ثقافة الاستئذان ، الملكية الفكرية و حرية التعبير – بقلم خديجة مسعود كتاني

 

أوجاع حرية التعبير (وجع التنفس في كيس مغلق) قد يؤدي بنا عدم منع إعلاء صرخاتنا الخاصة حال أتيح فضاء مناسب للتعبير عن مكنونات الالم٠ هكذا يوضح الراحل (د٠سليمان إبراهيم العسكري) في حديث الشهر ، بأن يجب ان يولى لها  نظرة خاصة من زاوية ثقافية ضمن رؤية ترتقي بنا فيً مناحي حياتنا الاجتماعية أو السياسية والاقتصادية كحق بديهي من حقوقنا٠

ولا يمكن ان نظفر بذلك الحق الا عبر معالجة ثقافية لجذور المنحى الذي تسير فيه ، لاشك أن تلقى ذات الاهتمام على المستويين القطري والعالمي ، ويتضمن ذلك بداهة حق كل إنسان في إعتناق القيم والآراء التي ينتقيها أو يصل اليها بإختياره وبحثه، دون أن يلقى أي نوع من الاضطهاد أو الاعاقة ٠ مادام لا يتجاوز أو يعتدي بهذه الحرية على حقوق الآخرين  وحريته في التعبير عن هذه الآراء تكون مدعومة بشتى الوسائل إضافة الى (حريته في الحصول على المعلومات المطلوبة ونقلها الى الآخرين) في إطار إبداعه الخاص٠

ولا يخفى علينا أن حرية (الرأي والتعبير) من مقومات النظم الديموقراطية كمرفق عام يعكس حدود نطاق حركة الافراد داخل المجتمع ومدى توفر التعددية الثقافية السائدة في ظل الحرية التي ينظمها القانون٠

لذلك فإن حماية الدولة لحرية الرأي والتعبير ، تستلزم حرية إصدار الصحف وحرية ملكيتها في ظل تنظيم قانوني لهذا الحق يتسم بالشفافية من معايير وشروط قبول أو رفض ، ومنح التراخيص اللازمة لذلك ، وعدم التضييق على السبل الممهدة في ممارسة تلك الحرية ٠ إن هذا الحق البديهي من حقوق الانسان أشار اليه المؤتمرات من زوايا قانونية حين أوضح

(د٠محمد نور فرحات) (أن القيمة الفكرية الكبرى التي تحكم ضمير عالمنا اليوم هي قيمة حقوق الانسان) ووفقا للدستور الدولي لحرية الرأي والتعبير (المادة ١٩ من الاعلان العالمي لحقوق الانسان) تنص على أنه (لكل إنسان حق في حرية التعبير ويشمل هذا الحق حريتهما في التماس مختلف ضروب المعلومات والافكار ، تلقيها ونقلها دونما إعتبار للحدود. سواء على شكل مدونات ،مطبوعات أو معلومات مسموعة في قالب فني يختارها الفرد. لكن هذه الحرية تدور في حلقة صراع بين الحقوق والحدود والمسؤوليات ،  تستوجب إخضاع هذا الحق لعدد من القيود ٠ ولكي لا تتحول هذه القيود الى إجراءات تعسفية تنال من مكانة (حرية الرأي والتعبير)، تم وضع بعض الشروط اللازمة التي تحد من ضغط القيود المفروضة بالقانون أي بأداة تشريعية ٠ ومن المفترظ ان يكون البرلمان الذي يضع التشريع منتخبا بطريقة ديموقراطية حرة وممثلا للشعب تمثيلا حقيقيا٠ وتكون هذه القيود الزامية ، لاحترام حقوق الاخرين وسمعتهم  ، ولحماية الامن القومي ، النظام العام ، الصحة العامة ،أو الآداب العامة٠ وتحظر بقانون نصه (تحضر بالقانون أي دعاية للحرب ودعوة للكراهية القومية والعنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة والعنف ٠ من جانب آخر هناك إتفاقيات دولية والتي وافقت عليها الجمعية العامة للامم المتحدة في (١٦ديسمبر ١٩٥٢م ) والتي تهدف الى مكافحة المعلومات المحرفة التي من شأنها تلحق الاذى بالعلاقات الدولية وذلك باذكاء حس المسؤولية لدى أولائك الذين يحترفون نشر الاخبار٠

