمآسي. الدخان يلف كل الارجاء حتى فناء المنزل الذي دخلوا اليه. أحست الأم براحة. لم يجذبوا انتباه أحد في الطريق. “غريب في بيتي؟ّ يا ويلي! ماذا سيقولون؟!”
أجال ببصره حواليه. برميلان للنفط . معزتان ترعيان تحت شجرة التوت. وكر دجاج صغير في الزاوية. بيت مصنوع من بلوكات من السمنت . سطح مستوي مسطح مغطى باخشاب واغصان ومطلي بطبقة سميكة من الطين الاحمر. غرفتان صغيرتان متقابلتان. وغرفة واحدة فوق. هذا كل ما استطاع ملاحظته لحظة دخوله.
اجلستنه في الغرفة على اليمين على حشية مفروشة على الارض. وبلا إذن مسبق هرعت الطفلة إليه ووضعت رأسها على فخذه ، وجديلتاها العاجيتان ترسلان لمعانا متحركا في ضوء الشمس المتسللة من خلال النافذة. بدأت تتأمل وجهه من تحت بفضول وفخر وفرح. ” اخيرا عاد بابا.” خاطبت امها التي قدمت نفسها إليه بريبة ومسحة من الوجوم تكسو وجهها الشاحب.
” اسمي زينب معلمة مدرسة وهذه ابنتي مريم.”
انتفضت مريم بعصبية ورفعت عينين حانقتين الى امها تشكو مغمغمة. ” أخخخ امي ..هل هناك ام تقدم نفسها وابنتها الى رب الاسرة؟!” تعابير وجهها نمت عن الامتعاض والشعور بخيبة خفية ورجاء وهي تشبك يديها الصغيرتين على بطنها وعيناها على فم امها تنظر اليها بترقب. تملكها هاجس وتريد ان تطرده من ذاكرتها الفتية. واكدت بالقول متلذذة بكل حرف نطقته: “بابا رشيد انت، الست كذلك؟” ولم تنتظر منه جوابا وأحاطت ذراعيها حول عنقه. بدأ الشاب يفقد اعصابه: أي ورطة؟ أي حل ؟ ماذا افعل؟ إحتار بين الحقيقة والأمل الذي شعّ فجأة من قلب طفلة لرؤية والدها. ثم اخذ يتسائل بصوت مسموع منفعل: ” ما الأمر؟ ماذا يحدث هنا؟” ورفع رأسه الى سيدة البيت والتي اغاثته بالقول:” العفو وكما ترى يبدو انه هناك إلتباس في الأمر، ولكن قبل ان اقول اي شئ هلا تفضلت معي وتحلف بالمصحف الكريم أنك لست…”
لم تنطق بالاسم (رشيد)، لم تجرأ وبدلا انتقلت عيناها الحزينتين الى طفلتها. كانت الإشارة مفهومة وواضحة للزائر الغريب الذي آثر السكوت لعل الغبار ينجلي ولو بعد حين.
في عينيها حزن عميق. ونحافتها وشحوب وجهها وسعة عينيها برزت عمق معاناتها. حزن قديم مزمن. قامة هيفاء وعيون سوداء وشعر حريري برّاق قصير يلتف حول عنقها العاجي كالطوق. لم يلمح اي أثر لخاتم زواج في اصبعها. استنادا الى اصرار الطفلة وملامحها المنشرحة في مقابل ملامح الام المنقبضة استنتج بأن هناك سوء تفاهم كبير بينهما. وان الأم عاجزة – ولو مؤقتا- من اتخاذ اي قرار وحكم بشأنه. ومن جهته رأى انه من الأفضل ترك الأمر للزمن، عسى ان تتوصل الام و ابنتها الى قرار موحد.
ولكنه استدرك فجأة وأزاح بتؤدة رأس الطفلة ونهض قائما بانفعال وكأنه تذكر للتو أمرا خطيرا، ثم وقف قبالة المرأة ومال اليها منحنيا برأسه جهة اذنها اليمنى وقال لها في همس:”سيدتي، هناك أمر هام لابد أن اطلعك عليه فورا، يجب ان اغادر هذا المكان وبأقرب وقت.”
