بغداد والأيام القادمة :- بقلم ( كامل سلمان )

بالرغم من انني أنزعج كثيرا في الخوض بمواضيع لها علاقة بالتحليلات والتوقعات السياسية لإنني أعتقد مقدما بأن السياسة في العصر الحديث خاضعة بشكل مباشر او غير مباشر لقرارت الدوائر المخابراتية وليست للحنكة السياسية ومجلس القيادة او الحكومة كما يعتقد معظم الناس وكما كانت تجري العادة عند سياسيو العهود القديمة ، وهذا فرق كبير لإن الدوائر المخابراتية في اكثر الدول تمثل الجناح الأساس التي تقود السياسة ، فلم تعد الدوائر المخابراتية مجرد مؤسسات امنية عند اغلب الدول بل تعدى مجال عملها اختصاصها الأمني لتشمل شؤون البلاد والعباد من ألفها الى ياءها فأصبح كل شيء خاضع لهذه المؤسسات العملاقة في الحقيقة والتي تمثل عند معظم البلدان الدولة العميقة او القيادة الحقيقية للبلد بل وأكثر من ذلك . فلا نستغرب ان نرى سلوك سياسي متقلب المزاج بحيث يخالف كل التوقعات الذي يذهب اليه المحلل السياسي مهما كان عمقه التحليلي وعندما نقول الدوائر المخابراتية فهنا تصبح الساحة اكثر استجابة لمن هو اذكى وادهى واكثرهم استيعابا لهذا المفهوم واشدهم شكيمة و أقلهم عطفا ، اما الرهان على الاقل ذكاءا واقل تجربة وخبرة لهذا المفهوم فهذا رهان خاسر . الحالة العراقية تنقاد بشكل مباشر لهذه الدوائر سوا أكانت اقليمية او دولية . فكل كتلة سياسية عراقية واقعا هي صورة من صور جهة مخابراتية تتحكم بها عن بعد بشكل ارادي او لا ارادي . ولايمكن اعفاء اية كتلة من هذه الرؤية ، ولكي نقترب أكثر من الواقع حتى يتبين لنا الخيط الابيض من الخيط الاسود ، فلنأخذ صورة جانبية للواقع السياسي العراقي . احزاب سياسية لها مليشيات ، وهل سمعتم من قبل في بلد ديمقراطي متعدد الأشكال والالوان والأطياف والديانات والمذاهب والقوميات لكل حزب مليشيا خاصة به ، وللذين لهم إطلاع على طبيعة عمل المليشيات والمنظمات الارهابية هو ان قادة تلك المليشيات يعملون على انتزاع الرحمة من قلوب اتباعهم فيتم مسخهم الى وحوش ضارية مفترسة تستطيع ان تقتل وتعذب وتنكل بالضحية ، ولا يوجد قائد مليشياوي يستطيع فعل ذلك الا ويكون هو النموذج الاول لأتباعه ، فهو الوحش المفترس الضاري وهو من يخرج امام وسائل الاعلام ليتحدث عن الرحمة وعن حقوق الإنسان والمظلومية واحيانا مع ابتسامة عريضة فهذه الاستعراضات هي جزء من السيناريو المفروض عليه وليس باختياراته . فماذا أتأمل من شخص عديم الرحمة وعديم الضمير وعديم الإنسانية ان يقدم لنا عندما يتسلم زمام امور البلد ؟ ماذا أتأمل منه وهو ينفذ اجندة مرسومة له مسبقا ؟ ماذا أتأمل منه وهو لم ينال الحد الادنى من حب الناس اليه ؟ ماذا أتأمل منه وهو عديم الخبرة السياسية وخبير في الفتنة ؟ . .. انا سأرسمها مقدما ماذا يقدم قائد المليشيا للبلد ، سيجعل جميع القوى الأمنية تحت وصاية مليشياته ، سيعمل على تقوية واشباع نفسه واتباعه الى مستوى التخمة وبنفس الوقت يعمل على اضعاف شعبه الى مستوى الحضيض كي يضمن بقاءه في السلطة اطول مدة زمنية ممكنة وقد يتخيل هو بقاءه للأبد حسب السيناريو المرسوم له ولكنه لا يدري كيف تفكر تلك الدوائر التي دفعت به للواجهة ، اما الشعب فلا عزاء له لأن الشعب سيصبح تحصيل حاصل في حسابات القائد .