أما بالنسبة لحماية حقوق الافراد إضافة الى فرض القيود لحمايتها أصدرت الجمعية العامة للامم المتحدة (ديسمبر ١٩٩٠) إعلانا بالمبادئ التوجيهية لتنظيم ملفات البيانات الشخصية المعدة بالحاسبات الالكترونية ، ونصت على ضرورة إدخال هذه المبادئ في التشريعات الوطنية ٠ هذه المبادئ هي (مبدأ النزاهة في جمع المعلومات ، صحة البيانات ودقتها ، الغاية من جمعها ، معرفة الاشخاص محل هذه البيانات٠ هكذا تعد الحدود المحيطة بحرية الرأي من القضايا المهمة في التشريع الدولي ، الاقليمي والمحلي في ظل ثورة صناعة الاتصالات. فالسرعة الهائلة لتدفق المعلومات في عصر الفضائيات المفتوحة  التي لم تعد مقصورة في تأثيرها على الصحافة وحدها ، بل تجاوزت وإمتدت لتشمل كل وسائل الاعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة وحتى المتخيلة ٠ تتميز ثورة الاتصالات من الناحية التقنية بثلاثة خصائص : تلاشي المكان (الحدود) ، إختزال الزمان ، صعوبة تحقيق القيود الادارية كما يؤكد الدكتور (محمد نور فرحات) ، على أن قضية (حرية التعبير) لم يعد من الممكن إعتبارها شأنا محليا خاصا (فهي قضية إنسانية عامة منذ بدايتها التأريخية) ، ولها تأريخ طويل من الصراعات لايقتصر على البلدان النامية المحرومة من الديموقراطية ٠ حيث شهد تأريخ الدول الديموقراطية الليبرالية (التي تعتبر فلسفة سياسية تأسست على مبدأ الحرية والمساواة والمبدأ ألثاني يتجلى أكثر في الليبرالية الاجتماعية) ذاتها أزمات وصراعات طويلة كان ضحيتها (حرية الرأي والتعبير) وهناك قائمة تتصدرها الحربان العالميان ، ثورة قمع طلاب العالم  ( ١٩٦٨م ) الحرب الباردة بين المعسكر الاشتراكي في الشرق والمعسكر الرأسمالي في الغرب والتي حدثت في الدول الديموقراطية والليبرالية على حد سواء٠

أما في العصر الراهن تبنت المنظمات الدولية والعالمية وأقدمت على أنتاج الخطاب الجاري عن حرية (الرأي والتعبير) مع الدعم المادي للحكومات ومنظمات المجتمع المدني ولكن ظلت محبوسة لعدم فعاليتها السياسية داخل لغة دبلوماسية مهذبة على شكل دعوات ومبادئ قد تتفق حولها دول ذات سيادة قومية٠

(الملكية الفكرية ) لايخفى علينا منتج العقل البشري وهو ذو قيمة إذا طرح للبيع وقد تكون هذه الملكية ؛ إختراع ، فكرة ، عمل أدبي أو علمي ، تركيبة كيميائية ، عمل ، اسلوب عرض …الخ والملكية الفكرية شأنها شأن أي ملكية كالعقارات الاراضي وغيرها ٠ لكن ثمة فارق كبير بين الملكية الفكرية والملكية التقليدية وهذا ما يدعو الى الارتباك والجدل في الوقت الحالي٠

ففي الملكيات التقليدية إذا حصل أحدهم على هذه الملكية فله الحق المطلق في استخدامها فمثلا لو إشتريت تفاحا لك كامل الحرية في كيفية استخدامها ، سواء تنتج منها العصير ، تضيفها الى الكيك قد تهجنها أو تقدمها طازجة كمثل بسيط٠ في الملكية الفكرية فإن اشتريت كتابا من غير المسموح لك أن تستنسخه ٠ ولقد إستطاع أصحاب هذه الملكية باستخدام التكنولوجيا أن يتحكموا في كيفية استخدامك لهذه الملكية فمثلا في حالة شراءك (قرصا مدمجا) سي دي ، رغم أنها آلت اليك لايمكنك استنساخ أغنيات (السي دي ) على حسابك الشخصي لو تلف حتى لو لم يكن لاغراض تجارية وهدفك عمل إبداعي كانك تضيف قطعة موسيقية من تأليفك٠ مما يؤدي الى خنق الابداع والتسبب في آثار سلبية على المجتمع ككل ٠

