دمار البيت ( 8) – من رواية الإرهاب ودمار الحدباء- عصمت شاهين دوسكي

 

مرت جميع التخيلات التي رواها التاريخ من السيطرة العثمانية لولاية الموصل إلى حركة الشواف والانقلابات والثورات ، حقائق شاهدتها المخيلة الإنسانية متأرجحة بين عقل راجح وذكاء وافر وبين تأثير رابح وتعد سافر وبين العالم والجاهل سواء في عدم القدرة على التمييز بين الماضي والحاضر وبين غانم وخاسر ،كانت الموصل وأهل الموصل حقل تجارب للآخرين بين خراب ودمار وبنيان عامر ، ربما يقول معترض هذه سفسطة فالواقع غير هذا ،وهنا يستلزم سرد عدد كبير وعظيم من الحوادث ، لكن أقول لا يكفي لهذا العمل الإنساني عدة مجلدات وكتب وروايات ،لا أريد أن اترك القارئ العزيز أمام حوادث لا دليل عليها ،لا آتي بحوادث رأتها عيني فقط  بل اروي من بين ألاف الحوادث المأساوية التي عشتها ويمكن سرد واقعة انهيار ودمار بيتي ، وهي من الأدلة الواقعية التي كنت أتخيلها سابقا واراها أحيانا في شاشة السينما البيضاء عندما كنا صغارا ومراهقين نرى أفلام الحركة وأفلام الحروب الهوليودية العالمية التي تغير وتوجه دماغ البشر لما هي تريد ، فقد ضمت الجماعات في صفوفها جاهلا غبيا وعالما ألمعيا ،كانت المناطق الموصلية تسقط بيد الجيش العراقي واحدة بعد الأخرى ،والهزيمة المدمرة ينالها الدواعش مع فقدان المواد الغذائية ، المحلات فارغة والطلب على المواد الغذائية أشد طلبا من قبل وأصبح مثلا كيلو طماطم ناعمة ” ثلاثة آلاف دينار ” والبيضة الواحدة ” ستة آلاف دينار ” وعلبة الطحينية ” اثنا عشر ألف دينار” وكيلو السكر ” خمسة آلاف دينار” وبطل الوقود اللتر أكثر من “عشرة آلاف دينار ” والسيكارة الواحدة تباع في منطقتنا أكثر من ” ألفين دينار ” وكان الشباب يتاجرون فيها خلسة ،كانت الفرقة التاسعة العسكرية تطوق مناطق ” حي الصحة  والسلام والشفاء والانتصار وحي الوحدة ودوميز وسومر ساقطة عسكريا “، الطائرات الأمريكية والعراقية تقصف والمدرعات تقصف والهاونات والقاذفات تقصف بشكل مستمر ،ومن جهة أخرى الدواعش بين البيوت يقصفون وأكثرها تقع على الناس الأبرياء والموتى من المواطنين الأبرياء كانوا يدفنون أجسادهم في حديقة البيت وحديقة المدرسة ،خوفا من التجمعات وقصف الطائرات الحربية ورؤية أي تجمعات من قبل الطائرات يعني دواعش أي معرضة للقصف مباشرة ،أعلام اليأس والهزيمة ظاهرة على ملامح وجوههم ، كنا نقضي النهار في البيت حيث سيارتي مركونة في كراج البيت منذ زمن وأشجار البرتقال الثلاثة مثمرة بثمار البرتقال رغم قلة الماء ،كنا نوزعها على الجيران وشجرة العنب زرعتها صغيرة جدا نمت وارتفعت بسرعة وصلت سيقانها ، أغصانها لسطح البيت حيث عملت لها خيوطا قوية من أسفلها إلى الأعلى وربطها فوق السطح بأماكن قوية خوفا من هبوب الرياح القوية ولكي تتسلق الأغصان بسهولة إلى العلى وكنت سعيدا بوجودها وأداريها كأنها قطعة من أحشائي ، وفي الليل كنا ننام عند الجيران بيت ” أبو احمد”  مع بناته وأخته وابنه الوحيد ، هذه كانت طبيعة أهل الموصل في الأزمات يجتمعون ، القوي يصبر الضعيف نفسيا ،ولأن ” أم سيلين ” زوجتي كانت تخاف كثيرا من القصف المستمر ليلا ،والليالي كانت مرعبة موحشة كئيبة فلا نوم بل خوف وقلق وترقب لا ندري نرى فجر اليوم التالي أم لا ، وكانت الصواريخ وقنا بر الهاون تقع قريبة من بيوتنا وكانت ” أم سيلين مع أم احمد وسيلين ” مع البنات في غرفة، ” وأنا مع أبو احمد وأحمد ” في غرفة لوحدنا وطول الليل أبو احمد مع سماع صوت القصف يقرأ آيات قرآنية ويدعو وكنا ندعو معه ،امتلأت الشظايا في ساحة المدرسة التي تقع مقابل بيتنا وفوق السطح ، سمعنا خبرا في ليل لم ينته من الصواريخ والقاذفات والهاون وصوت الرصاص القريب ،قالوا الفرقة التاسعة بدباباتها وهمراتها وأفرادها هجمت على موقع مستشفى ” السلام العام ” ووصلت آلياتهم العسكرية داخل المستشفى والناس رأت همراتهم في منطقتنا ، فرحنا كثيرا  قلنا إذا انتهت أصبحنا منطقة ساقطة عسكريا لأن حي الوحدة الذي يوجد فيه مبنى مستشفى العام بعدنا أي منطقتنا أصبحت خلفها ،أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من التحرير بشكل كامل ،وبعد يومين من سيطرة القوات العراقية على مستشفى السلام بحوادث قتالية فريدة حدثت في أروقة المستشفى راح ضحيتها المدنيين وقتل الكثير من الطرفين أعداد كثيرة من الدواعش والعساكر والضباط ،وأكثر الناس يموجون كأمواج البحر ،يهربون ، يمدون أيديهم لإنقاذ الآخرين الذين سقطوا تحت الأنقاض من أطفال ورجال ونساء .