التخلي عن المليشيات حلم يستحيل التحقيق بالنسبة لقادة تلك المليشيات مهما كلف الامر فهو الخط الاحمر الذي لا يجرأ احد ذكره او الخوض فيه فهو سر البقاء . لو أنك حاولت ان تتخيل بغداد بلا مليشيات فهذا يعني عليك ان تتخيل بغداد بلا احزاب دينية ، بغداد بلا سلطة رجال دين ، بغداد بلا سلطة العشائر ، بغداد بلا طائفية ، بغداد بلا ظلام ، بغداد بلا فساد ، بغداد بلا فقر … أنظر لكل هذه المآسي كلها تزول بمجرد ازالة المليشيات ، لهذا السبب ان فكرة ازالة المليشيات يبقى في خانة الاحلام .
إذا كيف ستكون بغداد في قادم الايام تحت هذه المعادلة مع فقدان بعض قادة المليشيات مكانتهم التي رسموها وعملوا اياما وليالي لتثبيتها ، اكيد ستكون كما يلي ، افتعال للأزمات وحروب اهلية وداعش جديد وخلق اعداء جدد حتى وان كان الاعداء من خارج الحدود . فعلى المتفائلين اعادة حساباتهم لئلا يصابوا بخيبة امل.
العراق سيبقى في النفق المظلم وفي نهاية النفق بصيص ضوء خافت ، وهذا بصيص الضوء هو صوت الشعب وصرخة الشعب ، ولكن بعد سنين عجاف وهذا هو الثمن لبداية التخلص من السلاح المنفلت في نهاية المطاف وهذا الشيء لابد ان يحصل لأنه لايوجد شيء في الحياة اسمه تشاؤم الى الابد . واما معاناة العقدين الماضيين ستفرز كل ماحملت في الايام القادمة بمنعطف يتمثل بسقوط جزء مهم من هذه الغيمة الداكنة . قد يكون ما شاهدناه بعد ٢٠٠٣ م عبارة عن مسرحية مرعبة ولكن عندما تكون النهاية بهذا الشكل فإنها ستكون من عجائب الدنيا السبع . نعم حان الوقت لتتساقط قطع لعبة الدومينو بالتتابع مثلما جئتمونا اول مرة في منظر دراماتيكي مرعب وفي داخله فرحة للأمل الذي غاب عن التصور لسنين طويلة وكأن القدر يخبرنا من جديد ان الدماء البريئة لها الكلمة النهائية في هذا السيناريو ، فهل من مدكر .
عندما نشاهد فلما سينمائيا بمجرد ان نندمج مع احداث الفلم حتى يبدأ عندنا التشوق الى النهاية كيف ستكون وكيف ستنتهي احداث هذا الفلم او المسلسل ، هذا حال العراق منذ ان تفتحت عيوننا لهذه الدنيا دائما نحن في وضع نترقب فيه كيف ستكون النهاية ، وللأسف لو راجعنا التاريخ سوف لن نجد نهاية مشرفة لأي حالة سياسية عاشها البلد مع الواقع السياسي المزري الذي يمر على هذا البلد لأي حقبة زمنية ، وقد يكون هذا هو السر وراء التشاؤم الذي يشعر به الإنسان العراقي ، وبالمناسبة نحن الشعب الوحيد على وجه الارض نعاني بهذه القسوة من صراع الكراسي وندفع ثمنا لهذه الصراعات دماء نازفة لا تتوقف الا في فترات الاستراحة بعد ان تستهلك القوى المتصارعة طاقاتها او ان احدهم ينتصر فيذهب الخاسر ليستعين بالاعداء وليعرض عليهم مصالح البلد للتنازل لأجل الحصول على الدعم في اسقاط العدو اللدود الذي هو في الحقيقة اخ وشريك في الوطن !