لب الموضوع هو يجب عدم التعامل مع الملكية التقليدية والفكرية على حد سواء ، وإلا تصب في مصلحة فئة صغيرة من المجتمع وهم (الموزعين ، المنتجين ، وليس المبدعين على الاغلب) على حساب المجتمع كله، وستصبح الملكية الفكرية (إحتكارية) ٠ ويذكر المؤلف (لورانس ليسيج ) أن المشرعين الامريكان من الاوائل الذين وعوا ذلك جيدا، بينما أكد المشرعون في (دستور ١٧٨٩ ) على حرمة وقداسة الملكيات الخاصة وإن الحكومة تدفع نظير استيلائها أو إتلافها لاي ملكية من ملكيات الافراد ٠ ولكن كان لهؤلاء المشرعين رأي مختلف فيما يخص الملكية الفكرية وأشاروا الى توجب تحديدها (بفترة زمنية معينة بعد ذلك تؤول الى المجتمع ولو لم يقم المشرعون بهذه الخطوة لما إنتشرت أعمال شكسبير ووالت دزني بالابداع التي انتشرت بها٠

 

ثقافة الاستئذان

قوانين الملكية الفكرية التي تدعو التنبه الى حدوث تحول جذري في وجهة نظر القانون للخطوط الدقيقة الفاصلة بين (حقوق المستهلكين للأفراد وحقوق الشركات) فيما يتعلق بالمنتجات الفكرية والابداعية وأثرها على خلق ثقافة الابداع العام٠

من كثرة مواجهتنا عبارة (كل الحقوق محفوظة ) أو علامة (دلالة على أن منتجا إبداعيًا يخضع للملكية الفكرية لشخص أو مؤسسة) حتى صرنا نتقبل قوانين الملكية الفكرية كتطور طبيعي لاقتصاديات السوق السائدة حاليا ووفق تلك الابجديات فإن أي منتج سواء ( سواء قطعة قماش أو قطعة موسيقية ) يعتبر ملكية ذات قيمة والمالك يجب أن يتقاضى لقاء استخدام ذلك المنتج أو الحصول على ملكيته٠

انتشرت هذه الافكار ووصلت حدود التفاقم وتم المصادقة عليها في برلمانات بعض الدول تمهيدا لاندماجها في إتفاقية التجارة العالمية ٠ كما جاء في كتاب أستاذ القانون في جامعة (ستانفورد) بالولايات المتحدة ، (لورانس ليسيج ) أن قوانين الملكية الفكرية التي مررت في الولايات المتحدة ومنها للعالم الثالث يشوبها خلط هائل بشكل متعمد تقف وراءها كيانات للحفاظ على مصالحها ٠

وبذلك تعكس آثار سلبية هائلة على المجتمع من زاوية الثقافة والابداع ٠ ومن وجهة نظر (ليسيج) ثمة بعدان متداخلان للاشكالية التي تسببت في قوانين الملكية الفكرية الاخيرة( بعد قانوني وبعد ثقافي وإبداعي )٠

ففي البعد القانوني يرى المؤلف المتخصص في كتابه (ثقافة حرة) أنها المرة الاولى التي تتخلف فيها التشريعات والقوانين عن التعرف والوعي بآفاق تقنية الانترنيت الواعدة ومدى قدرتها على المساهمة في إنتاج ونشر أنواع جديدة من الابداع ٠ لكن بضغط الشركات بدعوة محاربة القرصنة الى إصدار قوانين تقيد ذلك الوسط التقني الهائل وتحد من استخدامه وبذلك تحولت هذه القوانين التي بدأت (عام ١٧١٠ في بريطانيا و ١٧٩٠ في أمريكا) الى قانون يعوق قدرة الفرد على استخدام المنتج الذي اشتراه بالشكل الذي يريده٠

أما المشكلة التي تواجه البعد الثقافي الابداعي لهذه القوانين يرى المؤلف ، أنه هناك دائما ما يطلق عليه (النطاق العام )من الثقافة والابداع ويقصد به مختزن الذاكرة ، الابداع والثقافة التي أنتجتها أمة ما والتي تمثل منجم الافكار والالهام للاجيال الجديدة من المبدعين لكي يأخذوا يبدلوا ويعدلوا لينتجوا لنا إبداعًا جديدا جيلا بعد جيل بحرية مطلقة ، لكن ما يحدث الان غير ذلك بسبب قوانين تتعسف وتتطرف في تحديد الملكية الفكرية وبالتالي تعمل على تآكل مخزون (النطاق العام) بدرجة تحول ثقافة المجتمع من ثقافة حرة الى ثقافة استئذان.

