سرّ الفراشة البيضاء فصل ( 8 ) – تأليف: فرياد إبراهيم

 

The Secrete of the White Butterflies

 

رواية حقيقية واقعية

 

فصل – 8

لم تمض عشر دقائق الا ودخلت زينب ومن ورائها مريم وصديقتها صافية. كانت الشمس معلقة في كبد السماء. وكالعادة اجالت الطفلة بعينيها في المكان بحثا عنه فوجدته تحت شجرة التوت المثمرة المزهرة. القت  عليه تحية عذبة ونظرت في وجهه في استحياء فقد كانت أحداث الليلة الفائتة ماثلة امامها لا تفارقها لحظة واحدة وقد طبعت آثارها على محياها التي استعادت بعضا من توردها وعافيتها.  اعتذرت وواصلت مسيرها الى داخل المنزل ثم عادت بعد دقيقة واحدة تقف امامه بقامتها الهيفاء وعينيها المكحلتين الضامئتين. قبل ان تفتح فمها أسرعت مريم اليه والقت بحقيبتها تحت الشجرة ثم بنفسها مفتوحة الذراعين بين احضانه ودفنت رأسها الدافئ في صدره الملتهب. ووقفت صديقتها على بعد امتار وراءها وحقيبتها الوردية تتدلى من يدها اليمنى وهي تنظر الى الارض في حياء وصمت .

ازاح زكي رأسها عنه بتؤدة وحينها  وقعت عيناها على جثث الطيور فهرعت اليها منبهرة الانفاس وهي تنقل النظر بينه وبين امها:

“اليوم نقيم حفلة.”

“كان هنا اذن؟” نطقت ليلى أخيرا.

“عم امين؟نعم.”

وانتقلت العيون الى مريم التي كانت منحنية على جثث الطيور وتقوم بتعدادهن في حماس وهي ترفع بعينيها اليه كي تتأكد من انها جذبت اهتمامه. انضمت اليها صديقتها بعد انتظار وتردد ، وبدورها انحنت فوق جثث الطيور تحدّق فيها باعجاب.

تبادل زكي النظرات مع زينب، كانت نظراتها قلقة ، خمّن انها قد تكون بسبب الليالي التي نامت في فراشه. مجرد حدس. جلست على المصطبة الخشبية العتيقة تحت النافذة واشارت اليه ان يفعل بالمثل. ففعل.

وكانت فعلا حفلة . بعد تبادل بضعة كلمات مع زكي نهضت وقامت بتنظيف الطيور. ثم قامت بشوي اللحم في المطبخ.

وانطلقت مريم وصافية ترقصان في مهابة وتناسق مدهش. وصافية نست خجلها قليلا. رغم ذلك كانت لا ترفع عينيها من الأرض ومن على حقيبتها التي رقدت لصق حقيبة صديقتها تحت شجرة التوت. تواصل الرقص لدقائق طويلة. ثم دعتهم زينب الى غرفة الجلوس حيث وضعت على الارض صينية كبيرة متخمة باللحم المشوي ، وقد رصفت حولها صحونا صغيرة من سلطة الطماطم والخضر. رغم التوتر الشديد الذي المّ به بعد زيارة عم امين سعي جهد الامكان في ان يبدو محافظا على توازنه.

بعد الانتهاء اومأت صافية الى زينب بإشارة فهمت منها انها تنوى الذهاب. وقد علم زكي من  زينب انها كانت يتيمة الأب. فدس زكي يده في جيب معطفه واخرج منه بعض النقود المعدنية ووضعها في جيب سترتها الرمادية. تلوت من الخجل.  “شكرا خالو.”  نطقت كلمتين فقط. ثم انطلقت كالغزال الى الباب والحقيبة العزيزة تتأرجح من يدها.

