مرة فترة زمنية لا بأس بها، لم أزر فيها مركز المدينة، فقررت زيارة المركز الذي كدت أنسى ملامحه في إحدى العطلات الإسبوعية. لم أزر قلب المدينة لأنه لم يكن هناك مناسبة لمثل هذه الزيارة، أولآ بسبب توفر كل شيئ في حينا، وثانيآ لعملي عدة سنوات خارج مدينتنا ولهذا لم يكن هناك لدي مزيدآ من الوقت للقيام بمثل هذا المشوار أو لربما شعور باطني أن المركز هو هو لم يتغير. وساعدني على إتخاذ قرار النزول إلى مركز المدينة الجو الربيعي الجميل، والممل من حينا وشوراعه ومحلاته ومقاهيه الذي كنت أعيش فيه لفترة عشرين عامآ متواصله.
أخذت المترو (قطار الأنفاق) وبعد حوالي نصف ساعة وجدت نفسي في المحطة التي تتوسط المدينة، وتلك التي عليّ الترجل فيها من المترو والصعود لسطح الأرض. وأثناء سير المترو جددت معلوماتي فيما يتعلق قوانين ركوب المترو المعلقة على جدران المترو الداخلية وبخط عريض، وقراءة بعض الإعلانات والملصقات الملصقة على جدران المترو الخارجية والداخلية. إضافة إلى ذلك أخذت أقرأ في وجوه الناس وأقول في نفسي هذه تشبه فلانة، وذاك يشبه فلان، وهذه رفيعة وهذه سمينة، وذاك مربع الشكل، وهذا الوجوه جديد عليّ، فأنا من الناس الذين يكرهون إستخدام الهاتف خارج نطاق المكالمات الهاتفية الضرورية. ولم أكن قد أخذت معي كتابآ للقراءة على الطريق، وقبل خروجي من المحطة أخذت نسخة من جريدة “المترو” وهي مجانية، وأكثرها موادها دعايات لمنتجات و90% مما تلك المواصفات المعروضة عن تلك البضائع كذب وعملية إحتيال على الناس لدفعهم لشراء تلك المواد، ليس لأنهم بحاجة إليها، وإنما هو مرض العصر الذي يسمى “إدمان الشراء” أو ثقافة الإستهلاك إن أردت.
أحسست بشعور المسافر ونحن نسير نحو مركز المدينة يمكن بسبب مرور وقت طويل لم أكن قد ركبت المترو نفسه، وثانيآ القيام بمثل هذه الجولة. بقيت واقفآ طوال الفترة إلى أن وصلنا إلى المحطة المعنية فترجلت من المترو وترجل معي المئات وصعد إلى المترو مئات أخرين في المقابل، وتابع المترو سيره إلى نهاية الخط، الذي لا أتذكر إن كنت شاهدته، لأن خطوط المترو مثل عمر الإنسان تطول مع مرور السنين.
لم أشأ وضع الجريدة في حقيبة الظهرة الصغيرة التي كنت أحملها على ظهري، فقلت في نفسي دقائق سأصل إلى المطعم الذي نويت زيارته والجلوس فيه، وهو في الواقع مطعم ومقهى وبار كله في كيان واحد. وإستمعت كثيرآ بالتغيرات التي شهدها شوارع المركزية للمدينة، نتيجة التحديث الذي طرأ عليها، وظهور بنايات جديدة وإختفاء أخرى، ونفس الشيئ بالنسبة لبعض المحلات المعروفة ومن تلك الدكاكين ضمنها دكاكين الكتب، هذا أكثر شيئ لفت إنتباهي!!!!
وأنا أسير من شارع لشارع خطر على بالي فكرة إخفتاء ذاك المطعم المقهى أيضآ الذي أنا ذاهبٌ إليه وكلي رغبة، كذاك الشاب المواعد صديقته الجديدة ومجهز نفسه وحفظ بعض الكلام من الكتب وبعض أبيات الشعر ورتب أفكاره سلفآ، ماذا سيقول لها، وكيف سيتصرف أمامها ويستعرض شخصيته التي لا يشبها أحدآ سوى جميع بني البشر هاهاها!!!!
ما أن دخلت الشارع حتى وجدت مكاني المفضل مازال موجودآ مع بعض التحصينات هنا وهناك، وذكرتني بتلك السيدة التي قطعت الستين من عمرها وغزا وجهها التجاعيد والشيب شعرها، فحملت نفسها وذهبت للجراح لإعادة الشباب إليها، فلا عادة سيدة مسنة ولم تعود شابة فلم تعد تشبه نفسها كحال مطعمي. حيث وجدت مطعمي الكلاسيكي الرائع، صنعوا منه شيئآ غريبآ لا يشبهه سوا شعر ذاك الشاب الذي دن شعره بعدة ألوان لا يجمعهما جامع، سوى رأسه ذو النصف الحليق كعرف الديك!!!