وبعد هدوء نسبي قصير جدا عادت الطائرات الأمريكية لتقصف وبقوة المنطقة المحيطة بمستشفى السلام وكانت أهدافهم التدمير الشامل للمستشفى بحجة وجود الدواعش والآليات العراقية المختلفة والشوارع والأزقة دمرت وبسبب هذا القصف الكثيف انسحبت القوات العراقية من المستشفى تاركة كل معداتها العسكرية ودباباتها التي اغلبها احترقت بسبب القصف الجوي ،وخلالها هجم الدواعش مرة أخرى وأعادوا السيطرة على المستشفى بعد أن أصبحت أطلالا وهياكل وحجزوا الكثير من العساكر والضباط والياتهم القتالية التي كانت مركونة في ساحة المستشفى ، المحجوزون نهايتهم الموت ولكن بعد فترة قصيرة هجمت الفرقة الذهبية التي كانت هذه المنطقة خارجة عن مهامها العسكرية ،دخلوا واقتحموا المستشفى وأنقذوا المدنيين والمرضى والضباط والأفراد الذين كانوا في سرداب المستشفى تحت الأرض وأنقذوهم ، والجيش انسحب كليا عائدا إلى مواقعه الأولية في ” حي السلام والصحة والشفاء والانتصار ” ،هذه العملية الفاشلة عسكريا تركت آثارا كبيرة على نفسية المواطن الموصلي فهو لا يتحمل الهزائم العسكرية بل يحتاج إلى أمل وبشرى التحرير ،خرجت المستشفى عن العمل وخرجت الكثير من الشوارع عن مهمتها في المرور لقوة الصواريخ المتطورة التي جربوها ويستخدمونها لأول مرة في العصر الحديث ،تركت آثار وبقع واسعة وحفرا عميقة حتى الماء كالنافورة القوية يخرج من العمق الأرضي ، والأسر العائلية المجتمعة في بيت كبير قرب مبنى المستشفى الصواريخ سقطت عليه ، لم يجدوا حتى جثثهم بل وجدوا قطع صغيرة من اللحم البشري لصقت على الجدران المشروخة ، أصابنا وأصاب الجميع اليأس والخيبة حتى انعدمت فينا حاسة أبصار الأشياء على حقيقتها ،وبعد إن كنا قاب قوسين أو أدنى من التحرير انسحبت القوات العسكرية وعاد القصف اشد من الطرفين جوا وبرا ،وتبدلت الحقائق والخيالات لا ارتباط ما بينها ، وعندما نجتمع نحن رجال وشباب المنطقة القليلون نسبيا على عدد أصابع اليد في بيت ،لأن أكثرهم هربوا للخيام ،يتساءل الواحد منهم والألم في أعماقه :

