ايران : معادلة الدين ، الفوضى والتقسيم- نجاح محمد علي

كاتب وباحث متخصص في الشؤون الايرانية والاقليمية
تشهد الجمهورية الاسلامية في إيران ، موجة مدروسة غير عفوية من الاضطرابات الممنهجة وما يطلق عليها في وسائل الاعلام المعادية لايران بـ ثورة جديدة. لوحظ تدخل كبير من قبل الغرب ، ودعوات من قوى معروفة بعدائها لمحور المقاومة عموماً والقضية الفلسطينة خصوصاً للإطاحة بجمهورية إيران الإسلامية، على الرغم من علمهم اليقيني أن ذلك يعني مستقبلًا فوضويًا وكارثيًا لإيران والشرق الأوسط ، مثل ما حدث في سوريا والعراق وليبيا .
تصورًا لمثل هذا المستقبل الرهيب ، يقوم بعض العقلاء من غير المؤيدين للجمهورية الإسلامية ، بإقناع الحكومات الغربية بمحاولة إيجاد طريقة للتعاون مع ايران بدلاً من مساعدة مثيري الشغب ، إذا كان الغرب لا يريد موجات جديدة من المهاجرين الذي تسببت الحروبُ الداخلية في المنطقة في تدفقهم .
يبدو أنهم نجحوا -حتى الآن- في حملتهم ، لأن معظم السياسيين والصحفيين في أوروبا وأمريكا الشمالية الذين دأبوا على انتقاد نظام الجمهورية الإسلامية، لكن، سياساتهم خلال العقود الأربعة الماضية وموقفهم من مظاهرات الشغب التي شهدتها إيران خلال هذه الفترة ، أثبتت أن السياسيين الغربيين قد لا يحبون هذا النظام، ومع ذلك ، فإنهم يخشون أن تكون حالة ما بعد الجمهورية الإسلامية فوضوية وكارثية .
صعود داعش في المنطقة ، وموجة ضخمة من المهاجرين نحو دول الاتحاد الأوروبي. قد يكون هذا أحد أسباب عدم دعم بعض سياسيي الغرب والصحفيين البارزين لتغيير النظام في إيران . في الوقت نفسه ، يواصل هؤلاء التنديد بما يصفونها بانتهاكات حقوق الإنسان والقمع والأقليات والتمييز بين الجنسين في ايران.
قد يعتقد المرء أن هذا قلق مشروع ، خاصة فيما يتعلق بما حدث في سوريا والعراق وليبيا، وهي كلها من أفعال الغرب . ولكن هذا يشبه رؤية جميع الحكومات والمجتمعات والأمم والدول الغربية على أنها واحدة ، دون أي اختلاف أو الحاجة إلى تحليل كل منها على حدة بناءً على الحقائق الملموسة والوضع الاجتماعي والتاريخي والسياسي والعرقي والفعلي على الأرض ! . هذا اعتقاد سطحي وخاطئ.
كان هناك العديد من الفاعلين واللاعبين والحقائق التاريخية والمواقف الجيوسياسية والتركيبة السكانية وراء الوضع الذي شهدته سوريا وليبيا والعراق ، وأبرزها الدين والأخلاق والقضايا الوطنية ، والتي لا تنطبق على إيران بنفس الطريقة . في سوريا والعراق وليبيا جماعات عرقية مسلحة تقاتل ضد الحكومة المركزية ، وأقليات تحاول الانفصال ، وجماعات دينية شنت حروباً طائفية . لكن هل ينطبق ذلك على إيران؟!
في نظر الغرب الذي لا يعرف المجتمع الإيراني جيدًا ، تبدو إيران كمجتمع مسلم ومجتمع ديني فيه قوميات يمكنها أن تنقسم يوماً . هذه الحقيقة برأي الغرب يمكن أن تجعل إيران تبدو مثل العراق وليبيا وسوريا . لكن هذه الصورة تم إنشاؤها بناءً على تفسير خاطيء لوجود الدين في ايران ، وأيديولوجية النظام غير الطائفية وفي جغرافيا الشرق الأوسط . ويعتقد الداعون الى تغيير النظام في ايران أيضاً أن المجتمع الإيراني شهد تحولًا سريعًا وجذريًا خلال المائة عام الماضية ، وهو ليس نفس المجتمع الذي صنع ثورة 1979 بالحشود البشرية وبقيادة مرجعية دينية ثورية غير تقليدية .