**

في الليل وبيما كانت زينب تعمل في المطبخ وتزيل آثار النهار، افرغت مريم محتويات الحقيبة القديمة البالية على الارض في غرفة الجلوس التي تحولت آنيا الى غرفة نوم:  دفاتر، اقلام رصاص، اقلام الوان، ومقطاطة وممسحة وغير ذلك كثير. وأخذت تلتقط الرسوم التي رسمتها بيديها الواحد تلو الآخر ،تريه اياها ثم تضعها في الحقيبة الجديدة الوردية: رسوم طيور، بنادق، جبال، مباني، نساء على اكتافهن كيزان ماء في طريقهن الى النبع، انهار وسهول ولكن صورة واحدة جعلتنه يمسكها بين يديه ويتأملها بدقة وخشوع.

كانت صورة لقلب دامي وقد خرقه رأس سهم من الوسط ، وتتجمع حول القلب قطرات دم.

“رسمت هذه الصورة بعد ذهابك. قالت امي انك سافرت بعيدا وستعود. هذا قلبي والسهم انت. انت جرحت قلبي ابي.”

حالما سمع زكي كلماتها الحزينة الشاكية لم يتمالك وترقرقت الدموع من عينيه.

“انها لك ..هدية.” قالت ومدت له يدها الماسكة بالصورة.

مسح دموعه بكم معطفه ثم قال لها باختناق: “لا مريم، احتفظي بها قد تحتاجينها يوما.” كان لكلامه مغزى اعمق مما يستوعبه عقل طفلة.

تظاهر بالابتسامة. لكن الذي ارتسم على وجهه حقا كان اقرب الى تكشيرة.

وأرته صورة أخرى اذهلته. صورة لامرأة بلا جديلتين. وشرعت تفسر:

“امي حكت لي قصة تقول ان المرأة الكوردية وحبا لزوجها تقص جديلتيها بعد موته وفاء له وتضعهما على قبره .”

كان المنظر والقصة اكبر مما كان يتحمله زكي.

“لاتكوني بهذا التشاؤم بنتي.” قال لها بخشوع .”انت صغيرة جدا على هذه الامور.”

ذاب قلبه رقة وعطفا ورأفة. ثم رفع رأسه نحو فضاء الغرفة وتمتم بحنق: “يا صناع الحروب ألا فكرتم باطفالكم اولا قبل ان تكونوا سببا لشقاء ومعاناة أطفال العالم البؤساء؟”

ثم انحنى عليها وضمها اليه ضمة طويلة حنونة. كاد قلبه يتفطر في تلك اللحظة . وقال لها:

“سوف أظل اباك وسأبقى أباك ما حييت. وهل يوجد اب لا يتمنى ابنة مثلك بجمالك وذكائك؟”

اعادت مريم الصور الى مكانها داخل الحقيبة وذهبت الى غرفتها فوق لايداع الحقيبة هنا.

في تلك اللحظة دخلت زينب شبه منهارة وقالت له بوجوم وبصوت كصوت الخيال:”رأيت وسمعت فصلا حزينا من فصول هذه المسرحية التراجيدية. يا ويلي كيف اتصرف معها في غيابك!”

*في وقت متأخر من الليل نامت الصغيرة كالعادة على جانبه الايمن وراسها على صدره وهي تحتضن حقيبتها وعلى ثغرها فرجة صغيرة ، بقايا آخر ابتسامة لها شاخصة قبل ان يأخدها سلطان النوم الى عالم النسيان والاحلام البريئة.

وحينها خرجت زينب من فراشها فوق وهبطت السلم وجاءت وتسللت الى فراشه في الجانب الشمالي وقالت له متستطلعة:

” ماذا قال لك عم أمين؟”

حكى لها كل ما سمع، وما جال في تفكيره. وحينها اقترحت زينب بأن يصارحا الصغيرة في اليوم التالي بانك يتوجب عليك السفر في مهمة رسمية بإيعاز من الحكومة .

“نقول لها مثلا انك تسافر لبعض الوقت لعمل رسمي ونقدم لها اغراءات كأن تشتري لها ملاعيب ودمى وراديو، وتعطيك هي قائمة بالاشياء التي تريدها، آمل ان تقبل ولو ان الامل ضعيف.”