لماذا انسحبوا وقد سيطروا على المنطقة بهجوم سريع وخاطف وكنا نرى أثنائها هروب الدواعش بالدراجات النارية والسيارات ؟!!

قال الثاني محللا : إنها خطة عسكرية لم تقترب ساعة تحريرنا ؟

فأجاب الأول بسرعة وتذمر : ومتى يقترب الوقت ، عندما لا يرونا إلا أن انتهينا ،جثثا في بيوتنا وشوارعنا أو لا يجدوا لنا أثرا مثلما حدث في بيوت كثيرة ..!!!

ودب الصمت والهزيمة النفسية في دواخلنا ، هذه العمليات العسكرية الهجومية ثم التراجع والانسحاب حدثت في كثير من المناطق لا لتحرر بل لتعطي ضحايا وتدمر الناس وتخسر أفراد الجيش والضباط ،الدهشة والاستغراب والمصير المجهول أضعفت النفوس والقلوب ومسلسل الهروب جماعيا مستمر منهم من يقتل برصاص الدواعش عندما يكتشف الأمر ومنهم من يصل إلى الخيام واتفق الجميع في شارعنا على الهرب ليلا ما عدا بيت ” أبو احمد وأبو هيثم وعائلتي ” ،لكل واحد منا أسبابه ، أم سيلين كانت مريضة بنيتها متعبة لا تقوى على المسير وتحمل تعب الطريق رغم إلحاح ” سيلين ” على الهروب والخروج من هذا الوضع الذي يحتاج إلى مجلدات للوصف ، سيلين رغم صغر سنها الثامنة عشر كانت قوية تواسي أمها وبنات الجيران وتبتسم لهم رغم آلامها المخفية وتقف بجانبهم معنويا وتحكي لهم ذكريات ودعابات خفيفة ، لا ادري هذه القوة والإرادة والصبر من أين أتتها ، سبحان الله أبو أحمد لا يستطيع الهرب بسبب عدم قدرة بناته وزوجته على الهرب ، وأبو هيثم متردد بين الهرب والمكوث ،ورغم كل هذه الأحداث كانت أم سيلين تحضن القرآن الكريم لا يفارقها ، صبرنا ، تحملنا الأذى والجوع والحرمان والوقوف كل يوم في طوابير للحصول على ماء البئر ، ومن كثرة استعمال ماء البئر وجوه الناس تغيرت تميل للسواد بسبب المعادن الموجودة واصلا ماء البئر غير صالح للشرب ،وبدأت الأمراض تنتشر بين الناس ومنهم من لقي حتفه لعدم وجود الدواء والعلاج ،ومرت شهور مظلمة قاتلة نموت كل يوم ألف مرة ،وتأخر تحريرنا ونحن بين مطرقتين مطرقة الصواريخ الحربية وقاذفات وأسلحة الجيش البرية التي تتساقط على المنطقة كالمطر، وبين رد الدواعش الذي اغلبه طائش يقع على بيوت الناس ، وفي ظهر يوم 10 / 1 / 2017 سمعنا صوت المدرعات قريبا خرجت ابنتي ” سيلين ” من الغرفة وصرخت والدموع في عينيها :

* بابا ، بابا دخل الجيش سمعت صوت آلياتهم العسكرية ، أنا سمعت صوت المدرعات خلف بيتنا .