غير أن الفرق الكبير بين ايران ودول مثل ليبيا وسوريا وحتى العراق ، يكمن في الدور الذي يلعبه الدين والجماعات واللاعبون الدينيون في المجتمع . في ايران ، يلعب علماء الدين البارزون ، دورًا مهمًا في المجتمع. يمكنهم استدعاء ملايين الأشخاص للتعبئة أو الدفاع عن الدولة أو مهاجمتها ، أو التصويت لصالح هذا الحزب السياسي أو ذاك. بامكان المرجعيات الدينية التدخل في الانتخابات وغيرها من. الأنشطة السياسية والاجتماعية . و حتى بعد رحيل آية الله الإمام الخميني ، لم يفقد علماء الدين في إيران مكانتهم ، من هنا يعمل الغرب على نطاق واسع ، على إضعاف دورهم من خلال إضعاف الدين.
لذلك ، سعى الغرب وآلته الإعلامية ، الى خفض تأثير الخطاب الديني ونفوذ علماء الدين في المجتمع الإيراني لدرجة أن شخصيات نافذة في حكومة تعتمد الدين أساساً في منهاجها مثل الجمهورية الإسلامية ، اعتمدت في فترات سابقة على القيم الوطنية والديمقراطية في دعايتها لتعبئة الناس وتنظيم حملات باستخدام شخصيات وشعارات تأريخية وقومية أكثر من تلك الدينية .
مقارنة بثلاثة أو أربعة عقود مضت ، ارتفعت أصوات في ايران عملت على تحويل المجتمع الديني الذي أطاح بالشاه في عام 1979، الى مجتمع مختلف عن ذاك الذي أسقط الشاه وصوّت للجمهورية الاسلامية.
في واقع الأمر ، الجمهورية الإسلامية ليست مثل غيرها، فهي لاتمثل طائفة دينية معينة أو أسرة حاكمة . وهي ليست نظاماً تم إنشاؤه لدعم أصحاب رؤوس الأموال ، ولغسل الأموال ، و التغطية على مافيا العصابات ، على الرغم من أن الدعاية الغربية تريدها أن تبدو وكأنها تحكم باسم الإسلام الشيعي كدولة طائفية أو فارسية لتأجيج الصراعات الدينية والعرقية . فالمجتمع الإيراني اليوم هو من أكثر المجتمعات قدرة على التعايش مع باقي الأديان والمذاهب ، ويستوعب القوميات والأقليات ويدافع عن حقوقهم . يمكن لصحافي غربي منصف العيش في إيران أو زيارتها لفترة وجيزة ، أن يجعل هذه الحقيقة مرئية .
تعكس نتائج استطلاع أجري بعنوان “مواقف الإيرانيين من الدين” في الفترة من 6 إلى 21 حزيران (يونيو) 2020 ، لصالح معارضين للجمهورية الاسلامية ، وشمل أكثر من 50 ألف مستجيب ، يعيش حوالي 90٪ منهم في إيران، أن الدين يلعب دورًا كبيراً في حياة الإيرانيين.
اهتم الاستطلاع بآراء الإيرانيين المتعلمين الذين تزيد أعمارهم عن 19 عامًا ، والذين يشكلون 85٪ من السكان البالغين في إيران. و يمكن تعميم النتائج على باقي السكان بمستوى مصداقية 95٪ وفترات مصداقية 5٪.كان الاستطلاع يهدف إلى قياس مواقف الإيرانيين وتوثيقها تجاه الدين والمفاهيم السياسية ذات الصلة .
وفقًا للاستطلاع ، فإن 78٪ من الإيرانيين يؤمنون بالله ، و يؤمنون بالحياة بعد الموت ، ويؤمنون بالجنة والنار ، و يؤمنون بقدوم المنقذ المهدي المنتظر . لهذا يمكن القول إنه بالنظر إلى شعارات المتظاهرين الأخيرة التي تتناقض تماماً مع توجهات غالبية الرأي العام الايراني، فإن اللعب على ورقة جر ايران الى الفوضى والتقسيم ليس إلا كالنقش على الماء .
خلق الفوضى والحرب الطائفية في سوريا (والعراق) وليبيا ، اعتمد على تحريك القضايا القومية والعرقية. يجري تحريك هذه القضايا في إيران بواسطة الدعاية الصهيو أمريكي المتحالفة مع دول محددة في المنطقة ، لكن الفوضى الايرانية إن حصلت بالفعل فستحدد العالم بالآثار الكارثية.
بسبب نقص المعرفة بتاريخ إيران ومجتمعها وتركيبتها وسياساتها وتمسك الشعب بالدين ، تعمل غرف عمليات سرية على ارتكاب خطأ تطبيق سيناريو سوريا (والعراق)، في ايران ، وتوقع نفس النتائج أي الحرب الداخلية والفوضى .
