سرّ الفراشة البيضاء- فصل (6-7) – رواية حقيقية واقعية – تأليف:فرياد إبراهيم

 

The Secrete of the White Butterflies

 

***********

6

عندما بدأت شمس الصباح تستيقظ من نومها وعلت في السماء فاردة أشرعة نورها ، نهض زكي على صوت مريم الرقيق ويدها تدغدغ صدره. فتح عينيه بفزع. فقد رأى كوابيسا في منامه في الليلة الفائتة. نظر اليها فوجدها  تبكي بحرقة وصمت وهي في ملابس المدرسة. قالت له شاكية:

“امي تقول انك لست أبي.”

وتواصلت بكاءها المريروهددت بإمتناعها عن الذهاب الى المدرسة.

عيون الام وهي في ملابس المدرسة ، الزي الموحد، غرزت رموشها كالسهم الحاد في عيون ابنتها المحمرة الدامعة. كانت في غاية من الهيجان والغضب. وقد استسلمت لليأس او كادت تحت عناد ابنتها واصرارها. فقد قامت زينب مبكرا وايقظت ابنتها وبدلت ملابسها وحين قالت مريم لها: “سأخبر أبي قبل ان نخرج.” ردت عليها الأم:”لكنك يجب ان تعلمي انه ليس ابيك ولا تشغلي فكرك بهذا الأمر والا ستنتظرنا مشاكل جمة؟”

“لن اخرج معك.” أصرت الطفلة وهي تلتصق به وبقوة خشية ان تؤخذها امها بالقوة. جلس زكي ملتحفا بالبطانية. شعر بحيرة وحزن وخجل. خجل مما جلبه على الاسرة الهادئة من قلائل ومشاكل.

“ماذا أفعل يا ربي.” قالت زينب واستدارت وصوبت نظراتها القلقة الى عينيه المتعبتين المنتفختي الاجفان بعد ليلة ليلاء. كانت في مقتبل شبابها في ربيعها العشرين فائقة الجمال شعرها أسود فاحم عيناها حوراوان تنافسان عيون بقر الوحش، ممشوقة القوام وجهها بدر التمّ يتوهج في ليلة بلانجوم ، في خفة حركاتها ونظراتها الخمرية تحت رموشها السوداء الطويلة حول عينيها الغزاليتين  ضارعت إحدى حوريات الجنان جمالا.

توقع بأنها ستصب سيلا من الملامة على رأسه. لم تفعل وبدلا اقتربت من ابنتها وانحنت حتى لامس وجهها وجهها وقالت لها بهدوء وهي تشير الى زكي:”حسنا فلنعتبره ابوك..هيا..”

“قولي هكذا من الاول، انه أبي، بابا رشيد وحلق لحيته  كي لا يتعرف عليه الناس وسمى نفسه زكي.”

صمتت لبرهة ثم عادت تقول بامتعاض:”ولماذا يخفي اسمه؟هل يخاف؟ وممن؟”

“انت لا زلت طفلة لا تفهمين امورا تخص الكبار.”

“كما تشائين،” ردت الطفلة باستسلام. فامسكت الام بيدها تسحبها بهدوء الى فوق ثم عادتا وهي تمسك بحقيبتها المدرسية الوردية المنتفخة بالقرطاسية. بدت في وجهه مريما آخر في سترتها الزرقاء فوق فستانها الرمادي وحذائها الابيض وشعرها الفاحم الذي صففته امها على شكل ضفيرتين معقوصتين على هيئة ذيل حصان تصلان اسفل ظهرها، وحقيبتها وهي تلقي عليها نظرة خاطفة كلما خطت خطوة الى امام.

وأخيرا وبعد تباطئ ودعتاه ببسمات حلوة ثم انطلقتا وتركوه في بحر من الحيرة ولجة من الافكار المتشابكة.

 

حين عادتا عند الظهيرة قضوا بقية النهار تحت شجرة التوت يشربون الشاي مع الكعك اللذيذ التي صنعتها الطاهية الممتازة زينب. ولم تمض دقيقة حتى نهضت مريم وانطلقت ترقص وتدور بمرح حول الشجرة وبيدها حقيبتها الوردية التي اودعت فيها كتبها واقلامها ورسوماتها ودماها. وبعد ان نال منها التعب عادت الى الطاولة واخبرته كم كانت صديقتها صافية سعيدة بحقيبتها الوردية وكيف كانت تريها لزميلاتها وتقول انها هدية من خال مريم.