توسعت حدقتا المرأة وحدقت في عينيه المحمرتين المتعبتين الوجلتين ببصر نافذ ، تريد نبش الحقيقة في عينيه.
في تلك اللحظة نهضت الطفلة وسارت صوب الباب. اوقفتها امها.
“الى اين أنت ذاهبة يا شقية؟
” اذهب الى صافية لأخبرها بأن ابي هنا.”
“لا تفعلي.” نادتها الأم بلهجة آمرة.
تجمدت البنت لدى الباب، نظرت بخجل في وجه الغريب، تتأمله بعينين تشع منهما الرجاء والإشفاق والحرمان. وبغتة غمره احساس بأنها حقا ابنته. تمنى لو كان متزوجا وله طفلة بنفس المواصفات. دقات قلبه في تصاعد متواصل. اصاخ السمع . خيل إليه انه سمع قرعا خفيفا على الباب. “انهم في كل مكان يرون كل شئ حتى البكتيريا بالعين المجردة.” تمتم مع نفسه في هلع. الخوف شوّش بصره . وتمنى في تلك اللحظة لو ان الحرب قد انتهت وانه هنا في زيارة ودية.
ظلت الطفلة واقفة . علاماتها المميزة: فستان ابيض طويل، ساقان طويلتان، جديلتان طويلتان فاحمتان تتدليان فوق ظهرها كنبات متسلق، أنف منحني قليلا من الوسط، شفتان رقيقتان واسنان متراصة صغيرة ناصعة كحبات اللؤلؤ، وجبين ناصع ضيق مختفي نصفه تحت الشعر الكثيف، وحاجبان سوداوان هلاليان. وتنتعل حذاء ورديا يعلوه الغبار.
تسرّبت رائحة دخان حادة مهيّجة الى منخريه آتية من اطارات السيارات المحروقة. خنق عطسة قبل ان تنفجر. الحرب غيرت طقوس الاحتفال. حتى الدخان لم يعد دخانا.
لا تزال الطفلة مريم تنتظر السماح والإذن من امها زينب. ولم يدم انتظارها إذ طمأنتها الأم باعذب الكلمات وأشارت اليها بحركة من يدها ادركت الطفلة ما يتوجب عليها فعله. ترجمت شفرتها: ” اذهبي والعبي مع صديقاتك ولكن إياك ان تخبري احدا بوجود هذا الرجل هنا.”
” رجل؟ هههه انه بابا رشيد.” ضحكت ضحكة ملائكية. ثم انطلقت خارجا تعدو كالبرق .
***
الفصل (3)
ردد الغريب بصوت مسموع كمن يهذي: “رشيد رشيد! أأنا رشيد؟ أنا رشيد إذن! ومن هو رشيد؟ يعني ان والد الطفلة وهو أنا لهو زوج هذه السيدة، واين هو رشيد زوجك؟”
ارتسمت علامات الحيرة على محياه وهو من الاعياء في نهاية. شعر بجوع وعطش ووجل. آلمته ساقاه وقدماه. اشارت اليه بالجلوس. فاستدار ليعود الى مجلسه فإذا بصورة بلونين اسود وأبيض تقابله على الحائط ، صعق للصورة ووقف مذهولا يتفرس في ملامح وتفاصيلها. اعتراه ذهول شديد ثم تحامل على نفسه وأخذ يغمغم في استغراب:”يا إله الكون! أهذا رشيد زوجك؟ والد الطفلة؟ أهذا أنا؟ نعم هذا أنا؟ هذا أنا في هذه اللحظة على الأقل!!” نظر الى نفسه في مرآة صغيرة معلقة بجانب الصورة. واخذ يقارن بين الصورتين: الصورة الحقيقية لوجهه في المرآة والوجه في الصورة بدقة ، وفجأة أخذ يضحك كمن به مس وهو ينقل عينيه بين الوجهين: وجهان عريضان من فوق ودقيقان عند الذقن، جبهتان عريضتان وقد انحسر الشعر عنهما قليلا ، حاجبان سوداوان كثّان، أنفان مستويان مرتفعان قليلا في المقدمة، عينان سوداوان ، أهداب طويلة، اذنان صغيرتان، لحيتان قصيرتان .