دخلت إلى المطعم وجلست بالقرب من إحدى النوافذ الكبيرة التي تشبه نوافذ القطارات الحديثة من حيث الحجم، لأمتع ناظري بالمناظر الجملية كون المطعم لا يفصله عن ضفة النهر سوى الشارع المخصص للسيارات والترام. وعلى الضفة الأخرى من النهر بيوت كلاسيكية جميلة صفوف تعلو الصفوف وهكذا حتى قمة الجبل أو إن شئت تلة عالية.
جلست على طاولة يحيط بها من جهتين كرسي يشبه الكنبة وكرسي من الجانب الثالث وبجواري مباشرة كان يجلس رجل وسيمآ ويرتدي لباسآ أنيقآ واضعآ على رأسه بين شعره نظارة سوداء ويشرب مشروبآ بدا لي كحوليآ فحييته بإيماءة من رأسي وجلست بعد أن وضعت حقيبة الظهر على الأرض بين عامود الطاولة وأقدامي لأن هاتفي وأشياء أخرى شخصية كنت أحتفظ فيها، ومن ضمنها مفاتيح البيت، دفتر أرقام الهوات والعناوين ورزنامتي وأشياء أخرى. وتفحصت المكان وأنا أسعى للجلوس وتبصرت في وجوه الجالسين وخاصة النسائية منها ولم أجد بين الحضور ما أعرفهم.
وما أن جلست حتى أخذت أتصفح الجريدة التي جلبتها معي من محطة المترو، وبعد دقائق جاءت العاملة ذات العيون الزرقاء والشعر الأشقر والقامة الفارعة، وتفضلت علي بإبتسامة عريضة كعادة العاملات في المطاعم والمقاهي وسألتني بعد التحية:
هل تريد أن تأكل أم تشرب أم الإثنين معآ؟
أجبتها أريد فقط قدحآ من النبيذ الأحمر وزجاجة كولا باردة إذا تكرمت.
ردت: بكل سرور، دقائق وطلبك سيصلك.
قلت: شكرآ سيدتي البهية.
تكرمت علي بإبتسامة أخرى ولكن هذه المرة غير مصطنعة وعلى ما يبدوا إستلطفت هذا الثناء اللطيف.
ذهبت العاملة وأنا تابعت تصفحي عناوين الأخبار والإعلانات التي حملتها الجريدة. ولم يمر وقت طويل حتى جاءت سيدتي الجميلة بطلبي ووضعته برشاقة على الطاولة وقالت:
تفضل يا سيدي وصحة مسبقآ.
أجبتها: شكرآ وسلمت أناملك.
سكبت جزءً من الكولا البارد في قدح النبيذ فأنا أفضله هكذا وهو فعلآ لذيذ، وأنصح الجميع بتجريب هذا الخليط، وأخذت أشرب النبيذ وكان قدحآ مضاعفآ أي من النوع الكبير. وبعد مرور وقت لبأس به و قدرته بحولي نصف ساعة أو أكثر، وإذا أحد يتبتب على كتفي الأيسر بهدوء فإلتفت ورأيت ذاك الرجل الوسيم مازال جالسآ ولكنه يضحك!!!!
سألته بإستغراب قائلآ له:
ما الأمر وما يضحكك؟
أجابني قائلآ:
هل ترى ذاك الرجل؟
قلت: أي رجل منهم؟
قال: ذو الشعر الأجعد والذي يرتدي سترة سوداء مقلمة ببعض البياض.
قلت: نعم الأن أراه، ما به؟
قال: منذ لحظة طالب الحساب.
أجبته: وما الغريب في ذلك؟
أجابني وهو مازال يضحك لكن بصوت هادئ نسبيآ:
إنه لا يملك المال؟
سألته بإستغراب:
كيف عرفت أنه لا يملك المال؟ وأتبعت سؤالي هذا بسؤال أخر قبل يجيبني وقلت: هل أنت طبيعي أم أنك أكثرت من الشرب أو قد تناولت بعض المخدرات؟
ضحك وقال بصوت أعلى من ذي قبل:
لا هذه ولا تلك!!!!
قلت قل لي إذآ كيف علمت أنه لا يملك نقودآ في جيبه؟؟
أجابني قائلآ: محفظته معي!!!!!!!!!!!!
صعقني بكلامه هذا وردت فعلي الأولية كانت أن مديت يدي مباشرة إلى جيب بنطلوني حيث كانت محفظتي، وخلال ثواني عندما تأكدت من وجود محفظتي في جيبي، إلتفت إليه فلم أجده وكأن الأرض إنشقت وإبتلعته!!!!!
02 – 09 – 2022
النهاية.