آنست صمته المطبق فواصلت: “اراك مهموما محتارا رغم اني ادرك مصدر توترك وحيرتك، فهل لك حل ، اقتراح أو فكرة أخرى أو منفذ آخر؟”

” فكرت ان نهرب معا باسرع وقت.” كان جوابا معدا سلفا من زكي.

انتفضت من مكانها. ” ماذا قلت؟” ورفعت رأسها من المخدة تحدق في عيونه كالقطة البرية في ضوء السراج. واعاد عليها العرض.

تركت راسها يسقط. وحدقت في الفضاء. سمع هسيس أنفاسها يتسارع.

“كيف ؟ والطفلة؟ والخطورة ؟ الا حسبت لها حسابا؟”

” سأدفع للمهرب أضعاف ما يدفعه الآخرون.”

ثم فجأة تذكر زكي وسأل عجلا: “وأين حقيبيتي؟ لقد نسيت اين وضعتها؟”

“لا تخف انها في مكان أمين. في يوم وصولك كنت منهارا وسقطت من يدك.”

قامت بتؤدة ومضت الى زاوية وعادت بحقيبته ووضعها بجانبه.

تبادلا النظرات. تنهدت وهي تحدق في ابنتها النائمة خلفه:

“كم هي سعيدة بالاخص هذا اليوم.”

“ولذلك يجب ان نضحي ونخاطر لكي نحافظ على هذه السعادة، هل توافقين؟”

“ليس لي بد سوى الموافقة على كل ما يسعدها ويضمن حياتها، حبيبي زكي.” لأول مرة تناديه بحبيبها.

ساد صمت مشحون بالعاطفة. ثم فاجئته بسؤال فريد من نوعه.

” الا فكرت بالزواج؟”

” ليس الآن.”  جاء رده سريعا.

استدار وطبعت قبلة على خدها الساخن.

“سنتزوج بعد ان يستقر بنا الامر في مكان آمن.”

” أخ حبيبي أبق اذن سأشتاق اليك.”

“بل سنذهب معا.” اكد لها .

ومن ثم من باب الدعابة: “كيف سنتزوج وأنا خال الطفلة؟”

ضحكت ضحكة مكتومة. ثم أحاطت عنقه بذراعيها وشدته اليها تلهث في وجهه في نهم وشبق.

*

كانت هذه آخر أخر ضحكة وآخر ليلة له ينام فيها بين  زينب ومريم.

فعند الفجر الباكر دخل عم امين باحة المنزل وطرق على الغرفة طرقا خفيفا ونادى اسم زينب عدة مرات. نهضا معا بانجفال.

فتحت له زينب، ومن الباب خاطب زكي قائلا وعلى عجل وبلهجة الآمر وبصوت منخفض كيلا يوقض الطفلة.

“هيا بسرعة ولا تضيع دقيقة. ” كان شكله ولونه وهيئته متغيرا تماما عما ألِفه.

ونهض بسرعة البرق وهو يرتجف والتفت حوله وبسرعة القى نظرة متفحصة خاطفة اولا على الصغيرة التي كانت متغطية الى نصف رأسها واذنيها باللحاف ، ووجهها يقابل الجدار باعثة شخيرا ناعما.

تفاجأ بالحقيبتين الكبيرتين المنتصبتين عند عتبة الباب. عينا زينب انبأته بما فعلت الليلة الفائتة. انتظرت حتى ينام هو ثم نهضت بهدوء وقامت بترتيب ما يلزم استعدادا لرحلتهم الابدية المفاجأة وتحسبا لأي طارئ. عدّ الامر غاية في الفطنة والدراية والحكمة. رقت درجات إضافية في عينيه.

كان عم أمين يقف الآن في وسط الباب كالشبح مغطيا رأسه ووجهه متلحفا بوشاح اسود لا يبين منه سوى نصف وجه ويديه.

“بسرعة احمل حقيبتك.”