 

في تلك الليلة نامت الطفلة كالليلة السابقة الى جانبه. وحملتها امها الى فوق بعد ان القت عليه نفس النظرات الغامضة كما في الليلة السابقة. ونام نوما هادئا لكنه استيقظ في منتصف الليل على صوت زينب التي اندست في فراشه وهي تلهث ضاغطة بخصرها هلى خصره وتقوم بحركات مكوكية خفيفة. همست في اذنه ولهيب نفسها يلدغ اذنه وبثت شكواها:

“منذ ستة سنوات لم ينم في فراشي رجل. انا شابة ارملة احتاج الى رجل ككل النساء. لكنني فضلت البقاء ارملة على الزواج من رجل قد يسئ الى ابنتي الوحيدة.” ولم يملك الا تلبية ندائها، شاب ظامئ استجاب لرغباتها ورغباته. وحقيقة كان زكي مليح الطلعة ساحر الحسن خفيف الروح حلو الكلام دمث الأخلاق حميد الصفات.

وما هي الا ثواني حتى ارتفع لهاثها اكثر فأكثر حتى خاف انها ستوقظ الطفلة.

 

في الصباح الباكر ، عندما استيقظ على صياح أذان الفجر والديكة، وجد نفسه راقدا في الظلام المحدق بين الام والطفلة وهما تغطان في نوم عميق.

ولكن لم يكن هذا كل شيء ، فقد كانت صور ورائحة ومغامرة الليلة الماضية لا تزال مرئية محسوسة مسموعة. فرك عينيه بكسل، لم يقوَ على النهوض. كانت شرسة في ممارسة الجنس هائجة مفترسة. آثار عظاتها تركت ساعات لحمية فوق صدره وعنقه وظهره وفخذه.

فجأة فتحت زينب عينيها اللتين لمعتا كعيني القطة البريّة في الظلام.

“سامحني زكي.” قالت بهمس وخمول وخدر وبحة في صوتها. ثم  عادت الى النوم وصعد شخيرها الناعم للفور.

والقى هو طرف اللحاف فوق عينيه. وتاه في بحر من التأويلات والتكهنات.

*

7

شجرة التوت اضحت جزءا من ذكريات زكي حيث كان ظلها  يوفر له التفكير بحياته ومستقبله ومصيره. في مواجهة المعزة التي كانت تلتهم العشب الاخضر بدلا من العلف اليابس جلس على المصطبة العتيقة تحت النافذة مرسلا بأفكاره الى الماضي القريب حيث كان يتمنى لو حصل على زمالة دراسية ليكمل دراسته في بريطانيا. أين انا الآن؟ ضحك من نفسه؟ أنا الآن هارب طريد. كيف حدث كل هذا في زمن قصير. ثم راجع نفسه وحدث نفسه معاتبا اياها:  هل كان هناك داعي للفرار؟ تجاهل السؤال وطرحه فورا خارج رأسه. فقد حدث ما حدث فليس له الآن الى ان يكمل المشوار. فقد يتحقق حلمه بهذه الطريقة الشائكة.

نهيق حمار من بعيد. صوت الجارة تحدث طفلها الحافي. فراشات تحوم فوق زهرة بيضاء كفستان مريم الصغيرة. رفع رأسه ونظر خلال وريقات التوت الى سماء زرقاء خالية من الغيوم تماما. شعر بدفئ منعش يدب في اوصاله. بماذا تفكر الصغيرة الآن في المدرسة ؟ فقد سمع امها تعنفها يوم امس وتصفها بالشرود في دروسها المدرسية. هذا هو حظها ارتبط بحظه التعيس. مسكينة. غرق في تفكير عميق. ونسي نفسه في غفوة قصيرة. واستيقظ على صوت الباب. اتجه نظره الى تلك الناحية فإذا بوجه مألوف ظهر مندفعا نحوه.

“عم أمين؟! كم طال انتظاري.”

القى طيور الحجل المذبوحة التي كانت تتدلى من يده الى الارض بجانب زكي،  وجلس بجواره بدون مصافحة وبدأ فورا. قدم نفسه كأنه اللقاء الاول لهما. أو لعله اعتبر اللقاء الأول لاغيا أولم يقع اصلا.

كان رجلا صغيرا نصف اصلع مع حواجب ثخينة وانف معقوف كمنقار الباز، له من العمر ما يقارب الستين ، كان يرتدي ملابس تقليدية فوقها معطف زيتوني سميك.

“فرحت لقدومك عم امين تقت لرؤياك.”