عاد الى مكانه على الحشية واسند ظهره الى الحائط ثم نظر اليها يترقب كلمة منها بعدما انجلت الصورة تقريبا.
ظلت مالكة الدار واقفة قبالته. الوجوم لا يفارق مهجتها. ثم تحدثت أخيرا: “انت لست رشيد، رشيد مات. اعدمه النظام، ولكننني اتسائل الآن هل كان له اخ اسمه …؟”
جفل الغريب للفظة “اعدام” وقدم اسمه وليكمل الكلمة الناقصة من سؤالها:
” زكي، اسمي زكي، اتشرف بمعرفتك ست زينب .”
وظل يحدق في الفضاء مذعورا. أخيرا تنهد ثم نهض قائما مستغلا غياب الطفلة. “انا جائع وعطشان ساتناول شيئا ثم اغادر المكان فورا.”
“الى اين؟”
“الى الحدود.” قال ثم اضاف مستطردا في وجل: “أنا هارب من النظام لسبب أو لآخر، ومهنتي طبيب .” ثم قطع كلامه مفكرا ثم أردف قائلا :”هل تعرفين دليلا يهديني السبيل؟”
حدقت في وجهه المتوتر متأملا . بات مؤكدا ان الرجل في خطر شديد. قالت له تتكلف الهدوء: “سأبحث عن الدليل ولكن امهلني قليلا، احتاج الى وقت، لا تجري الامور بهذه السرعة.”
“إذن سأذهب لوحدي.” ونهض قائما وانحنى على حقيبته السوداء. التقطها. وهم بالخروج. وناداها من خلفها. ” مهلا لا تذهب قبل ان اعد لك فطائر تأخذها معك.”
“شكرا، شكرا جزيلا.” قال لها واستدار واضعا يده فوق صدره مع انحنائة ثم اردف قائلا: ” سآكل في الطريق، وضعت هنا بعض الخبز والكعك والماء. عامل الزمن فوق كل شئ.” قال يربت على الحقيبة المنتفخة.
شكرها مرة اخرى وانطلق يعدو نحو الباب الصدئ وسط صياح الديك والدجاج. سمعها تقول من ورائه:
” ستقابل متاعب في الطريق، انتظر قليلا، سأبحث لك عن الدليل فورا.”
الخوف كان اكبر من كل نصيحة. وقبل اجتيازه الباب سمعها تقول: ستصاب بنتي بصدمة ان عادت ولم ترَك.”
ولم تمض ثواني الا وعاد زكي-رشيد بصحبة الطفلة. كانت تمسك بيده بقوة وتسحبه بهدوء الى غرفة الجلوس، وهي ترفع رأسها اليه وتقول له معاتبة:”أين كنت تذهب بابا؟ ولماذا تحمل الحقيبة؟ ألا تركتها في البيت في حراسة امي؟”
وهكذا وجد زكي نفسه مرة أخرى وجها لوجه مع نسخته الثانية رشيد.
تبادلا النظرات. على وجهه خيبة وعلى وجهها دهشة.
“ماما، أين كان يذهب ابي؟” ارتفع صوت الطفلة الحاد تخاطب امه بنبرة حانقة.
تنهدت الام وتأوهت بحرارة وكمد، ثم قال لها بصوت خفيض حزين: ” وا أسفاه عليك وعلى ابيك المرحوم بنتي، هذا الذي ترينه امامك ليس بأبيك ، انه شبيه يشبه المغفورله اباك. أنت لم ترينَه في حياته فكيف ترينه في مماته.” قالت ولمعت دمعتان كبيرتان في ركني عينيها . ثم اضافت قائلة:” دعي عمو زكي يذهب لحاله. انه على عجل.”