استدارزكي ليلقي نظرة أخرى على الطفلة فإذا بيد عم امين تمسك بذراعيه من الخلف ككلابتين.
“ولا دقيقة.. احمل حقيبتك واتبعني.”

” ومريم وأمها؟” قال زكي واراد ان يوضح.

“هيا زكي احمل الحقائب ريثما اهيأ مريم.” قالت زينب وهي ترتجف كالريشة في مهب الريح.

ولم تتمكن من الحركة. اعترضتها يدا عم أمين الذي سحب زكي بقوة الى الخارج. ومن هناك شرح لزينب ما حصل.

“هناك دورية عسكرية في طريقها الى هنا، لا تسع السيارة سوى لفرد واحد. هيا.”

توسعت حدقتا زينب لهول الخبر ووضعت راحة يدها فوق صدرها موقع القلب وعيناها تشعان قلقا.

وعاد زكي الى الطفلة وانحنى فوقها ليلقي آخر نظرة. فإذا بيد زينب على كتفه تحذره بصوت لا يكاد يسمع.

“اياك ان توقظها. هيا بسرعة وبدل ملابسك.”

كانت ملابسه التقليدية مكومة في زاوية من الغرفة. ارتداها بسرعة متناهية. وحمل حقيبته الشخصية واندفع الى حيث عم أمين بالباب يغلي هيجانا.

“هيا زكي بسرعة وامكث في ايران وسنلتحق بك بعد ان يهدأ الوضع. لا تسافر لوحدك سنلتحق بك بعد ان يهدأ الوضع.” كانت هذه كلمات زينب الأخيرة. كررت عبارة “سنلتحق بك بعد ان يهدأ الوضع.”

وعدها واقسم لها . وبعد أن طبع قبلة عاجلة على شفتيها المتيبستين أنطلق يعدو حيث عم امين يقف في انتظاره كالشبح في وسط الطريق ملوحا اليه بحركات عصبية من يده.

كانا قد بلغا منتصف الطريق واذا بصوت حاد وراءهما يناديهما بحرقة. وإذا بخيال طفلة تركض كالسهم حافية نحوهما.

وبعد ان تبينها زكي تحت غطاء الفجر الكاذب الكثيف ناداها وهو يضغط على كل كلمة نطقها خشية ان يوقظ الجيران:

” مريم؟! هل أنت؟! عودي! يا ربي ما ايقظها.”

لكنها لم تقف واقتربت منهما وناولت زكي كيسا ورقيا أسمر اللون كبيرا منتفخا.

“ماهذا؟” سألها زكي وقلبه يكاد يتفطر لها ولعذابها النفسي ومعاناتها في تلك اللحظة الفارقة بين حقبتين زمنيتين وهو من الدهش في نهاية ولا يزال يتمتم مع نفسه حانقا : ما ايقظها! من ايقضها؟”

كان نفس الكيس البني الذي ضم حقيبتها الوردية التي ابتاعها زكي من الحانوت. رفعت رأسها اليه بثبات لم يتوقعه وقالت له في هدوء عجيب:

“بابا زكي، لن ادعك تذهب الا بعد ان تعدني بالعودة؟”

“احلف لكِ.” وعد زكي واقسم بالله وتالله و والله ثلاث مرات.

حينها رفعت عيناها الناعستين اليه وأشارت الى الكيس بين يديه: “خذ هذا ، كنت اخاف ان تذهب وتنساني ، واعطيك هذا كي لا تنساني.”

قالت ذلك لاوية شفتيها. اختنق بكاؤها في حلقها وسط الظلام الكاذب. انحنى وطبع آخر قبلة فوق خديها الساخنين وسط بكاء الأم التي  إلتحقت بها لاهثة. اخرج من حقيبته ثلاث رزم من الدولارات ودسها في يدي زينب. قائلا لها:

“اعتني بها جيدا سأعود في اقرب وقت مناسب.”

ولم يتمكن أن يضيف حرفا واحدا. فقد كانت قبضتا عم أمين له بالمرصاد.

*

يتبع…