خاطبه مرحبا وعيونه على جثث الطيور الستة الراقدة بلا حراك، وبالذات ريشها الملطخ بحمرة قانية.

“بل قل انتظرتك على نار ومن حقك ان تشعر هكذا،” رد عليه عم أمين وواصل قائلا :” فقد بحثت لك عن مهرب ماهر وهو غائب في هذه اللحظة وحالما يعود سأوافيك فورا بالخبر، الوقت ليس لصالحك هناك اخبار…جديدة.”

كان في نبرته رعشة. لفظ الكلمة الأخيرة بتريث. لاحظ زكي توتره فتضاعف قلقه.

لاحظ عم أمين شحوبه فاردف يقول بنبرة هادئة: “لا يزال الخطر بعيدا، ولكن المعارك تتنقل كالنار في الهشيم، لا تثبت في مكان. وو..”

قطع كلامه مختلسا نظرة خاطفة من وجه زكي المنقبض ، ثم استدرك قائلا ليهديء روعه:”  لا تقلق اعتمد علي.”

ثم ألقى بصره على الطيوروشرع يخوض في موضوع آخر علّه يخفف شيئا من الذعر الذي ظهر على وجه زكي. “القبج(الحجل) هو الطائر الوحيد الذي أكرهه.”

لاحظ زكي شيئا من الانقباض على ملامح زائره حين لفظ اسم الطائر.

“هذا الطائر عدو نسله.” استرسل عم امين.”  هناك مقولة شائعة متداولة بين الشعب الكوردي مفادها:

“الكلّ أعداء الحجل، والحجل عدوّ نفسه”. صمت لحظة ثم نظر في وجه زكي وخاض في تفاصيل جديدة عليه :” اسمح لي أن أوضح الصورة أكثر: في عرف صيّادي الحجل، لا يمكن صيد الحجل إلّا من خلال اتّخاذ حجل كطعم للإيقاع بطيور الحجل الأخرى، إذ يقوم الحجل المحتجز في الشرك بالغناء وإصدار نقنقاته التي يستدرج بها بني جلدته إلى الشرك الذي يعدّه الصيّاد للإيقاع بأكبر عدد ممكن منهم. ومن النكد ان يكون موطننا المكان المفضل لهذا الطائر الخائن حيث يتواجدون بكثافة.”

صمت لبرهة ثم عاد يخاطب زكي المنبهر للمعلومة العجيبة مغيرا موضوع الكلام: “هل هذه هي الزيارة الأولى لك الى هذه البلدة ؟”

” نعم لكنني تقت دائما الى زيارة لها.”

هز رأسه ثم قال: “مدينتنا هذه معروفة بشخصيات معروفة وشعراء بارزين من امثال طاهر بك جاف واحمد بك مختار جاف وكوران .”

واخذ يدندن بمقطع من قصيدة لكوران:

هذه الليلة،

حاولتُ

قدر استطاعتي ،

ان اكتب بعض الكلمات الجميلة عنك.

لكن قلمي تجمد ،

بمجرد أن كتبت ،

أحبك.

عندما سألت عن السبب ،

قال القلم ،

إنها لا تستحق حبك ،

مثل ألوان الأوراق ،

إنها تتغير كل موسم.

 

انشدها ووجهه الى الفضاء البعيد كأنه يخاطب كوران نفسه.

ساد سكون قصير ثم استقرت عيناه على وجه زكي المتوتر وكأنه قرأ سريرته.

“أنا أقرأ همومك ولك الحق في ذلك، هناك اثنان مختصان بمساعدة الفارين على العبور: كريم وهو غائب حاليا كما قلت والثاني تاجر يتحرك عبر الحدود اسمه كوردو.”

صمت برهة ثم أشار الى قدميه:  “تحتاج الى حذاء كهذا للجبل.” كان ابيض اللون محبوكا من الوبر والجلد خفيف، يسميه الاهالي (كلاش).

ثم نهض واقفا كأنه تذكر شيئا في الحال. صافحه قائلا: “رجائي ان تبلغ تحياتي الى ست زينب وقبّل الصغيرة، عن إذنك، أنا ذاهب الى العمل.”

ولدى الباب جدد العهد قائلا بعزم: “كن مستعدا جاهزا قد نأتي لتسفيرك في اية لحظة. وساجلب لك (كلاش) وبعض الملابس التمويهية وبعض المواد للسفر وخنجر قد تحتاج اليه في حالات الضرورة.”

قال كذلك ثم رشق من خلال الباب كالسهم.

*

يتبع…

 

 

 

 

يتبع..!