“مستحيل مستحيل. ماذا تقولين؟ هذه الصورة لأبي رشيد وهذا ابي رشيد، نفس الوجه.” ومدت سبابتها الى الصورة تارة والى وجه زكي تارة اخرى وسط الهموم والضباب الذي يكتنفه. وظلت تنقل بصرها من امها الى زكي وهكذا. اما زينب فنظرت في وجه زكي المغبر الذي كان ينظر الى ساعته اليدوية بارتباك وقالت له برجاء:
“نحن امام موقف صعب للغاية. سيدي هلا فكرت بسبيل للخروج من الأزمة العاصفة؟”
احتار زكي بماذا يجيب سيدة البيت. أما هذه فقد إنفرجت أسارير وجهها بعد ان رأى الإنقباض في وجهه وقالت له بنبرة إعتذار: “يبدو أنك مشيت مسافة طويلة؟” توجهت اليه بسؤال ولم تنتظر الجواب بعد أن رأت الارتباك على وجهه وهو يقدم خطوة ويؤخر أخرى. وارادت أن تطمئنه.” لا تقلق، البلدة آمنة وقلما دخلها قوات النظام.
والحرب لم تصل الى هنا بعد ومن ثم هناك حلول أخرى..” قطعت حديثها تتأمل وجهه المغبروهمومه وهلعه، فرثت لحاله وحاولت مرة أخرى بث الراحة في قلبه قائلة:
” برأيي ان تأخذ قسطا من الراحة أولا وتتناول شيئا من الطعام بينما ابحث أنا عن عم امين.”
دخل شئ من الانشراح في قلب زكي. تراخت يده على الحقيبة ناقلا عينيه بين الأم والطفلة التي مرت عليها الثواني كالدهر طولا.
“فتكن مشيئتك سيدتي.” نطق أخيرا واستسلم لإرادتها بعد ان خفّت مخاوفه.
وضع حقيبته على الارض ورفع رأسه اليها متسائلا:”ومن هو عم أمين؟”
“موظف البريد والهاتف. رجل طيب وله سمعة طيبة وموثوق به لدى الاهالي ولدى الحكومة على السواء، وهو الوحيد القادر على مساعدتك، وسوف لن يألوا جهدا في سبيل حمايتك وتهريبك ، وقد ساعد أشخاصا آخرين من قبلك.”
قالت هذا ثم انطلقت الى الغرفة المواجهة وعادت بعد دقائق تحمل صينية عليها وعاء من اللبن والخبز الشعبي، نان. وضعتها امامه على الارض ثم اشارت اليه ان يأكل.” لحظة وسيكون الشاي جاهزا.”
وانطلقت الى الغرفة المقابلة. وجلس هو على الحشية وحينها القت الطفلة بنفسها في احضانه ثم القت برأسها فوق فخذه ومدت رجليها امامها على ارضية الغرفة ، وقالت له من تحت لحيته مشيرة الى فناء الدار من خلال النافذة الصغيرة: “بابا إنه لبن المعزة، معزتنا. طيب ولذيذ جدا.” ثم احاطت عنقه بذراعها وقالت له:” أين كنت كل هذه المدة؟ هل سافرت الى الحج مثل عم كمال النجار، أنت تعرفه أنه نجار ماهر، وأنت دفعت مبلغا كبيرا له ليصنع لي المهد والسرير كما قالت أمي، هذا ذهب الى الحج وضاع هناك ثم عاد بعد خمس سنوات.”
تنهد زكي بحرارة ثم سألها بمرارة.”وماذا قالت امك لك عن غيابي؟”
“قالت انه سافر الى البعيد البعيد وسيعود يوما وسيلتقي بنا على الجسر. فكنا نذهب كل يوم جمعة الى الجسر وارفع انا يدي الى السماء ادعو الله ان يعيدك الينا، وعيناي ترقبان الطريق ، وها قد عدت، سمع الله دعائي، شكرا يا رب.”
عندما عادت زينب حاملة أبريق الشاي والاقداح والسكر، رأت الزائر زكي ملويّا عنقه مغمضا عينيه متهالكا، ويصدر من فمه المفتوح شخيرا هو الى الأنين لأقرب. اما البنت فكانت عيناها تبرقان كعيون القط في مواجهة الباب التي ستدخل من خلاله أمها وتتدبر الأمر.
*
يتبع..!