رغم كل قوانين الملكية الفكرية فمخزون (النطاق العام ) لاينضب لكثرة المبدعين الخيرين الذين يهبون إبداعهم ويرون في إبداعاتهم إرثا إنسانيا ، علم ينتفع به وتحقيق ذات يطيب لهم أن تحلق أعمالهم لتوصل رسالتهم الثقافية خدمة للمبدعين والمفكرين والمجتمع ككل لكي لا تتحول الى صفحات مدونة محبوسة في أركان الدواليب والرفوف المهملة٠ أو على صفحات الانترنيت محكومة بقوانين الاستخدام المشروط٠

القرصنة

أما القرصنة (تعد الاستيلاء على الملكية الفكرية لمبدع أو إستخدامه لها بطريقة تحرمه من الربح عن نتاجه الابداعي) وهنا يؤكد المؤلف (لورانس ليسيج) كونه ضد القرصنة، لكنه يعود ليتنبهوا الى قوانين الملكية الفكرية الاخيرة التي تخلط بين أمرين وهو الفرق بين إعادة إنتاج أحد الاعمال الابداعية (كطباعة كتاب جديد مثلا بهدف الاتجار به دون إذن المبدع المؤلف) وبين استلهام فكرة أحد الاعمال الابداعية تطويرها وتحويرها لانتاج عمل إبداعي جديد وهذا مثار الارتباك في قوانين الملكية الفكرية٠

 

من وجهة نظر المؤلف (لورانس ليسيج ) 

الثقافة الحرة : لاتعني إلغاء الملكيات الفكرية ، فالثقافة الحرة شأنها شأن (الاقتصاد الحر) تحترم الملكيات وتنظمها ٠

الثقافة الحرة  هي الوسط التي نمت فيه – عبر التأريخ – العبقريات والمواهب التي صنعت ما نتمتع به من منجزات الحضارة، ويجب المحافظة عليها للاجيال القادمة.

في الثقافة الحرة: الشعارات الحادة غير مقبولة وإلغاء الملكيات الفكرية غير مقبولة ولكن في الوقت نفسه (كل الحقوق محفوظة ) ليس المقصود به أن يسلب مبدع نظير إبداعه وإنما أن تتاح للمستخدم الفرصة للاستفادة من المنتج على الصورة التي تحلو له دون تدخل من صاحب الملكية الفكرية ٠

الثقافة الحرة :  تستعمل تقنية إطلاق الابداع وليس تكبيلها.

الثقافة الحرة : تسمح بقدر من (القرصنة الابداعية إن صح القول ، كما ذكرنا ذلك في ما قام به شكسبير ووالت دزني ، لأن ذلك الابداع هو الذي يضيف للنطاق الابداعي العام ، ويفتح الآفاق أمام مبدعي المستقبل لكي يضيفوا بدورهم ٠

(مثال ) تجربة الصين في إدارة ألملكية الفكرية

بما أن الشباب هم الطاقة المتجددة من الضروري مساعدتهم على إستيعاب الملكية الفكرية ، إحترامها إبداعها و حمايتها ٠ من أجل غرس ثقافة تحظى فيها الملكية الفكرية بالاحترام المرجو ويسمح لها باداء دورها المتمثل في ضمان الابداع والابتكار وتحفيزه٠

لذا تولي إدارة الصين الوطنية لها إهتمام بالغ لزيادة الوعي بهذه الملكية الغاية في الاهمية خاصة في صفوف الشباب ، لهذا أطلقت هذه الادارة أنشطة متنوعة مثل تنظيم الدورات التدريبية بغية تشجيع الشباب على الابتكار بإستقلالية وبالتنسيق مع وزارة التعليم لتوجيه المدارس ودمج تعليم الملكية الفكرية مع تعليم الآداب والاخلاق وإذكاء ثقافة قائمة على مجموعة من المبادئ والمعتقدات.

تم إعداد كتاب خاص بالملكية الفكرية الموجهة خصيصا الى الشباب ويسعى هذا الكتاب الى تغطية مجالات واسعة بالخصوص تتطرق الى اساسيات الملكية الفكرية والبرائات ، حق المؤلف ، العلامات وأشكال الملكية الفكرية التجارية ٠ وسهرت مجموعة اعضاء باحثين و ذوي الاختصاص على تأليف الكتاب مع تقديم التعليقات والمقترحات المفيدة ٠