حضنتنني وبكت بحرقة وبكيت معها ، كأن دموعنا هي التي تتحرر قلت لها :

حضري وجبة غذاء ما موجود لدينا ونذهب لبيت أبو احمد نبشرهم لم تصبر أم سيلين عندما سمعت الخبر قالت :

تعال أبو سيلين ساعدني في عبور السياج  ” السياج الداخلي ما بيننا وبيت أبو احمد ” .

ساعدتها وهي فرحانة وخائفة في نفس الوقت ،

وقلت لابنتي :

أسرعي لكي نعبر نحن أيضا لبيت أبو أحمد .

وساعدتها في المطبخ ،وكانت أم سيلين تصرخ علينا وتستعجل عبورنا ، وفي الساعة ” الثانية عشرة وثلاثون دقيقة ظهرا ” حملنا وجبة الغذاء البسيطة وعبرنا أنا وسيلين خلال سلم وضعناه للعبور على السياج ،وحضروا مائدة الطعام والجميع يتأمل خيرا بوجود القوات العسكرية التي اقترب صوتها ،وسمعنا صوت الرصاص الكثيف فوق سطحنا يتساقط بكثافة واقتربت الصواريخ فتركنا المائدة وتجمعنا تحت الدرج ندعو وإذا صوت صاروخ قوي رج البيت واهتز كل شيء حولنا وجميعنا يصرخ

الله اكبر الله اكبر اكبر، لطفك يا الله لطفك يا لله لطفك يا الله

وسمعنا صاروخ ثاني أقوى من الأول قلب كل أثاث البيت وتكسرت والأبواب سقطت الأتربة وضباب التراب ملأ وجوهنا أخفيت سيلين وأم سيلين وجسدي فوقهم وكذلك احمد واحمد غطوا بأجسادهم البنات إن شرخ جدار غرفة الاستقبال صراخ مع بكاء ،واضطراب وحالة من الفزع والرعب دخلوا علينا بيت أبو هيثم وبسرعة قالوا :

اخرجوا ، اخرجوا بسرعة ربما  يعاد القصف مرة ثانية

خرجنا بلا وعي ونظرت إلى بيتنا وجدته دمر بالكامل لقوة الصاروخين لم يبقى سقف ولا أثاث ولا غرف ولا سيارة ولا مكتبتي كل شيء أصبح كومة ركام مجرد أحجار ،خرجنا وأنا احضن ابنتي سيلين بيد اليمنى وأم سيلين بيد الشمال أحاول أن لا يروا منظر بيتنا المدمر وهم يبكون وسيلين تصيح :

بابا بيتنا راح ، بابا بيتنا راح

بكيت معها وأقول لها واكرر :

الحمد لله أنت وأمك بخير

وأنا امنع أن ترى أم سيلين منظر البيت الذي كان يسمى بيتا لا تتحمل أبدا هذا الواقع المؤلم ،ودخلنا بيت أبو هيثم بسرعة ، وأم سيلين وهي تبكي تردد :

أبو سيلين صار شيء لبيتنا

أقول لها والدموع في عيني :

قولي الحمد ، نحن بخير

فتقول :

الحمد لله ، الحمد لله ، الحمد لله

لا ندري كيف قضينا تلك الليلة المرعبة ، بين صمت وبكاء والجميع يواسيني ويواسي أم سيلين التي لم تفارق القرآن الكريم بيدها ،  بعدما عرفنا تفاصيل ما حدث لبيتنا وكأننا في عالم آخر لكن لم نترك قول :

الحمد لله ، الحمد لله ، الحمد لله

*****************************

* انتظروا الجزء التاسع من رواية الإرهاب ودمار الحدباء