ايران تشكلت حدودها منذ آلاف السنين ، وعاشت مختلف الجماعات العرقية فيها معًا في سلام ووئام لعدة قرون. لم يتم وضع الآذريين والأكراد والعرب والتركمان والبلوش وغيرهم من الإيرانيين في ايران بموجب اتفاقيات سرية كاتفاقية سايكس بيكو وبسبب مؤامرات سياسية ؛ في الواقع ، لقد عاش أبناء القوميات في ايران معًا لقرون ، ودافعوا عن الأمة الايرانية الواحدة ، واتحدوا في الحرب ضد الأعداء الأجانب وبرز ذلك واضحاً خلال الحرب الطويلة مع الدولة العثمانية وأثناء ما سمي الحرب العراقية الايرانية ، وأنشأوا نظاما وصيغاً للتعايش السلمي تحت مظلة الدين .
إن الأكراد ، والأتراك ، والبلوش ، وجميع القوميات الأخرى من بين القوميات القديمة في إيران ، وقد تم ذكرهم وتحيتهم في الأدب الفارسي والتاريخ لدورهم وشجاعتهم ، متمسكون بالدين، ومن هنا يجري العمل على إضعاف هذا الرابط القومي ليأتي بعده الطوفان.
خلاصة الأمر أن ايران إذا فقدت ايمانها وتمسكها بالدين ، ستنقسم الى دويلات . ستكون إيران ساحة حرب أهلية بين القوميات الست التي تتشكل منها البلاد لو خسرت الدين .
و تعد الاضطرابات الأخيرة دليلاً عملياً على أن القوى المعادية للجمهورية الاسلامية في الداخل والخارج ، هدفها تقسيم ايران . خرج المتظاهرون بحجة التنديد بوفاة مهسا أميري بعد استدعائها من قبل شرطة الآداب ، القضية التي ثبت تورط أجهزة مخابرات دولية واقليمية في إثارتها بهذه الطريقة . دعت الشعارات التي أطلقت، إلى تغيير النظام الاسلامي ، و طالبت مجموعات كردية مسلحة قادت الاحتجاجات من الخارج بالانفصال ، ورددت شعارات بهذا الخصوص .
و يجب القول إن هدف المظاهرات الأخيرة ، هو الترويج لخطاب الكراهية ، والتخطيط لقيام حرب داخلية وخلق الفوضى ، وتهيئة بعض الشروط المسبقة المهمة للتقسيم و التي لا يوجد أي منها الآن في إيران.
ما يفعله أعداء فلسطين التي وضعت الجمهورية الاسلامية تحريرها على رأس أهدافها ،وآلتهم الاعلامية ، هو التأثير على الجيل الجديد من الإيرانيين لكي يبتعد عن التدين الذي كان عليه قبل أكثر من أربعين عامًا عندما اندلعت ثورة 1979 ، فالدين في ايران هو الوحيد الذي جعل القوميات الإيرانية تتعايش وترفض الانفصال . اللوبي المعادي لنظام الجمهورية الإسلامية في وسائل الإعلام الغربية يساهم في التشجيع على ايجاد الحرب الأهلية والفوضى في إيران .
لقد استخدموا كل ذريعة لتدمير سوريا وليبيا ، و العراق، ويريدون أن يفعلوا ذلك في ايران .
    •    نجاح محمد علي هو صحفي استقصائي مستقل من العراق يكتب عن قضايا السياسة والمجتمع وحقوق الإنسان والأمن والأقليات. ظهرت أعماله في BBC العربي والفارسي ، و RT Arabic ، وقناة العربية ، وقناة الجزيرة ، و رأي اليوم ، و القدس العربي ، و انترناشيونال بوليسي دايجست ، من بين العديد من المنافذ الإعلامية الأخرى.خبير في الشؤون الايرانية والإقليميةلمتابعته على تويتر @najahmalii

One Comment on “ايران : معادلة الدين ، الفوضى والتقسيم- نجاح محمد علي”

  1. نجاح محمد علي الاسم المستعار لهذا الكاتب المذكور في صدر مقاله.كنا قد انتقدناه عدة مرات بمقالات مطولة 1- تحت عنوان تصحيح وتوضيح عن ما قاله الأستاذ نجاح محمد علي في قناة العهد. 2- ما هكذا تورد يا نجاح الإبل؟. 3- قراءة في مقال المدعو نجاح محمد علي. نأمل منه أن يقرأ مقالاتي ويرد أو يوضح ما في جعبته عن انتقاداتي له. تحياتي للجميع

Comments are closed.